إسلام ويب

تفسير سورة الحج [58-60]للشيخ : المنتصر الكتاني

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لقد وعد الله تعالى الذين يهاجرون في سبيله ثم يقتلون أو يموتون بالرزق الحسن في جنات النعيم، والله خير الرازقين، ثم تكفل الله تعالى للذين يعاقبون بمثل ما عوقبوا به ثم بغي عليهم أن ينصرهم.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (والذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا ...)

    قال الله تعالى: وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [الحج:58].

    هذه الآية الكريمة نزلت في الهجرة في سبيل الله، أي: فيمن هجر الأهل والأوطان والأموال ثم انقطع في هجرته فقتل مجاهداً ومحارباً أو مات حتف أنفه كل ذلك سواء، فمن كان هذا حاله فإن الله يرزقه.

    قال تعالى: لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا [الحج:58] اللام موطئة للقسم، فالله جل جلاله يقسم بذاته العلية، ويؤكد ذلك بلام القسم وبالنون الثقيلة: بأن هؤلاء الذين هاجروا في سبيل الله فقتلوا وهم مهاجرون أو ماتوا حتف أنوفهم ميتة عادية، فالله يرزقهم الرزق الحسن، والرزق الحسن هو رزق الآخرة، رزق الجنة، وهو الرزق الدائم منذ قتلهم وموتهم إلى أن يبعثوا وإلى أن يدخلوا الجنة، كما قال تعالى: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ [آل عمران:169] فهم يرزقون رزقاً الله أعلم بحاله، ترزق أرواحهم ونفوسهم الرزق الحسن الدائم الطيب، الذي فيه ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، كما وصف الله جلا جلاله نعيم الآخرة.

    عدم التفريق بين من قتل أو مات في سبيل الله

    كان سلمان الفارسي رضي الله عنه مع جند من الأصحاب في حصن من حصون الروم يحاصرونه، وإذا بأحد الجند يموت ميتة طبيعية وآخر يقتل، فذهب سلمان في جنازة الذي مات ميتة طبيعية وترك الآخر، فقيل له: يا صاحب رسول الله! تركت الشهيد وذهبت لمن مات حتف أنفه، فقال لهم: ألا تقرءون القرآن! وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا [الحج:58]، فالله لم يفرق فيمن هاجر في سبيل الله بين أن يكون مات قتيلاً أو مات ميتة طبيعية، فأولئك شهداء، وكل أولئك يرزقون في الجنة الرزق الحسن.

    وتكرر هذا في جزيرة روس وكان الأمير فضالة بن عبيد الأنصاري، فمضت جنازتان جنازة لجندي قتل وجنازة لميت مات من هؤلاء المرابطين في سبيل الله، فذهب الأمير لجنازة الميت وترك الجنازة الأخرى؛ لأن كليهما دفن في وقت واحد، هذا في جهة وهذا في أخرى، ولم يمكن جمعهما في مقبرة واحدة ولا من طريق واحدة، فقال فضالة : ألا تقرءون القرآن! كل من خرج في سبيل الله فمات أو قتل فهو شهيد في سبيل الله، لا فرق بين قتيل وميت حتف أنفه، وتلا الآية: وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا [الحج:58] .

    وسبيل الله أبوابه كثيرة، وليس الجهاد والقتال بالسيف فقط، بل من خرج من بيته يريد الحج فهو سبيل الله، ومن خرج يريد طلب العلم فهو في سبيل الله، ومن خرج يدعو إلى الله فهو في سبيل الله، وأي تنقل وسياحة وسفر يريد صاحبها الله بعمله ومن أجل الله فهو في سبيل الله، دفاعاً بالسيف أو نشراً للإسلام بالقلب أو باللسان أو بعمل من الأعمال، فإن كان لا يريد هذا السائح والمسافر إلا وجه الله فإن مات كانت هجرته في سبيل الله، وله من الله الرزق الحسن، وكان مع الشهداء الذين تشهد جنازتهم الملائكة.

    الهجرة صورها وفضلها

    والهجرة -أي: هجرة ديار الكفر والفسق والظلم- هي كذلك، فالنبي عليه الصلاة والسلام عندما هاجر من مكة إلى المدينة كان مهاجراً في سبيل الله منذ خرج من بيته إلى أن مر على صاحبه أبي بكر ، إلى أن اختفى في جبل ثور، إلى أن وصل للمدينة المنورة، إلى أن لقي ربه صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

    ومن هنا عند فتح مكة ظن الأنصار أنه صلى الله عليه وسلم سيبقى في بلدته ومسقط رأسه ومدينة عشيرته، وإذا به يبقى مهاجراً إلى أن لقي ربه، وتبعه في ذلك أصحابه الذين هاجروا معه، والذين لقبوا من عملهم بالمهاجرين، فكان الذين هجروا دار الكفر إذ ذاك وهاجروا منها يسمون المهاجرين، ومن أسلم في بلدته من الأوس والخزرج في المدينة المنورة يسمى أنصارياً، والهجرة لا تنقطع إلى يوم القيامة، وهي هجرة من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام، وهجرة من بلاد التقوى والصلاح رحلة إلى ديار التقوى والصلاح، ومن ديار الفسق والظلم والمعصية إلى ديار الدين والاستقامة.

    وهكذا وعد الله تعالى الذي يهاجر في سبيله إما بغضاً للكفر والمعصية، وإما للقتال بالسيف أو بالقلم أو باللسان أو بالمال، أو بأي نوع من أنواع القتال، إذا مات ولو مات ميتة طبيعية فميتته وقتلته شهادة، ولكن الشهادة تكون لكل من تغرب عن أهله في سبيل الله، لا يريد بذلك إلا وجه الله، فالأمر يرجع إلى النية.

    لذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها، أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه).

    ولذلك فالأمور جميعاً بالنية، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات، فمن هاجر إلى لله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن هاجر لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه)فمن هاجر إلى الله والدار الآخرة وترك الأهل والأوطان والأموال لأجل الله، فهذا هو الذي ثبتت له هجرته وصدقت نيته، فإن قتل أو مات فكل ذلك سواء، فسيرزقهم الله الرزق الحسن، والرزق الحسن هو نعيم الجنة الخالد.

    ثم قال تعالى: وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [الحج:58].

    أي: الله جلا جلاله هو خير من يرزقك، وإن كان غيره لا يسمى رازقاً ولا معطياً ولا مضيفاً إلا مجازاً، وإلا فالرزق والعطاء الحق من الله، فهو الرزق الخالد الدائم، الذي فيه ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، ورزقه خير للإنسان من رزق أهله وحكامه والتجارة له، وخير من أرزاق الدنيا بكل أنواعها، وإن كان ذلك أيضاً يعتبر رزقاً من الله وكرماً وعطاءً منه، إن كان حلالاً نتيجة عرق جبين، ومن باب أولى إن كان رزقاً فيه هجرة صادقة، فيكون الرزق الخالد الدائم في الجنان، والله بذلك خير الرازقين والمكرمين جلا جلاله.

    ثم قال تعالى: لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ [الحج:59].

    رزق الله جلا جلاله يكون (بالمدخل الحسن) بالضم، أو (المدخل الحسن) بالفتح، وبكل ذلك قد قرئ في السبع.

    والمدخل الحسن: هو ما تدخل إليه وترتاح له، وفيه ما يسرك ويقر عينك، وهل هناك مدخل أحسن من المدخل للجنة وللنعيم الدائم؟ والذي أعظمه رؤية وجه الله الكريم.

    ذلك المدخل الذي يرضيهم فيه بما تقر له أعينهم، وتطيب له نفوسهم، بما يخلدون فيه الخلود الأبدي الدائم، وما ذلك إلا صفة لنعيم الجنة، ولرزق الله الخالد الذي في الجنة، والتي وصفها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر) .

    ثم قال تعالى: وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ [الحج:59] .

    أي: إن الله لعليم بأعمالنا وبنياتنا، وعليم بمن هاجر لا يريد إلا الله ورسوله، وبمن كانت سفرته وهجرته في الحقيقة لزواج أو لمال أو لجاه أو لأي شيء يرجع لشئون الدنيا فقط.

    ولذلك يعامل الله جلا جلاله العابد على نيته، فإن كانت نيته الهجرة فيجازى بما يجازى به المهاجرون، وإن كانت الدنيا فهو للدنيا: إن أصابها فذاك، وإن لم يصبها فقد خسر الدنيا والآخرة، وهذا فيما إذا تظاهر للناس بأنه خرج مهاجراً لله، وهو لم يهاجر إلا لدنيا يصيبها، ولكن الله مع ذلك على علمه هو حليم غفور رحيم، فحتى الذي هاجر لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها يغفر له حلماً منه ورحمة ورأفة جل جلاله إن غير نيته من الدنيا إلى النية الصالحة؛ نية الرغبة في الآخرة، والهجرة للخير في سبيل الله.

    ولقد قال سفيان بن عيينة : طلبنا العلم لغير الله فأبى الله إلا أن يكون له، يقول سفيان ذلك عن نفسه، تعليماً وتربيه لغيره من الناس سيما طلاب العلم، فإن كنت طلبت العلم لتكون قاضياً، أو لتكون موظفاً أو حاكماً، أو ليقال عنك: عالم، أو ليكون معك كذا وكذا فإن كانت نيتك كذلك فتب إلى الله منها، وغيرها إلى نية صالحة، فتطلب العلم لتدعو الناس إلى الله على بصيرة، أو لتنصر الدين ولتكون خليفة من خلفاء الرسول صلى الله عليه وسلم في نشر العلم.

    وقد قال صلى الله عليه وسلم: (العلماء ورثة الأنبياء) العلماء الذين يدعون الخلق إلى الله، ويعرفون للناس الحلال من الحرام، ليحرصوا على أن يكونوا حيث أمرهم ربهم، وحيث أمرهم نبيهم صلى الله عليه وسلم، فيفعلون من الحسنات قدر طاقتهم، ويتركون المنكرات جميعاً، كما قال عليه الصلاة والسلام: (ما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم، وما نهيتكم عنه فانتهوا) فهذا هو الضابط فعلاً وتركاً، وإنما كان الفعل على قدر الاستطاعة؛ لأن الأعمال كثيرة، وطاقة البشر أضعف من ذلك، فالله أمرنا بالصلاة والوضوء بالماء، وبتلاوة القرآن، وباستقبال القبلة، فإن نحن عجزنا -جدلاً- عن معرفة القبلة لسبب ما، أو لم نستطع استعمال الماء أو فقدناه، أو مرضنا فلم نستطع الصلاة قياماً، فالله يقبل منا أن نصلي كما أمرنا في حال المرض، أي: أن نصلي جلوساً، فإن لم نستطع فعلى جنب، وإن لم نجد الماء نتيمم بالصعيد الطاهر، وهكذا.

    وهكذا سائر الواجبات، أي: جعلها الله قدر جهدك، وما جعل عليك في الدين من حرج، فلم يأمرنا بما لم نستطع، ولم يكلفنا بما لا تعيه العقول.

    وكما أنه عليم بأعمالنا وقدراتنا، فهو حليم بنا، فإذا نحن أسأنا النية أو العمل ثم استغفرنا فهو يغفر لمن تاب، والله غفور لمن يستغفره جلا جلاله وعلا مقامه.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ذلك ومن عاقب بمثل ما عوقب به ...)

    ثم قال تعالى: ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ [الحج:60].

    أي: كون الإنسان مهاجراً في سبيل الله، لا لدنيا يصيبها، ولا لامرأة ينكحها، بل بذل نفسه رخيصة في سبيل الله، فهجر ديار الكفر والفسق رغبة فيما عند الله، وليتعاون مع إخوانه المؤمنين على عبادة الله والدعوة إليه جل جلاله.

    وقوله: ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ [الحج:60].

    أي: الذي عاقب ظالماً وانتقم منه، فليس له أن يزيد في ظلمه أكبر مما أساء إليه، بل كما قال تعالى: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا [الشورى:40].

    وأما الكافر فجزاء حربه وقتاله الموت، أو يستقم ويؤدي الجزية عن يد وهو صاغر؛ لتصبح كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى، وستبقى كلمة الكافر ذليلة لا سلطان لها ولا ممتثل ولا عامل بها، وتبقى كلمة الله من كتابه ومن دينه ومن هدي الرسول هي العالية المعمول بها، التي تحكم والتي تأمر وتطاع.

    سبب نزول قوله تعالى: (ذلك ومن عاقب ...)

    وقالوا: سبب نزول هذه الآية أن الكفار أرادوا أن يهجموا على مسلمين في شهر من الأشهر الحرم، وهو شهر محرم، فناشدوهم وقالوا: لا ترفعوا سيفاً ولا تقتلوا ولا تقاتلوا في شهر حرام، فالله حرم ذلك، وهم جاءوا ليحاربوا المسلمون في شهر حرام، ظناً منهم أن المسلمين في الشهر الحرام لن يقاتلوا، ولن يعاقبوا أو ينتقموا، ولكن الله أذن في القتال وقال: وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ [الحج:60] فكان القتال سجالاً، والبغي هنا: هو الظلم الزائد، فالمشركون أبوا إلا القتال في الشهر الحرام.

    وهذا كما قال صلى الله عليه وسلم عندما دخل مكة فاتحاً -وكان بعضهم قد قتل، وكان هناك قتال في الجهة التي دخلها خالد بن الوليد -: (إن الله تعالى حرم مكة إلى يوم القيامة، ولم تبح لي إلا ساعة من نهار، ولم تحل بعد اليوم لأحد) هذا إذا كانت الحرب ابتداء كما صنع صلى الله عليه وسلم، فقد كانت الحرب في شهر رمضان شهر العبادة والطاعة، واسترسلت إلى إلى شوال وذي القعدة وذي الحجة ومحرم، الأشهر الحرم الأربعة، ومكة بلد حرام لا يباح القتال فيها في الأشهر الحرم وفي غيرها، وأما قول النبي عليه الصلاة والسلام: (لم يؤذن في القتال إلا ساعة من نهار) فالمراد: الابتداء، ولكن ذلك الابتداء كان جزاء لما سبق أن فعله كفار قريش من حرب رسول الله والمسلمين، وإخراج رسول الله، ثم ابتدأ المسلمين مع النبي صلى الله عليه وعلى آله بالقتال، وهذا الذي حرمه الله في مكة وفي المدينة في الأشهر الحرم إن كان ابتداء، لكن لم يكن فعل النبي وصحبه ابتداء، بل المشركون هم البادئون بالاعتداء، والدفاع والكفاح والجهاد واجب على كل من يستطيع حمل السلاح في داخل البلد المحرم وخارجه.

    إذاً: فالكفار كانوا قد هاجموا في شهر حرام؛ فقال تعالى: ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ [الحج:60] فالكفار قاتلوا فقتلوا رداً على قتالهم.

    قوله: ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ [الحج:60] أي: ظلم المسلمين زيادة على الحرب بأن قوتلوا في شهر حرام، والقتال في الشهر الحرام اعتبر عند المسلمين في دينهم بغياً وظلماً.

    فعندما ظلموا وطغوا على المسلمين أذن الله للمجاهدين من المؤمنين أن يعاقبوهم مرتين للقتال، ثم لما زادوه بغياً بأن كان ذلك في شهر الله الحرام، أذن الله لهم أن يقاتلوا في شهر الله الحرام.

    وقوله تعالى: لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ [الحج:60] أقسم الله بأن الذي بغي عليه -ولو في شهر حرام وفي أرض حرام- ثم انتقم جزاء وفاقاً من ذلك الظالم الباغي أن الله سينصره، أي: ينصر المظلوم وقد فعل، فقد نصر الله هذه الفئة المظلومة المبغي عليها نصراً عزيزاً مؤزراً، وهزم أولئك الباغين الظالمين المنتهكين لشهر الله الحرام، فقوتلوا وأذلوا.

    وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ [الحج:60] أي: بعد ذلك قد عفا الله عن هؤلاء؛ لأنهم لم يقاتلوا بغياً وعدواناً في شهر الله الحرام، وإنما قاتلوا جزاءً وفاقاً وانتقاماً، أي: عقوبة لمن ظلمهم مقابل عقوبة.

    فالعقوبة الأولى هي: الظلم الأول الذي من المهاجم الكافر، فحق عليهم القتال، وأما لجزاء فهو في قوله: وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ [الحج:60]، وإنما سمي عقاباً أو عقوبة للمشاكلة في اللفظ، وهذا من أنواع البلاغة، وإلا فالمقابلة ليست عقوبة وذنباً، أي: من حيث الاسم، وإنما كانت تأديباً، وهي عقوبة نتيجة للعقاب السابق، كما قال الله: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا [الشورى:40] أي: المجازي للمسيء ليس مسيئاً، ولكن سميت إساءة في المقابلة والمشاكلة، وهذا نوع من أنواع البلاغة في لغة العرب التي بها نزل القرآن الكريم.

    وقديماً قالوا في قواعد الأصول: الضرورات تبيح المحظورات، فالشهر الحرام ليس فيه حرب، وبلد الله الحرام كذلك، ولكن إن ابتدأ الظالم الحرب في بيت الله الحرام، وكذا إن هاجم في الأشهر الحرم، فعند ذلك يباح للضرورة ولجزاء الظالم وعقوبة المسيء أن يقاتل في المدينة الحرام وفي الأشهر الحرم.

    وأما ابتداء القتال فيه فهو عظيمة من العظائم وكبيرة من الكبائر، بل إن بعض الفقهاء يرى أن إقامة الحدود يجب أن تكون خارج الحرم لا في داخله.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755998199