إسلام ويب

تفسير سورة العنكبوت [8-11]للشيخ : المنتصر الكتاني

  •  التفريغ النصي الكامل
  • يوصي الله تعالى الإنسان بالإحسان لوالديه، وألا يسيء إليهما وإن كانا كافرين، وذكر أنه سيدخل المؤمنين في الصالحين، وأن المنافقين سيبتليهم الله حتى يظهر نفاقهم ويفتضحون.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ووصينا الإنسان بوالديه حسناً...)

    قال الله تعالى: وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [العنكبوت:8].

    أي: كما أمر الله بطاعته وبتوحيده وصى بالوالدين، ويكثر في القرآن الكريم أن يقرن الله بر الوالدين بطاعته وتوحيده؛ وذلك لأنه الخالق الرازق، وقد أعطاهم الإيمان وأكرمهم بالرزق وأنعم عليهم بالحسنات، وأما الوالدان فقد كانا سبباً لخروج الابن إلى هذه الدنيا، فإن كان مؤمناً ففي صحيفتهما، وإن دخل الجنة ففي صحيفتهما، وإن عمل في دنياه وفي خدمة العباد، ونشر الإسلام، وقتال الكافرين ففي صحيفتهما، ومن لم يشكر الناس لم يشكر الله، فكيف إذا لم يشكر أباه وأمه!!

    وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا [العنكبوت:8] التوصية من الله فرض وأمر، قال تعالى في الآية: وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ [العنكبوت:8] ولم يقل: المسلم؛ لأن الأوامر والنواهي الإلهية والنبوية يخاطب بها كل إنسان على الأرض، ولكن شرط قبولها أن يكون الإنسان مؤمناً، فهو أول شرط في صحة قيام الطاعات، وأما المخاطبة بها فإن الله يخاطب كل الناس، ونبينا الخاتم نبي لجميع الناس وجميع البشر: أبيضهم وأسودهم، في مشارق الأرض ومغاربها، بل والإنس والجن.

    والبر قد يكون من الكافر ويكون من المؤمن، فإن الكافر يبر أباه ويبر أمه، وقد يقبل بره أو لا يقبل، ويفرض ذلك على المسلم الذي يأتي بذلك بعد الشهادتين، قال تعالى: وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا [العنكبوت:8]، أي: أمرناه بالإحسان إليهما، والإحسان كلمة شاملة بأن يكون مطيعاً مؤدباً، وألا يقول لأحدهما أقل كلمة وأحقرها: أف، فحتى التأفف لا يجوز أن يتأفف من أحدهما، وألا يعبس في وجوههما، وألا يرد أوامرهما إلا في حالة واحدة، ذكرها الله في قوله: وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا [العنكبوت:8].

    فالوالدان إن كانا مشركين أيضاً فأنت مأمور بالإحسان إليهما وببرهما وبالقيام على طاعتهما والأدب معهما على كل حال، ولا يعصيان أو يعصى أحدهما إلا في حالة واحدة، وهي ما إذا أمرا الأبناء أو أحدهم بالشرك بالله، قال تعالى: وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا [العنكبوت:8].

    وقال في آية أخرى: وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا [لقمان:15].

    فما يتعلق بالإيمان والإسلام وبطاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فلابد أن تقوم بذلك، ولا تطع أمر الوالدين إن حاولا أن يرداك عن الإيمان، ولكن صاحبهما بالمعروف، ومعروف الدنيا السكن والنفقة والكسوة وكل ما يدخل تحت البر وتحت الإحسان؛ فهذا أمر إلهي فرضه الله على الإنسان مع والديه؛ فإن خرج الأولاد عن ذلك انتقلوا من البر إلى العقوق بلا واسطة.

    وعظم جرم العقوق بينه النبي عليه الصلاة والسلام لما سئل: أي ذنب أعظم بعد الشرك بالله؟ قال: (عقوق الوالدين). فكما أن بر الوالدين يأتي في الدرجة الثانية بعد التوحيد والإيمان بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم فكذلك مخالفة الوالدين وعقوقهما يأتي في الدرجة الثانية بعد الكفر بالله، وليس هناك مصيبة أعظم من هذا البلاء.

    وطاعة الوالدين معلوم من دين الإسلام بالضرورة، وكتب السنة عامرة بذلك، والقرآن فيه آيات تتحدث عن ذلك وليست واحدة، وكلها تلح وتؤكد هذا المعنى، ومن باب القاعدة: الشيء إذا تكرر تقرر. أي: عندما يكرر الأمر والنهي فإنه يصبح قراراً وأمراً لا هوادة فيه.

    وقد نزلت هذه الآية في سعد بن أبي وقاص أحد الستة الذين اختارهم عمر للشورى في أمر الخلافة، وهو أحد القادة الفاتحين، وأحد الرعيل الأول من الأصحاب المهاجرين، قال رضي الله عنه: نزلت في أربع آيات من كتاب الله وذكر منها هذه الآية.

    وذلك أنه اشتهر ببر أمه، فلما أسلم قالت له: والله يا بني! لن أطعم ولن أشرب ولن يظل رأسي ظل بيت ما لم تعد لديني وتترك هذا الدين المبتدع. فسكت عنها، فمر اليوم الأول فلم تأكل ولم تشرب ولم تستظل، فسكت عنها، ثم مر اليوم الثاني والثالث وهي كذلك، وقد أخذت تضعف وتتدهور صحتها فقال لها: يا أماه! إنك لتعلمين طاعتي لك وبري بك، والله لو كان لك مائة نفس فخرجت نفساً نفساً على أن أترك دين محمد لم أفعل، فانظري لنفسك: كلي أو لا تأكلي، واشربي أو لا تشربي! فعندما رأت الجد والصرامة في قوله دخلت الغرفة فأكلت وشربت.

    وبسبب إرادته القوية وإيمانه الثابت انضمت إليه فآمنت بإيمانه وأسلمت بإسلامه، وذلك نتيجة شخصيته وقوة عزيمته وقوة إيمانه وإسلامه.

    ولقد ابتلي المسلمون في مكة أشد البلاء من الجوع والتعذيب والضرب ووضع الحجارة عليهم في وقت شدة الحر عندما تكون الشمس في كبد السماء، ومعلومة شدة الشمس في أيام الحر هنا في مكة، فقد كانوا يضعون الحجارة على بطونهم وظهورهم، ويربطونهم بالحبال ويسلمونهم لعبيدهم وغلمانهم ليجروهم في أزقة مكة ودروبها؛ ليكفروا بالله وليرتدوا عن دين الله، وهم لا يقولون إلا أحد أحد، فمات من مات منهم، وكان أول من مات في سبيل الله سمية أم عمار زوجة ياسر رضي الله عنها، ودخلت في عموم قول النبي عليه الصلاة والسلام: (من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة).

    فأول من آمن بهذا الإسلام وبمحمد عليه الصلاة والسلام امرأة، وهي أم المؤمنين الأولى السيدة خديجة رضوان الله عليها، وأول من استشهدت في سبيل الله امرأة، وهي سمية أم عمار، فكان لـخديجة أجرها وأجر من آمن بعدها، ولـسمية فيما استشهدت به أجرها وأجر من استشهد في سبيل الله بعدها باستمرار.

    وأول من هاجرت في سبيل الله البكر العذراء عاتكة بنت عقبة بن أبي معيط ، وأبوها الكافر المرتد عقبة كان من أشد أعداء الله على رسول الله، وقد أسر في غزوة بدر فقتله النبي عليه الصلاة والسلام كما قتل ذاك الشاعر الذي كان يهزأ بالقرآن وبنبي الله عليه الصلاة والسلام، الذي كان يقول: أنا أستطيع أن أقول كما يقول محمد، إن هي إلا أساطير الأولين.

    وعندما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل عقبة والد السيدة الجليلة عاتكة قال له: يا محمد! لم خصصتني بالقتل؟ فلم يجبه، ثم قال: لمن تترك الصبية؟ قال: للنار، وكان ولده مع دعواه الصحبة منافقاً أو أشبه بالمنافقين، وهو الوليد بن عقبة المشهور في التاريخ الأول في الإسلام، أما عاتكة فقد كانت من أنبل المؤمنين وأول من هاجرت من مكة إلى المدينة، هجرت أباها الكافر وأهلها الكفار، وهاجرت قبل الرجال جميعاً، وعندما اشتد البلاء على المسلمين جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله! ألا ترى هذا البلاء الذي نعيش فيه؟ فادع الله أن يرفعه عنا، فأخبرهم أن من قبلهم كانوا ينشرون بالمناشير حتى تُقسم رءوسهم، وتمشط أجسادهم بأمشاط من حديد ما بين لحمهم وعظمهم، وهم يأبون إلا الإيمان والصمود على الإسلام والثبات على توحيد الله، ثم قال لهم: (ولكنكم قوم تستعجلون)، ومعناه: أن النصر سيأتي، والعزة ستأتي، ومكة ستنفردون بحكمها وستخرجون كفّارها ومشركيها، ولكن الأمر مرهون بوقته، فمن استعجل الأمر قبل أوانه عوقب بحرمانه كما قال الحكيم المسلم الفيلسوف.

    قال الله تعالى: وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [العنكبوت:8] أي: يا آباء ويا أبناء! ستعودون إليّ وأُحاسب المحسن وأجازيه على إحسانه، وأُحاسب المسيء وأجازيه على إساءته، والله يعلم الصادق من الكاذب، والأعمال الظاهرة تدل على الأعمال الباطنة، وهذه بشرى لفاعلي الخير، وهو نذير لمرتكبي الشر، فهم يرجعون إلى الله جميعاً، وسنرجع جميعنا إلى الله، والله يعلم أعمالنا، وسيجازي كلاً منا على عمله إن خيراً فخير وإن شراً فشر.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (والذين آمنوا وعملوا الصالحات لندخلنهم في الصالحين)

    قال الله تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ [العنكبوت:9].

    ومعنى ذلك أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كفّر الله عنهم سيئاتهم وجازاهم بأحسن أعمالهم؛ وأدخلهم في عداد الصالحين، فالرسل أولاً فالأنبياء فالصالحون، فهم مع الصحابة في صلاحهم، ومع التابعين في صلاحهم، ومع الأخيار العبّاد في صلاحهم، فهم في طبقة الصالحين الخالدين إذا صدق إسلامهم وبان صدقهم، ومن أسر سريرة ألبسه الله ردائها وأصبح في عداد الصالحين.

    وفي طبقات الرجال في كتب التراجم يقولون عن فلان: كان صالحاً، وعن فلان: كان منافقاً، وعن فلان: كان صدّيقاً ومنذ عصر الصحابة، فنحن نقول: المهاجرون الأول والأنصار الأول، ونقول: المنافقون والمرتدّون، ونقول: مانعوا الزكاة، إن كان هذا في العصر النبوي فما بالك بما بعده؟ وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً، ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً).

    وكون المسلم دخل في طبقة من طبقات الصالحين تلك رتبة عالية، فقد أكثر من تكفير السيئات والمجازاة بالحسنات، كما أن الصادق باستمرار يكتب مع الصادقين والله مع الصادقين، وكذلك الكاذب الذي اعتاد الكذب دوماً واستمراراً يكتب مع الكاذبين الذين لا يصدقون.

    والذي فعله علماء الأمة من السلف الصالح عند تلقيهم وقبولهم للأحكام عن رسول الله عليه الصلاة والسلام أنهم سجّلوا الرواة من بعد عصر الصحابة، وبينوا الصادق من الكاذب، أما الصحابة فكلهم عدول، فمن ارتد أو نافق خرج من الإسلام، ومن بقي صادقاً في دينه فهو ثقة، والتابعون يطرأ عليهم الصدق والكذب وإن كان يغلب عليهم الصدق، ومن جاء بعدهم لا بد من معرفة الصدق والكذب، وصدق الصادق، وكذب الكاذب.

    وطريقة رجال الجرح والتعديل أنهم إذا قبضوا على راو كذبة واحدة لم يؤاخذوه بها فإن زاد كُتب مع الكاذبين وأدخل في سجل الكاذبين، مثل ميزان الاعتدال للذهبي ولسان الميزان للـحافظ ابن حجر العسقلاني وكتب الضعاف في أعلام الجرح والتعديل، ومهما صدق بعد ذلك لا تُقبل له رواية، فيقولون عنه: قد اختلط كذبه بصدقه، وصدقه بكذبه، ولا يستطيعون أن يميزوا ما قاله صدقاً وما قاله كذباً، فيستغنون عنه وعن كلامه، ويبقى الكذب في سنده باستمرار، ويصبح الحديث موضوعاً لوجود فلان فيه وهو كذّاب.

    ولذا قيل: إن راعياً للأغنام كان يصيح ويقول: الذئب الذئب! فخرج أهله لينقذوه فوجدوه قد كذب عليهم، ثم كررها مرتين أو ثلاثاً، ومرة جاء الذئب حقيقة فصاح بأعلى صوته: الذئب الذئب، فما صدّقه أحد، وإذا بهم يجدونه بعد ذلك قد افترسه الذئب ولم يترك منه شيئاً، فكان ضحية كذبه، فهو على كل حال عبرة للكثير من تلاميذنا وغيرهم.

    وقوله سبحانه وتعالى: لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ [العنكبوت:9] أكد الفعل المضارع باللام، وبنون التوكيد الثقيلة أنهم سيكونون مع الذين امتحنوا فنجحوا وفازوا وأصبحوا صالحين صادقين مؤمنين حقاً.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ومن الناس من يقول آمنا بالله...)

    قال الله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ [العنكبوت:10].

    أي: من الناس طبقة مترددة بين الكفر والإيمان لا تكاد تُبتلى أو تختبر أو تفتن بشيء إلا وضاع إيمانها ونافقت، وقال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ [العنكبوت:10] ولم يقل: ومن المؤمنين؛ لأن من نافق ليس مؤمناً، ودعواه الإيمان دعوى كاذبة، وإنما يقول بلسانه.

    قال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ [العنكبوت:10] أي: إذا امتحن أو اختبر لأجل دينه وصدقه، وطاعته وإعلانه إسلامه؛ أو أصابه الإيذاء البشري عندما يؤذى به يجعل فتنة الناس كعذاب الله، فيضطرب ويرتد عن الإسلام ويترك الإيمان وصار شيوعياً أو اشتراكياً أو ماسونياً!

    وهذه الأديان اليهودية الجديدة ابتلي بها المسلمون في أقطارهم وفي بلادهم، فعندما يمتحن هذا الامتحان يترك الدين فلا يصلي.

    فالمنافق إذا أوذي لأجل دينه وإذا امتحن لأجل إسلامه، إذا قيل له: دع الإيمان وكن مع الكافرين، فإنه يضطرب حيناً ويرتد حيناً ويجعل فتنة الناس وعذابهم كعذاب الله، لا يفكّر أنه مهما امتحن ومهما عُذِّب في الدنيا إن هو ضاع إيمانه واستجاب لكلام أئمة الشياطين والكافرين لم يقارن بين عذابهم وعذاب الله فيما إذا ارتد أو نافق أو اضطرب في إسلامه ودينه؛ وهذا لضعف إسلامه من الأصل ولعدم رسوخه في الإيمان من أصله.

    إذا أوذي في الله لأجل دينه وامتحن لأجل إسلامه يسرع إلى الكفر فيرتد ويجعل عذاب الناس من المصيبة والبلاء يعادل عذاب الله، فلا يخاف من عذاب الله المنتظر له، وإنما يخاف من عذاب الناس له فيرتد ويكفر ويقول للناس: ألا تعذروني! قال تعالى: جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ [العنكبوت:10].

    والخطاب لنبينا صلى الله عليه وسلم وأصحابه المؤمنين الصادقين وقد كان معهم جماعة من المنافقين كـعبد الله بن أبي ابن سلول كبير المنافقين.. فقد كان المنافقون من المدينة ومن اليهود ادعوا الإسلام وكانوا كذبة فجرة، فإذا كان النبي في عز ونصر يقولون للنبي وللمسلمين: إنا كنا معكم، قال تعالى: وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ [العنكبوت:10] أي: لم لا تقاسموننا الغنائم؟ ولم لا تشركونا معكم في العز والنصر؟ ألم نحضر المعركة؟

    وقد حضروا وألبوا على رسول الله، وحضر في غزوة أحد عبد الله بن أبي ابن سلول ومعه المئات من المنافقين أمثاله في عزّ المعركة، فانسحب هو ومن معه فانتقلت المعركة من نصر إلى هزيمة لفعل هذا المنافق، والنبي عليه الصلاة والسلام لاقى الشدائد في المعركة، فقد سقط في حفرة وانكسرت ثناياه عليه الصلاة والسلام، ودخلت حلقتا المغفر -وهو من الحديد الذي كان لابساً له في الحرب- في خده إلى أن وصلت إلى أسنانه، إلى أن جاء الصحابة بعد ذلك فأخذوا هذا الحديد بأسنانهم إلى أن طارت الأسنان والثنايا، ولما أخذوا بيده لم يستطع عليه الصلاة والسلام لكثرة ما نزفت دماؤه في الحفرة أن يصعد منها، فوضع الصحابة ظهورهم فصعدوا به بعد بلاء وجهد.

    وفي غزوة الأحزاب لاقى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أشد المعاناة، وما كاد أن يصل إلى البيت حتى جاءه جبريل وقال: إنا لم ننزع لأمة الحرب بعد، فاغز بني قريظة، فذهب إلى بني قريظة، وقال عليه الصلاة والسلام لأصحابه: (لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة)، وذهب معه الكثير من الصادقين من المهاجرين والأنصار إلى بني قريظة وهم جرحى تسيل دماءهم.

    وقد لقي النبي عليه الصلاة والسلام من المنافقين الشدائد، فكان هؤلاء المنافقون إذا كانت المعركة هزيمة أظهروا الكفر وأظهروا التشنيع، وإذا انتصر النبي عليه الصلاة والسلام كما انتصر في غزوة بدر جاء المنافقون مسرعين وقالوا: ألم نكن معكم؟ قال تعالى: وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ [العنكبوت:10] أي: في النصر.

    فهم مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ [النساء:143]، فالمنافق ذو وجهين: وجه مع المؤمنين ووجه مع المنافقين، وهؤلاء طبقة لم تنته قط من الدنيا، فقد كانت ولا تزال كما كانت أيام نبي الله عليه الصلاة والسلام وأصحابه رضوان الله على أصحابه، فهذه الطبقة ملازمة لكل عصر.

    وإذا ظن المؤمن أنه سيكون مؤمناً ولا يختبر في دينه ولا يُفتن في دعواه ليُعلم هل هو صادق أو كاذب، فإنه يكون ضعيف الإيمان، ويكاد في أول امتحان يفقد دينه وإسلامه، وقد حصل هذا كثيراً، فيظهر البعض على غاية من التقوى والصلاح فإذا به يُبتلى يوماً إما ببلاء سماوي أو بلاء بشري، وإذا به يتزعزع، وإذا به يترك الصلاة وقد كان يصلي، فكان مؤمناً فأصبح من المنافقين..، وهذا إيمانه في الأصل غير ثابت وغير مستقر؛ لأن الإسلام لم يخالط بشاشة قلبه بعد ولم يذق حلاوته.

    قال تعالى: أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ [العنكبوت:10].

    يقول الله لنبيه: قل لهؤلاء: إن الله جل جلاله أعلم بما في صدور العوالم كلها والخلق كلهم مؤمنهم وكافرهم، إنسهم وجنهم، فالمنافقون الذين يزعمون الإيمان ويظنون أنهم يخفون على الله، هذا من سخافة عقولهم وضياع إيمانهم، وهذا يدل على أنهم لا عقل ولا دين لهم.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وليعلمن الله الذين آمنوا وليعلمن المنافقين)

    قال الله تعالى: وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ [العنكبوت:11].

    أي: ليرى ذلك، وإلا فالله يعلم الشيء قبل كونه، ويعلمه بعد كونه، ويعلم ما لم يكن لو كان كيف يكون.

    وَلَيَعْلَمَنَّ [العنكبوت:11] أي: ليري ذلك في أنفسهم، وليراه غيرهم، وليكونوا على قناعة أنهم اكتشفوا وفضحوا.

    وأكد الفعل المضارع (يعلم) بلام التوكيد للقسم، وبالنون الثقيلة، فالمؤمنون يعلمون حتى يظهر إيمانهم ويراه الناس ويكونوا على ثقة بأنفسهم، والمنافقون ليتأكدوا بأنفسهم، وليعلموا أن الله يعلمهم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756036521