لا نزال مع المؤمنين من عباد الله الصالحين فيما وصفهم الله تعالى به من التحلي بالأخلاق الكريمة، والتخلي عن الأخلاق السافلة، فكان من ذلك قوله تعالى: وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا [الفرقان:67].
فهؤلاء من عباد الله حقاً، فهم الذين لا يكون إنفاقهم إسرافاً وتبذيراً وضياعاً، ولا يكون تقتيراً وبخلاً ونقصاً وإضاعة حقوق، فلا يصل بهم الأمر إلى أن يجيعوا ويعروا من هم في حاجة إلى نفقتهم، ولا يصل بهم الأمر إلى أن يسرفوا ويبذروا ويصرفوا أكثر مما كان يجب أن يكون، وقد روي عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: (ما عال من اقتصد)، أي: لم يفتقر المقتصد.
وهذا كبيان الله في آية أخرى في قوله: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ [الإسراء:29]، فلا تجعل يديك من البخل كما لو عقدتها وربطتها وقيدتها في عنقك، فلا تستطيع نفقةً، ولا تجعلها مبسوطة كل البسط فتقعد ملوماً بعد أن تبذر، وتضيع وتسرف في النفقة على من كان يجب عليك نفقته.
وقد قال قوم: النفقة في سبيل الله ولو كانت بكل مالك لا تعد إسرافاً ولا تبذيراً، واستدلوا على ذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم لما طلب الأصحاب في غزوة تبوك أن يعينوا الجيش، وأن يعطوا كل ما يستطيعون جاء أبو بكر رضي الله عنه بكل ماله، وجاء عمر بنصف ماله.
ولكن هذا في حالة خاصة، وأبو بكر عندما فعل ذلك لم يضيع أهله، ولم يحوجهم ولم يجعهم، وكذلك فعل عمر .
فعندما أعطوا أموالهم كانوا معتمدين على تجارتهم، ومعتمدين على الصفق في الأسواق والأخذ والعطاء، فلم يعطوا كل ما عندهم ليصبحوا في اليوم التالي في حاجة إلى طعام وشراب وكساء.
وهذه الآية تصف المؤمن بأنه إذا أنفق لا يكون مبذراً، ولا يكون مسرفاً، فالمبذرون كانوا إخوان الشياطين، والمسرفون لا يحبهم الله، إذ قد أفرطوا في تجاوز الحد بالنفقة على من كان يجب أن ينفق عليه من عيال وأولاد.
قال تعالى: وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا [الفرقان:67]، قرئ: (يُقتِروا) و(يَقتُروا) و(يَقتِروا)، وكل ذلك بمعنى واحد، وبكل ذلك وردت القراءات السبع المتواترات.
قوله تعالى: وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا [الفرقان:67] أي: ومن صفاتهم الكاملة أنهم إذا انفقوا لم يكونوا مسرفين ولا مبذرين، ولا بخلاء ولا مقترين، يعطون الأهل في نفقاتهم ما يحتاجون إليه من سكن ولباس وطعام وشراب، ولا ينفقون عليهم في اليوم كنفقة أسبوع أو شهر أو سنة، حتى إذا نفد المال وجد المرء منهم نفسه قد افتقر وقد أضاع ما عنده، فليست هذه صفة المسلم العابد الذي وصفه الله تعالى بهذه النعوت الكريمة.
وقوله تعالى: وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا [الفرقان:67] أي: وكان الإنفاق بين ذلك وسطاً بين الإسراف والتقتير، وكان الإنفاق بين هاتين الحالتين من الإسراف والتقتير، وهو العدل والوسط في الأمور.
ذكر الله جل جلاله في هذه الآية الكريمة أن من صفات هؤلاء العابدين الصادقين أنهم لا يدعون مع الله إلهاً غيره، فلا يشركون بالله، ولا يعبدون غير الله، وليس لهم إله إلا الله، ولا رب ولا خالق ولا معبود غيره، فهم المؤمنون بالله حقاً، وهم الموحدون لربهم ذاتاً وصفات وأفعالاً، فهم الذين إذا استعانوا استعانوا بالله، وإذا سألوا سألوا الله، وإذا خافوا خافوا من الله، وعلموا أن الله أكبر من كل كبير، فهو الله الخالق الرازق الجدير وصاحب الحق في العبادة، وكل من عداه من الشركاء إنما عبدهم من لم يعبد الله حقاً، وزعمهم شركاء من لم يوحد الله حقاً، فمن تمام صفة المؤمن أن يكون عابداً لله وحده، فلا يتخذ إلهاً غيره ولا معبوداً سواه.
ثم هو لا يقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، فلا يعتدي على الأرواح، ولا يسفك الدماء إلا بحقها، وحق سفك الدم يرجع إلى الحاكم لا إلى عامة الناس، فالروح عصمها الله تعالى عن أن تزهق، إلا إذا زلت في أعمالها، وارتكبت ما ذكره النبي عليه الصلاة والسلام في قوله: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: كفر بعد إيمان، أو زناً بعد إحصان، وقتل نفس بغير نفس).
فإن كان مسلماً فارتد فأمر بالعودة إلى الإسلام وبالتوبة فأبى، فإنه يقتل حداً لردته، وإن تزوج يوماً -ولو بقي بعد ذلك بلا زوجة- فإنه يعتبر محصناً، فإذا زنى يرجم حتى الموت، وإن أزهق نفس مسلم بغير حق فإنه يقتل به قصاصاً جزاء إزهاقه لروح غيره ظلماً وعدواناً.
وهذا معنى الآية الحق: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ [الفرقان:68].
فالنفس المؤمنة معصومة محصنة لا يجوز إزهاقها ولا يجوز قتلها ما لم يكن ذلك بحق، والقتل بالحق هو ما سبق ذكره،ومع ذلك لا يكون للإنسان أن يأخذ حقه بيده، ولكن الحاكم المسلم هو الذي يتولى ذلك.
والمؤمن يبتعد عن هذه الأشياء كلها ابتعاد السليم من الأجرب، فالمؤمن لا يكفر بالله، ولا يشرك به شركاً خفياً ولا جلياً، ولا يزهق نفس المؤمن ظلماً وعدواناً إلا بحق، والحق يرفع إلى من ينفذه، وهو الحاكم المؤمن، ولا يعتدي على الأعراض المحرمة عليه، ومن اعتدى بعد ذلك فهو الظالم الذي يستحق العقوبة، وهو الذي لا يوصف بصفات المؤمنين العابدين.
وقد سأل ابن مسعود رضي الله عنه نبي الله صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيح- فقال له: (يا رسول الله! أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل الله نداً وهو خلقك، قال: ثم أي؟ قال: أن تقتل وليدك مخافة أن يطعم معك)، كما كان يفعل في الجاهلية قبل، وكما يفعل اليوم في مختلف بقاع الأرض، فيزهقون الأرواح أجنة لا تزال في الأرحام وقد نفخت فيها الأرواح، ويقتلونهم وهم أطفال ليبتعدوا عن مسئولية النفقة عليهم، ولا تزال الصحف وأجهزة الإعلام في مشارق الأرض ومغاربها تقص من ذلك العجائب والغرائب، وذلك يدل على أن قوله تعالى: وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ [التكوير:8] لا يعنى به أهل الجاهلية فحسب، فهذا الذنب وهذا الإجرام لا يزال قائماً بين الناس في جاهليتهم الجديدة، على أن الكافر يعيش في جاهلية مستمرة قبل وجوده وبعد وجوده إلا أن يؤمن بالله، ويعترف بالله جل جلاله خالقاً ورازقاً وواحداً، وبمحمد عبداً ونبياً ورسولاً وخاتم الأنبياء والرسل، وإلا فهو جاهلي لا يزال يعيش في الجهالة والضلالة.
والزنا من أقبح ما يبتلى به مجتمع، يقول نبينا عليه الصلاة والسلام: (ما انتشرت الفاحشة في قوم إلا وبلوا بأمراض لم يكن يبتلى بها آباءهم وأجدادهم).
ونحن نرى اليوم في هذا العصر أمراضاً بين الناس في المشارق والمغارب هي نتيجة الزنا، ونتيجة الفساد، وهي أمراض ما كان الناس في القرون الأولى يعرفونها، وهذا جزاء في الدار الدنيا قبل جزاء دار الآخرة.
وسل أي طبيب فقل له: ما هي الأمراض التي يحملها أكثر المرضى عند علاجك لهم؟ فسيقول لك: أكثر أمراضهم أمراض الجنس، أمراض القبل والدبر، أمراض الفساد والفاحشة والزنا.
فالجراثيم والأقذار والأوساخ لا تكون في موضع كما تكون في موضع القبل والدبر، فإذا اتصل سليم بمريض عن طريق الفرج الحرام انتقل ذلك من الفرج الحرام إلى فروج أخرى، ومن كان متزوجاً ينقل ذلك إلى أهله، فيخرج الأولاد مرضى منذ الطفولة، بل منذ كانوا في أرحام أمهاتهم وهم أجنة، والمرض إذا خرج مع الجنين فقلما يسلم صاحبه، فيعيش مريضاً مدة حياته، وينتشر ذلك منه إذا كبر في أولاده.
وكثير من الأمراض التي ترى اليوم في الأطفال والنساء والرجال إن بحثت عنها فستجد أن البيئة ليست بيئة صالحة، وليس أهلها قوماً متقين ولا خائفين من الله، فهم يتصلون بكل فرج حرام، حتى إذا أفلتوا من الحد وقعوا في قبضة تلك الأمراض.
وكثيراً ما يفلتون من الحد، بل قد أسقطت الحدود في ديار الإسلام إلا شيء لا يزال في بلدنا هذه.
قال تعالى: يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا [الفرقان:69]، فهو في الدنيا يلقى العقوبة بالجلد، ويلقى العقوبة بالرجم، ويلقى العقوبة بالأمراض، فإن مات مع هذا مشركاً فإنه يخلد في العقوبة مهاناً ذليلاً حقيراً، فيكون خالداً في جهنم تحت غضب الله ولعنته مع الذل والهوان على الله وملائكة العذاب في جهنم وبئس المصير.
فالمؤمن لا يفعل ذلك، فإن فعل فقد خرج عن صفات المؤمنين، وكان مرتكباً لصفات المشركين ولنعوت الظالمين الفاسقين.
إلا من سبق أن أجرم أو أذنب وكان كافراً، ثم تاب إلى الله توبة نصوحاً، ومن تاب تاب الله عليه، والإسلام يجب ويقطع ما قبله إذا كان مشتملاً على صفات التوبة من الندم على ما سبق، والعزم على ألا يعود، وارتكاب حسنة مكان سيئة صنعها كما قال صلى الله عليه وسلم، وقد أمرنا بأن نفعل حسنة مكان السيئة لتمحوها وتزيلها وتقضي عليها.
ومعنى ذلك أن جميع الجرائم من الكفر بالله وإزهاق النفس التي حرم الله وبقية الجرائم على مختلف أنواعها إذا أقيم على فاعلها الحد ثم تاب إلى الله بعد ذلك وعمل صالحاً فعوض سيئاته بأن أكثر من الحسنات، ومن الطاعات، ومن العبادات، فإن الله يبدل سيئاته حسنات.
وهذه الآية متعلقة بتوبة الكفار، فقوله تعالى: إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ [الفرقان:70] أي: تاب من ذنوبه، وآمن بعد كفره، وعمل عملاً صالحاً بعد ذلك، والعمل الصالح هو القيام بالأركان الخمسة فرائضها وسننها وآدابها، والتحلي بالأخلاق الكريمة والتخلي عن الأخلاق الرذيلة، وفعل الطاعات بقدر المستطاع، وترك السيئات جميعها.
فمن تاب وآمن ثم عمل الصالحات فإن الله لا يتوب عليه فحسب، بل يبدل سيئاته حسنات.
وقد فسر الآية علماؤنا وصحابة نبينا صلى الله عليه وسلم، فقال بعضهم: يلهمهم وهم في الدنيا أن يجعلوا مكان السيئة الحسنة، فيفعلون الحسنات، وفي مكان كل سيئة يعملون حسنة، فتمحوا السيئة الأولى.
وقال قوم: بل إنه في الآخرة يبدل الله سيئات المذنب بحسنات، فيعفو عنها، ويضع مكانها حسنات ويجازيه عليها ويدخله الجنة.
واستدلوا بحديث يدل على أن ذلك يكون بعد عذابه وبعد عقوبته، وهو إخبار النبي عليه الصلاة والسلام بآخر رجل يخرج من النار، فيعرض على ربه للحساب فتعرض عليه صغائر ذنوبه، وإذا بالله الكريم يعوض ذنوبه وسيئاته حسنات، فعندما يرى فضل الله وعفو الله وكرم الله فإنه يطمع بعد نجاته من النار فيقول: يا رب! إن لي سيئات كباراً ما رأيتها ذكرت، فيذكر ذنوبه الكبار، قال راوي الحديث: فضحك صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه.
والقول الأول: أن تغير الحسنات في الدنيا بأن يلهم الله المؤمن ويعطيه العون في تبديل السيئة بالحسنة، كأن يكون قد قاتل قتالاً أزهق فيه أرواحاً وهو ظالم، فهو بعد ذلك يقاتل في سبيل الله فيقتل أرواحاً كافرة إعلاءً لكلمة الله.
وكأن يكون قد منع حقوقاً لأناس، فيعود فيؤدي تلك الحقوق لأصحابها إن استطاع، وإلا طلب من أولئك العفو والسماح إن كان يعرفهم، وإلا تصدق وأكثر من الصدقات وأكثر من النفقات وأكثر من العطاء، ليبدل الله بذلك سيئاته حسنات.
أما يوم القيامة فالله جل جلاله يعطي من شاء ما شاء إن مات على التوحيد، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48].
وقوله تعالى: يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ [الفرقان:69] معناه أن عذابه يكون مضاعفاً مكرراً، فيجازى بالسيئة سيئة وبالعذاب عذاباً إن مات على الشرك، أما إذا تاب، وآمن، وعمل العمل الصالح فالله يبدل سيئاته حسنات.
قال تعالى: وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [الفرقان:70] (غفوراً) صيغة مبالغة، أي: كثير المغفرة لذنوب عباده التائبين النادمين على ما صدر عنهم، الآتين بالحسنات مكان السيئات، الرحيم بعباده بعد ذلك، فيرحم ضعفهم ويرحم ذلهم، فيعود عليهم بالتوبة، ويعود عليهم بالرحمة، ويبدل السيئات حسنات، فيدخلهم الجنة وقد كانوا في النار أولاً، وقد يدخلون الجنة ولا يدخلون النار البتة رحمة من الله وغفراناً.
هذه التوبة خاصة بالمؤمنين، ولذلك لم يذكر فيها الإيمان، وفي الآية الأولى: إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا [الفرقان:70]، فهي في حق من كان مشركاً كافراً، ثم تاب من الشرك وتاب من الكفر، وعمل الصالحات، فالله تعالى يقبل توبته إن كان صادقاً فيها.
وفي هذه الآية مؤمن لم يشرك ولم يكفر، ولكنه ارتكب مخالفات وأتى بسيئات، فإن تاب هذا العبد وعمل صالحاً مكان ما صنعه من قبل من سيئات، وتاب إلى الله فإنه يتوب إلى الله متاباً، و(متاباً) مفعول مطلق، أي: توبة نصوحاً، أي: يتوب وهو نادم على ما صدر عنه، نادم على ما كان منه، عازم على ألا يعود إليه، وقرر في نفسه بعزم وثبات وحزم أن يعوض كل سيئة بحسنة مكانها.
فهذه الآية لم تكرر عبثاً، وإنما هي للتائبين المؤمنين، والآيات السابقة في توبة الكافرين من الكفر والشرك.
وعلى كل اعتبار فإن الله يتوب على من تاب، سواء أتاب من الشرك، أم تاب من العصيان والمخالفة، إن تاب توبة نصوحاً، فتاب وهو عازم في نفسه على ألا يأتي بالسيئة التي تاب منها، فالله يغفر الذنب ويعفو عن المسيء، وقد جاء قوم إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم فقالوا له: يا رسول الله! قوم أشركوا وقتلوا وزنوا، وما من سيئة إلا ارتكبوها، ألهم توبة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للمتكلم -وكان اسمه أبا طويل الكندي -: أأسلمت؟ فأسلم في الحال فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك عبد الله ورسوله، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: (نعم، قد قال تعالى: إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [الفرقان:70])، وإذا بالرجل يخرج وهو يصيح ويقول: الله أكبر، الحمد لله، الله أكبر، الحمد لله. يحمد الله على أن غفر ذنبه، وكشف كربه، وستر عيبه بعد أن شهد شهادة الحق، فباب الله مفتوح لكل تائب.
وقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم قوله: (إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل).
ونزل في مثل هذه المعاني أيضاً قوله تعالى: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا [الزمر:53].
قالوا: هذه أرجى آية في كتاب الله، فهي أكثر رجاءً، وأكثر طمعاً، وأكثر أملاً، فعباد الله المذنبين -وأضافهم الله إلى نفسه- إن هم تابوا وأنابوا وعملوا الصالحات مكان السيئات غفر الله لهم الذنوب جميعاً.
وما الصحابة في الرعيل الأول إلا هكذا، فقد سجدوا للأصنام في الجاهلية، وارتكبوا المنكرات، وما إن هداهم الله وصرف قلوبهم عن الشرك وعن الكفر وعن تكذيب النبوة وتكذيب كتاب الله حتى انقلب حالهم، وأصبحوا قادة الدنيا، فكان منهم أبو بكر ، وكان منهم عمر ، وكان منهم عثمان ، وكان منهم علي ، وكان منهم من لا يحصي عددهم إلا الله، وأصبحوا خلفاء النبي صلى الله عليه وسلم في الدعوة إلى الله، وفي هداية البشر من الضلال إلى الهدى، ومن الظلمة إلى النور، وهكذا حكموا العالم ونشروا دين الله في مشارق الأرض ومغاربها.
وأصبح اسم الرجل منهم إذا ذكر تهتز له العوالم احتراماً وحباً وتقديراً واعترافاً بفضله، وما تخرجوا إلا من المدرسة المحمدية، فخلدوا في التاريخ إلى أبد الآباد، فكما صاحبوا نبينا في الدنيا فسيصاحبونه كذلك في الآخرة، أولئك الذين أشاد الله بهم ونوه بهم فقال: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ [التوبة:100]، فالله رضي عنهم، وأدخلهم الجنة، ورحمهم، وأكرمهم، وجعلهم سادة الناس في الدنيا، وسيكونون كذلك في الآخرة يوم القيامة، وقد رضوا عن ربهم في رحمته بهم وتوبته عليهم ومغفرته لهم، وفيما ألهمهم من التوبة، والدعوة إلى الله، والإيمان برسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر