إسلام ويب

تفسير سورة الأنبياء [42-48]للشيخ : المنتصر الكتاني

  •  التفريغ النصي الكامل
  • يمتن الله على عباده بأنه الذي يحفظهم بالليل والنهار، ويذكر الكفار بأن آلهتهم لا تستطيع ذلك، ثم يذكر تعالى أنه سينقص أرض الكفر من أطرافها بدخول الإسلام فيها، ويوم القيامة توضع الموازين فتوزن أعمال العباد.

    1.   

    تفسير قوله تعالى:(قل من يكلؤكم بالليل والنهار من الرحمن ...)

    قال تعالى: قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ [الأنبياء:42].

    أي: قل يا محمد لهؤلاء الكفرة الجاحدين المستهزئين: من يكلؤكم بالليل من القوارع ومن الصواعق، ومن العذاب وأنتم نائمون؟ ومن يكلؤكم بالنهار ويحفظكم من العذاب والنقمة؟ وهأنتم تأكلون وتشربون وتتمتعون وتمرحون فمن غير الله يطعمكم ذلك؟ فقل لهؤلاء أن يراجعوا أنفسهم وعقولهم ويؤمنوا بربهم، ويقبلوا من نبيهم، فإن لم يفعلوا فالعذاب أقرب لأحدهم من شراك نعله.

    قوله: قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ [الأنبياء:42] أي: من الذي يحفظكم؟ وفسر أيضاً: من الذي يحفظكم ويكلؤكم بالليل والنهار دون الرحمن؟ أآلهتكم تستطيع ذلك وهي أعجز من أن تضر نفسها أو تنفعها فضلاً على أن تضر غيرها، وتنفعها؟!

    قوله: قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ [الأنبياء:42] أي: أضرب عن قوم سابق، ومفاوضة هؤلاء ومحاورتهم ومجادلتهم دع عنك هذا فهم لم يؤمنوا، ولعل المستهزئين منهم أن يؤمنوا ويقدر الله عليهم خيراً.

    قوله: بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ [الأنبياء:42] أي: عن توحيده وعبادته وعن كتابه المنزل ونبيه المرسل، فهؤلاء قد أصروا على الكفران والجحود، فدعهم وما اختاروا أنفسهم له، وليتربصوا، فسينظرون من هو على الحق، ومن هو على الباطل، ومن المتقي الفاجر، ومن الذي ستناله رحمة ربه ومن سيناله عذاب ربه.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (أم لهم آلهة تمنعهم من دوننا...)

    قال تعالى: أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا [الأنبياء:43] أي: هؤلاء الذين ظلموا وتجبروا وعتوا، وظنوا أن عندهم من ينصرهم دون الله.

    أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا [الأنبياء:43] أهذه الأصنام التي ألهوها منعتهم من دوننا، ومن عقوبتنا، ومن عذابنا وانتقامنا؟ أهذه آلهة حق يا أيها العقلاء؟

    فنبينا عليه الصلاة والسلام بما أرسل به من كتاب مبين يدعو إلى الحق، ويعظ هؤلاء بأمر الله ويبشرهم وينذرهم، ويخاطبهم بلغة العقول لعلهم يعقلون أو يفهمون.

    قال تعالى: أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ [الأنبياء:43].

    فهذه الآلهة التي اتخذتموها من دون الله ظناً على أن تنتظروا منها نفعاً أو ضراً، أو حماية أو دفعاً، هي تعجز عن نفسها فضلاً عن غيرها.

    قوله: وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ [الأنبياء:43] أي: لا يصحبون منا بخير، ولا يصحبون منا بما يدفع عنهم ضرهم على كفرهم وشركهم، فهم في العذاب خالدون -جزاءً وفاقاً- لشركهم بالله، وتكذيبهم لرسل الله صلوات الله وسلامه عليهم.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (بل متعنا هؤلاء وآباءهم حتى طال عليهم العمر...)

    معنى قوله تعالى: (بل متعنا هؤلاء وآباءهم ...)

    قال تعالى: بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلاءِ وَآبَاءَهُمْ [الأنبياء:44].

    أي: متعنا هؤلاء وآباءهم حتى طال عليهم العمر فاغتروا بفضل الله، وبما أكرمهم الله به من تمتع بالشباب والصحة، وبالمال والجاه والسلطان، مع طول الأعمار التي عمروها، فظنوا بذلك أنهم قد نالوا حقاً يجب لهم بما صنعوه وعملوه، وهكذا كل إنسان كافر يضحك على نفسه ويغتر بما صدر عنه، إن صنع حديدة وطار بها، أو حديدة وطرق بها، أو شيئاً انتقاه أو كلام لفقه يعد بذلك أن له الحق على الناس، وأنه أصبح متحضراً وكبيراً، وأنه أصبح يجب أن يتبع وهو على كفره وشركه، يريد أن يقود الناس على ذلك، وأن يخضعهم لذلك، وهكذا نتيجة ما متع به من مال وجاه وحطام، ومن عتاد وقوة، وصحة ومال.

    يقول تعالى: هؤلاء الذين زادوا كفراً وعناداً، لم يصنعوا ذلك لأنفسهم نتيجة ما أدركوه، ولكننا نحن الذين أمهلناهم وأنظرناهم، وبعثنا لهم رسلاً فأطلنا لهم الأعمار، فما اتخذوا ذلك إلا غروراً، وما اتخذوا ذلك إلا زيادة في الجحود والكفران، ومتعوا حتى نسوا الله فنسيهم، ومتعوا بكل الأعمال حتى نسوا الآخرة.

    بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلاءِ وَآبَاءَهُمْ [الأنبياء:44] أي: هؤلاء الذين يحتجون بآبائهم وقد كانوا كفاراً مثلهم، هؤلاء متعناهم بالقوة وطول الأعمار، ومتعناهم بما يعيش به الصحيح القوي الغني، فهم بذلك زادوا اغتراراً وباطلاً وكفراناً، فقال تعالى: حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ [الأنبياء:44].

    متعوا إلى أن طال بهم العمر أزماناً، وكانوا يعيشون مئات السنين.

    وإلى الآن الخطاب للكافرين السابقين، وهو خطاب لكل مؤمن وكافر، المؤمن بشر بالجنة والنعيم، والكافر أنذر بعذاب الله والجحيم، فمن طال عمره وصح جسمه وكثر ماله، ومكنه الله في الأرض فما زاده ذلك إلا غروراً وطغياناً، لو فكر قليلاً لعلم أنه لم يشتر الحياة، فالحياة لا تباع، ومن مات لو صرف عليه كل ما على الأرض ليعود للحياة فإنه لا يعطي الحياة إلا واهبها، ولا يزيلها إلا واهبها، فالأعمار يمنحها الله، فإذا أخذها فلا يستطيع أحد في الكون أن يعود بها.

    معنى قوله تعالى: (أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها)

    قال تعالى: أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا [الأنبياء:44].

    فسرت هذه الجملة بتفاسير أصحها ما تدل عليه الفقرة الخاتمة من الآية: أنه نقص الله أطراف أرض الكفر من الكفر، والآية نزلت والدنيا كلها كافرة، والإسلام لا يزال مضطهداً في مكة، والعالم كله كافر إلا من آمن مع رسول الله عليه الصلاة والسلام ممن لا يتجاوزون عدد الأصابع، وهكذا أثر هذا الكفر في الأرض كلها.

    وقد استمر وطال ما نقص الله أطراف الأرض عندما أكرم نبيه وأتباعه، بأن خرجوا من الجزيرة العربية وقد هداهم الله على أيديهم، فخرجوا دعاة إلى الله، وهداة للناس، وخرجوا فاتحين العالم، وبعد أن ذهب رسول الله صلوات الله عليه إلى الرفيق الأعلى ببضع سنوات في أيام عمر الفاروق رضوان الله عليه، خرج الإسلام وانتشر، وأنقص الله أرض الكفار فضمها إلى المسلمين، فنقص من أرض الكفر الشام، وضمها إلى أرض المسلمين، وانتقصت أرض العراق ومصر، والمغرب، وانتقصت أرض فارس، وهكذا تقلص العالم الكافر، وتقلصت أراضي الكفار بما زاد الله ذلك للعالم الإسلامي.

    أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا [الأنبياء:44] فأخذ من أطرافها يوم الفتح، يوم الدعوة والهداية مما قام به الأصحاب مبتدئاً بذلك، والذي ابتدأ ذلك رسول الله عليه الصلاة والسلام في غزوة تبوك عندما ذهب بجيوشه في أيام حارة قائظة يقاتل الروم إلى حدود الشام، ولكنهم لم يحضروا، فأسروا من أسروا، وغنموا ما غنموا.

    ثم جاء أبو بكر بعد أن رتق الفتق، وحارب المرتدين، وقاتل مانعي الزكاة، وجند الجنود، وجيش الجيوش، وذهب بها إلى أرض الروم، أرض الشام إذ ذاك، ولكن أبا بكر اختاره الله إليه وجيوشه على أبواب دمشق من أرض الشام، فجاء بعد ذلك الفاروق رضوان الله عليه فذهب بجيوشه يزحف بها فاتحاً، ومظفراً ومنصوراً.. إلى أن انتقص الله من أرض الكفر ما بشر الله به في هذه الآية الكريمة، وأصبحت الشام من ذلك اليوم أرض إسلام كالعراق، ومصر وأرض فارس والمغرب.

    انتشر الإسلام حتى وصل إلى الصين شرقاً، وإلى قرب عاصمة فرنسا باريس بمائة كيلو متر غرباً، وأصبحت أسبانيا والبرتغال وأجزاء كبيرة من أرض فرنسا أرضاً إسلامية سميت الأندلس وعاشت ثمانمائة عام مسلمة عربية لا تعرف إلا الإسلام وإمامة محمد صلوات الله وسلامه عليه، وما غدت الأمور تتراجع إلا عندما أخذ الناس في الردة والعصيان، فعوقبوا بدمار ملكهم، وسلب دولتهم، ومع ذلك لا تزال أرض الإسلام ممتدة شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً بما تعد ملياراً من الخلق، حتى مع هذا العصر العصيب عصر الظلمات يأبى الله إلا أن ينصر دينه.

    هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [التوبة:33].

    هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا [الفتح:28].

    ولذلك لا نزال ننتظر وعد الله، ونصر الله بانتشار الإسلام في القارات الخمس، ذاك وعد الله الحق، الذي نطق به كتابه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

    قال تعالى: أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ [الأنبياء:44] وذكر الغلبة هي خاتم الآية دليل على أن هذا هو المعنى.

    أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ [الأنبياء:44] استفهام إنكاري تقريري توبيخي للكافرين، أي: ليسوا الغالبين، بل هم المغلوبون المقهورون، وهم الأذلاء والعبيد، وقد فعل جل جلاله، فنصر عبده، وأنجز وعده، وهزم الأحزاب وحده، ولا نزال ننتظر نصراً ووعداً للمسلمين في هذا العصر كما أكرم المسلمون في العصور الماضية.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (قل إنما أنذركم بالوحي...)

    قال تعالى: قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنذَرُونَ [الأنبياء:45].

    قل يا محمد لهؤلاء: إنما أنذركم بالوحي وأتهددكم وأتوعدكم وأخيفكم. وهو لا يفعل ذلك من قبل نفسه، ولكن بالوحي من الله، وبرسالة الله، وبأمر الله في كتابه، أي فقد أوحى إلي وأمرني أن أبلغكم وأدعوكم بالوحي وأنذركم به، فإن خالفتموني فقد خالفتم ربكم، وإن عصيتموني فقد عصيتم ربكم، والله جل جلاله لا يهمل، ولكن يمهل، وإذا أخذ الظالم لا يفلته جل جلاله.

    قل يا محمد: إِنَّمَا أُنذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ [الأنبياء:45] لا أنذركم إلا بما يوحى إلي من كتاب متلو مقروء، أو المعاني التي ينطق بها وهي السنة المطهرة.

    وقد قال الله عن نبيه: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم:3-4] أي: لا ينطق نبينا بما ينطق به من سنته، من فعل أو قول، أو إقرار إلا بوحي الرب بياناً وتفسيراً للكتاب الكريم بالوحي العظيم.

    قال تعالى: قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنذَرُونَ [الأنبياء:45].

    يصف الله هؤلاء الكفار بأنهم صم، وهو جمع أصم، فلهم آذان لا يسمعون بها، أي: مع وجودها، وهم يسمعون الصوت والقول، ولكنهم لا يفقهون، قلوبهم عليها الران، وأسماعهم لا تسمع الخير، ولا تعيه، ولا تتفهمه، وهم بذلك كمن أعطي سمعاً وفقد نتيجته، وفقد عمله، فهو أصم.

    قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ [الأنبياء:45] يا محمد! عندما تدعو العباد إلى ربك.. فإن الصم لا يسمعون دعاءك، فعندما تناديهم وتقول: يا أيها الناس! تكون آذانهم صماً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ [البقرة:171].

    آذانهم لا تسمع، وعيونهم لا تبصر، وقلوبهم لا تفقه، فهم كالأنعام بل هم أضل.

    قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنذَرُونَ [الأنبياء:45] أي: إذا ما أنذرتهم ودعوتهم لله، وناديتهم لعبادة الله وتوحيده، وأنذرتهم جهنم والخلود فيها، واللعنة الدائمة السرمدية، فهم في هذه الحالة يصمون آذانهم عن السماع والوحي والفهم، ولكن النبي عليه الصلاة والسلام مكلف بالبلاغ فيبقى يبلغ إلى لقاء ربه: فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا [يونس:108].

    هؤلاء مع وعيد الله لهم، ونذارة محمد صلى الله عليه وسلم لهم لو مستهم (نفحة) أي: قدر قريب لا يكاد يذكر (من عذاب الله) كما لو أصيبوا بمرض، أو طاعون، أو حمى، فضلاً عن عذاب الله، وليس ذلك إلا نفحة من نفحات العذاب لا تكاد تذكر ولا ينتبه لها؛ لو مسهم ذلك لرأيتهم يجأرون ويصيحون، وينادون: يا ويلهم! وتجدهم معترفين عندما يصيبهم قدر من العذاب: لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ [الأنبياء:46] ولوجدتهم يصيحون ويجأرون، ويرفعون أصواتهم معترفين بأنهم ظالمون مشركون، ينادون بالويل والثبور، والويل: نهر في جهنم من قيح أهل النار ودمائهم، فهم ينادون ويلهم ونارهم، وينادون سعيرهم، كلمة يلهمونها وتكون جزاءً وفاقاً لأعمالهم: وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ [الأنبياء:46].

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ونضع الموازين القسط ليوم القيامة...)

    قال تعالى: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ [الأنبياء:47].

    يخبر تعالى عن هؤلاء أنهم مهما عاشوا فسيموتون، ومهما طال موتهم فسيحيون، وسيأتوننا للعرض على الله للحساب والعقاب.

    قال تعالى: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [الأنبياء:47] يعطينا صورة مشخصة كأننا ننظر إليها، أي: عاش الناس، ثم ماتوا وبعثوا، ووضعت الموازين لوزن أعمال العباد من خير أو شر، هذه الموازين التي تتصف بالعدل المطلق، لا تزاد فيها سيئة في ذنوب مسيء، ولا ينقص من حسنته شيء، بل قد تزيد الحسنات وتنقص السيئات.

    المعروف أن الميزان هو ميزان واحد، ولكن الله قال: (موازين)، فقد يكون المعنى: أن عند كل أمة ميزان، وقد يكون أطلق (موازين) باعتبار زنة أعمال الخلق كلهم، على أن الله قال هنا: الموازين، وإذا ذكر في السنة الميزان، فهو الميزان الأجمع الأكبر الأشمل.

    قال تعالى: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ [الأنبياء:47] حاول بعض المفسرين أن يقول: الموازين إنما هي مثل في العدل، وعدم النقص، بل الزيادة في الخير، فلا موازين هناك، وروي هذا عن الضحاك وعن جماعة من كبار المفسرين، ولكن هذه زلة من هؤلاء؛ لأن الميزان ثابت بالنص في سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام، تفسيراً لما ورد من ذلك في كتاب الله، وإلغاء ذلك وجعله مثلاً لا يعني إلا النفي لما قد ثبت، وقد يأتي ضال آخر إلى الأشياء التي ذكرت ويقول: كلها أمثال، وقد حدث ذلك من كثير من المبتدعين.

    فالميزان ميزان، يسع السموات والأرض، له لسان، وله كفتان ترجح إحداهما بالخير أو بالشر.

    وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ [الأنبياء:47] أي: موازين العدل والحق والإنصاف ليوم القيامة، يوضع ذلك يوم العرض على الله، وجاء في الموازين حديث في صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه عليه الصلاة والسلام قال: (كلمتان ثقيلتان في الميزان، خفيفتان على اللسان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم).

    وقد ورد في الصحاح عن جماعة من الصحابة أن مسلماً تعرض أعماله على الميزان في آخر الناس، وإذا بسيئاته تكتب في تسعة وتسعين سجلاً، وتوضع في الميزان، فتطيش كفة الحسنات، وتثقل كفة السيئات، فيؤخذ به إلى جهنم، فينادي مناد من الملائكة بأمر الرب جل جلاله: أرجعوه! أرجعوه! فيرجع، فيقول الله له: لا ظلم اليوم! إن لك حسنة لم تؤزن بعد، فيؤتى بالبطاقة فيراها هذا المحاسب، فيقول: يا رب! ماذا عسى أن تكون هذه البطاقة أمام هذه التسعة والتسعين من سجلات السوء؟ فتوضع البطاقة في كفه الحسنات وإذا بها تسقط كفة السيئات، وإذا به يقال: خذوه إلى الجنة، وفي البطاقة مكتوب: لا إله إلا الله محمد رسول الله.

    والحديث مشهور بحديث البطاقة، وهذه الكلمة: أشهد أن لا إله إلا الله التي قال عنها النبي عليه الصلاة والسلام: (أفضل ما قلته أنا والنبيون قبلي لا إله إلا الله) لا توضع في كفة ولا ميزان إلا ويثقل بها الميزان، وتخف السيئات، حتى ولو كانت تسعة وتسعين سجلاً.

    يقول تعالى: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا [الأنبياء:47] (شيئاً) يطلق على أقل شيء حتى الذرة.

    ثم قال تعالى: وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا [الأنبياء:47].

    وإن كان هذا الشيء يزن حبة الخردل، وحبة الخردل المعروفة لا تكاد ترى، فلو سقطت من يدك إلى الأرض فإنها تضيع ولا تراها، فلو كانت الحسنة بمقدار هذه الحبة من الخردل يقول الله: (أتينا بها)، أي: حسبناها ووضعناها في ميزان من يحاسب، ولهذا جاء في حديث البطاقة: (ثم تلا قوله تعالى: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا [الأنبياء:47]) أي: عددناها، وحسبناها، فوضعناها في ميزان حسناتك.

    قوله: وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [الأنبياء:47] أي: يكفي بما يقوله جل جلاله، لا يحتاج إلى من يحسب ولا من يعد، و(حاسبين) أي: عادين وحاصرين، ويكفي الله محاسباً ولو كانت كلمة قالها اللسان، ولم تعمل بها الأركان، ولكنه مات على يقين وهو يعتقد بقلبه أن الله واحد لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، ومات على هذا يقيناً، ونطق به اللسان سواء عند الموت أو قبل الموت، ففي الأحاديث النبوية: (من مات وهو يقول: لا إله إلا الله، دخل الجنة)، (من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنة).

    ولكن هل سيدخل الجنة بمجرد قوله ذلك دون أن يحاسب على ما بدر منه؟ كل ذلك محتمل، ولا نبت بشيء بخصوصه، فهو لابد أن يدخل الجنة، ولكن قد يدخلها بعد أن يغفر الله له ذنوبه بلا حساب ولا عقاب، وخاصة من مات شهيداً، ومن مات ودفن في البقيع، وخاصة من عده الله تعالى من السبعين ألفاً الناجين من عذاب الله، وفضل الله كبير، وقد يدخل النار مدة الله أعلم بها، فيعذب على ما صدر منه، ثم يدخل الجنة، وهؤلاء يسمون في الجنة بالجهنميين زمناً، ثم يرفع الله عنهم تلك الصفة، وذلك بأن يستبقي أثر الحريق في جباههم، وفي بعض جلودهم، فينعتون من أهل الجنة القدامى بقول: هذا جهنمي، وهؤلاء جهنميون، فيتألمون بذلك، فيدعون الله تعالى أن يرفع عنهم ذلك لكي لا يعرفوا؛ فيزيل ذلك عنهم ويختلطوا بغيرهم من المؤمنين الساكنين في الجنة.

    ومن المعلوم بالضرورة: أن النار سيدخلها الكافرون خالدين مخلدين فيها أبداً، وسيدخلها بعض عصاة المسلمين والله أعلم بهم، ولكنهم لا يخلدون، فسيدخلون النار زمناً حسب الذنوب، ثم يخرجون بعد ذلك، وآخر من يدخل الجنة من أهل النار من الموحدين رجل يكثر الدعاء والتضرع على ربه، ويعيش في ذلك زمناً طويلاً وجسمه قد احترق، فيقول: يا رب! جعلتني مع هؤلاء المشركين بك، والله ما أشركت بك يوماً، فائذن لي أن أخرج من النار، ولا أطلب منك شيئاً بعد ذلك، فيقال له: أتعطي العهود والمواثيق على أن تكتفي بذلك؟! فيعطي المواثيق والعهود، فيخرج من النار، فيسمع نعيم الجنة من بعيد، فيتضرع إلى الله، ويأخذ في الدعاء أن يذهب به إلى باب الجنة ليتمتع بنعيمها على بعد، فيقول له الرب: ألست قد عاهدت وأقسمت ألا تطلب غير ما أخذت من خروجك من النار؟ يقول: يا رب، فيستجيب له، ويأخذه إلى باب الجنة، فيزداد طمعه، وهكذا يدعو ويبكي ويتذلل، فيقول: يا رب! أدخلني جنتك، لا تجعلني أذل القوم وأبعدهم، وأنا الذي لم أكفر بك يوماً، وإذا بالله الكريم يقول له: تمنّ تعط، فيقول: أريد قصراً، أريد حورية أريد.. أريد.. ويوسع الخيال في إرادته، فيقول الله له: لك ما طلبت وعشرة أمثاله، فإذا به يقول: أتسخر مني وأنت رب العالمين؟!

    فيضحك الله ويستجيب له، ويدخله الجنة، ويعطيه ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.

    وقد روى هذا الحديث سيد التابعين الحسن البصري فقال: يا رب! اجعلني أنا هو، وكل رجائي أن تدخلني الجنة، وهكذا هؤلاء الكرام من السلف الصالح، ينتقصون أنفسهم، ويزداد خوفهم من ربهم، ويطلبون أقل شيء، ولكن الله الكريم عنده ما هو أكثر وأعظم، فالطمع قبيح من الإنسان، ولكن في الله ومن الله مطلوب أن نطمع في رحمته، ونرجوه ونضرع إليه، فذلك مقبول، والإلحاح غير مقبول من الإنسان إلى الإنسان، ولكن الله جل جلاله يحب من يلح عليه بالسؤال، ويكثر من الدعاء، بل قال نبينا عليه الصلاة والسلام: (إن الله ليحب من عبده أن يطلب منه حتى ملح طعامه، وحتى شسع نعله) انقطع شسع النعل فأصبح يمشي حافياً يقول: يا رب! سشع النعل انقطع، لا أستطيع أن أمشي على نعل واحدة، إذا أراد الطعام وهو بلا ملح يقول: يا رب! ليس عندي ملح، ولم أجد ملحاً.

    أعطني ملحاً، وهكذا الله جل جلاله، هو خالقنا ورازقنا وربنا، مهما طلبنا منه هذه الأشياء قلت أو صغرت أو كثرت، إلا والله يريد ذلك، ويحضنا عليه نبيه عليه الصلاة والسلام؛ لأنه دعاء، والدعاء مخ العبادة؛ لأن في معنى الدعاء أنه يقول: يا رب! أنا عاجز، والبشر عاجزون عن أن يعطوا، وهم يطلبون العطاء، ولكنك صاحب العطية، والمكرم، ولكنك الرازق والمعطي، فأنا أطلب منك، ولا أطلب من غيرك.

    فمن هنا يقول في الحديث القدسي: (فإذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله).

    والله إذا أراد أن يحرك قلوب عباده، يكون لهم بما لا يخطر لهم على بال، وهكذا التقوى تأتي بالرزق والعلم، والتقوى فيها كل الخيرات والفضائل، أكرمنا الله بها، وأدامنا عليها إلى لقائه.

    قال تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ [الأنبياء:48].

    كثيراً ما يقرن الله في كتابه بين ذكر نبينا وموسى عليهما السلام؛ لأن موسى كان من أنبياء الله ورسله، ومن أولي العزم، وقد لقي من قومه من العنت والجحود في مصر مع اضطهاد وقهر فرعون وملئه إلى أن أنقذهم موسى وهارون من فرعون، وخرج بهم عن مملكته، ثم لقي منهم بعد ذلك جحوداً وكفراناً، ونبينا عليه الصلاة والسلام لقي من قومه العنت والجحود، وكانت مقارنتهما تعطي نبينا السلوى.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755819129