يقول ربنا جل جلاله: لما أن جاءت ملائكته إلى لوط اغتم وحزن من أجلهم، وأخذه هم وكرب، وضاق بوجودهم ذرعاً، وخاف عليهم من فسقة قومه إن آواهم، وإن تركهم خاف عليهم كذلك من أن يصلوا إليهم بما اعتادوه من فحشاء وبلاء مما لم يسبقوا له في الأمم السابقة.
ولم يشعر أول مرة بهؤلاء الرسل الكرام، فقد ظنهم بشراً من الناس؛ لأنهم أتوا إليه في صورة شباب حسان، ولم يدر أنهم في الأصل ملائكة، وإذا بهم يشعرونه بحالهم وأنفسهم ويقولون: يا لوط لا تخف من قومك أن يصنعوا شيئاً، فأنت في حفظ متين، ولا تحزن عليهم فسيصيبهم ما أصاب الفسقة الفاجرين أمثالهم، فلا تخف ولا تحزن فإنا قد جئنا لعقابهم أمراً من الله جل جلاله، وإنا منقذوك ومبعدوك عن البلاء الذي سيصيبهم، وكذلك أهلك وأسرتك وبنتيك ومن معك من آل وأقارب وأتباع مؤمنين.
وقوله تعالى: إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ [العنكبوت:33].
أي: إلا زوجتك فإنها كانت ممن غبر في الخيانة والكفر والإجرام والتواطؤ مع قومك على فعل الفاحشة والبلاء، فكانت تدلهم على الشباب الأحداث الذين يحاولون المجيء إلى لوط عليه الصلاة والسلام، فإنها لن تنجو وستعاقب عقابهم، وتضرب ضربهم.
أي: أمر الله جل جلاله الملائكة بأن تنزل عليهم الرجز من السماء، والرجز هو البلاء والعذاب، والرجم بالحجارة، وخسف الأرض بهم.
فقد جاء جبريل عليه الصلاة والسلام ومعه جمع من الملائكة الكرام إلى أرض سدوم التي كان يسكنها قوم لوط، فأخذوها واقتلعوها من جذورها ومن أعماقها، وصعدوا بها إلى أعلى الأجواء حتى سمع من في السماء نباح كلابهم، ونهيق حميرهم، وصياح رجالهم، وعويل نسائهم، ثم قلبوا عاليها سافلها، ثم أتبعوهم حجارة من سجيل تضربهم ذات اليمين وذات الشمال، وفي كل جانب يمكن أن يهلكوا به إلى أن هلكوا ودمروا وأصبحوا حديث أمس الدابر.
وقوله تعالى: بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ [العنكبوت:34] الباء هنا باء السببية، أي: بسبب فسقهم وفحشائهم وفسادهم ومنكرهم.
أي: وتركنا من هذه الأرض -أرض لوط- آية وعلامة واضحة ظاهرة (لقوم يعقلون) الأمور، ويعون الأشياء ويفهمونها، وكانت تلك العلامة والبينة عندما أخذت الأرض من قعرها ومن جذورها، وجعل عاليها سافلها، ثم قذف بها في الأرض، وهذه علامة للعرب وهم ينتقلون بين مكة والشام، أصحاب رحلة الشتاء والصيف، فكانوا يمرون على أرض سدوم وإذا بالأرض تصبح بحيرة سوداء الماء منتنة، لا تنبت ولا يصلح فيها نبات، وأصبحت حجارة سوداء وذات مياه سوداء علامة بينة على هؤلاء الذين عوقبوا ورجموا من السماء، وقلبت بهم الأرض عاليها سافلها، وأصبحت أرضاً عقيمة لا تنبت، ولا تنفع، ولا يشرب ماؤها.
كان هذا بين جداً في صدر الإسلام، ولا يزال هذا إلى اليوم، فالقرية تقع في أرض الأردن وهي البحر الميت، وماؤه لا يصلح للنبات، ولا يشرب ولا يسقي شجراً ولا دواب، بل شربه فيه ضرر وأذى لمن شربه من إنسان وحيوان.
فكانت تلك آية بينة، وعلامة واضحة لقوم يعقلون الأمور، ويملكون الفهم والوعي.
وهذا جزاء كل من ارتكب مثل هذه الفاحشة، والعرب لم يكونوا وقت نزول القرآن والبعثة المحمدية يعلمون هذه الفاحشة، ولم يسمعوا بها قط، حتى قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: والله لولا أن القرآن ذكر أن هناك أقواماً يأتون الرجال لما قبلت ذلك ولما صدقته، أيخالفون الشيء في طبيعته؟ أيكونون شواذ في خلقتهم؟ يدعون ما خلق الله لهم من أزواجهم، ويأتون هذه الفواحش والمنكرات.
وفي خلافة أبي بكر رضي الله عنه حدث هذا البلاء فرفعت إليه قضية، أن رجلاً أتى رجلاً كما يأتي الرجل زوجته، وإذا به يجمع الصحابة ويستشيرهم في عقوبة الفاعل والمفعول به، فقال قوم: نرميهم من أعلى جبل كما صنع الله تعالى بأهل لوط، عندما رفع أرضهم إلى السماء وجعل عاليها سافلها.
وقال بعضهم: بل نرجمهم بالحجارة كما يرجم المحصن أي: الذي تزوج رجلاً كان أو امرأة.
وقال بعضهم: نحرقهم بالنار؛ لأنهم رموا بحجارة من سجيل، وهي من جهنم فحرقتهم، فاختار أبو بكر رضي الله عنه من هذه المقترحات أن يكشفهم عراة إلا ما يستر العورتين ووضعهم في أعلى الجبل، ثم رماهم من أعلاه إلى أن وصلوا إلى أسفله ممزقين أشلاء وقطعاً.
كان هذا حكم أبي بكر رضي الله عنه لمن صنع هذا الفعل، واختلف الفقهاء في ذلك فقال البعض: يرجم الفاعل والمفعول محصناً كان أو غير محصن.
وقال البعض الآخر: يفتلان معاً.
وقال البعض: بحرقهما.
وقال البعض: يصنع بهما ما صنعه أبو بكر.
وأجمعوا جميعاً على أن فعل ذلك فحشاء ومنكر.
فعقاب الفاعل والمفعول به بما يراه الإمام ردعاً لأمثالهما وزجراً من عودة هذا بين الناس، وعقاباً لهما بأن يكونا في باطن الأرض، إذ وجودهما على ظهرها يكون سبباً لنشر هذه الفحشاء، ولعدوى الناس بها.
قال تعالى: وَلَقَد تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [العنكبوت:35]، هكذا قال الله، وهذا صنيعه بهم، بسبب كفرهم وما كانوا يرتكبونه من المنكرات من كل لون ونوع في مجالسهم وفي ندواتهم.
أي: كما أرسلنا نوحاً إلى قومه، وأرسلنا لوطاً إلى قومه، وأرسلنا إبراهيم إلى قومه، أرسلنا شعيباً إلى أهل مدين نبياً ورسولاً، فجاء يدعوهم إلى الله قائلاً لهم: يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الآخِرَ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ [العنكبوت:36].
أي: يا أهلي وعشيرتي! إليكم أرسلت، أن آمركم بالمعروف وأنهاكم عن المنكر، وأدعوكم إلى عبادة الله الواحد، وأن تتركوا عبادة الأوثان والأصنام.
واعتقدوا أن اليوم الآخر آت لا محالة، وهو يوم البعث، فهو اليوم الذي يحاسب الله فيه الناس، من أتى بالخير فله الجنة، ومن جاء بالشر فله النار، فخافوا من عذاب الله وحسابه يوم القيامة، وتوقعوا المجيء واحسبوا حسابه وأعدوا له ما تصنعون من خير، فإن ارتكبتم سوى ذلك فاستغفروا الله وتوبوا إليه، فهو يغفر لمن تاب.
وقوله تعالى: وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ [العنكبوت:36].
العثو أشد أنواع الفساد، ويشمل الكفر بالله وقطع السبيل، وأنواع المناكر، وقوم شعيب كان فيهم من المنكرات ما كان في أمثالهم من الكفار والمشركين وعبدة الأوثان، فكانوا يقطعون السبيل، ويأتون المنكر، ويشركون بالله، فأمرهم نبي الله شعيب عليه الصلاة والسلام بعدم الفساد في الأرض، لعل الله يغفر لهم، ويجازيهم بخير.
أهل مدين عندما جاءهم نبيهم شعيب برسالة الله وبعبادة الله وحده، كذبوا رسالته، فعاقبهم الله بالرجفة، فرجفت بهم الأرض، وتطايرت حجارها وحصاها ورفعوا إلى عليين، فكان يسقط الرجل منهم إلى الأرض مقطوع الرأس، حتى كأنهم أعجاز نخل خاوية، أي: كأنهم النخل وقد أزيل سعفها، وهكذا بقوا أجساماً بلا رءوس جاثمين، أي: موتى، بما أرسل عليهم من الرجفة التي رجفت بهم الأرض فهلكوا، هلكوا بريح عاصف فيه حصباء وحجارة، رفعتهم الريح إلى أعلى عليين، ثم هووا على أم رءوسهم، وقد فصلت الرءوس من الأجساد، فأصبحوا كما وصفهم الله كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ * فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ [الحاقة:7-8]، ذهبوا إلى أمس الدابر، وأصبحوا صحائف تتلى، وأخباراً تقص، وكأنهم لم يعيشوا يوماً.
أي: وعاد وثمود أرسل إليهم رسلاً مبلغين، مبشرين ومنذرين، كما أرسل نوحاً وإبراهيم وشعيباً ولوطاً إلى أقوامهم، أرسل إلى قبائل عاد هوداً، وإلى قبائل ثمود صالحاً، وكانت قبائل عاد في الأحقاف قريباً من حضرموت في أرض اليمن، وكان قوم صالح بالحجر في المدائن، في أرض الحجاز، في الحدود بين الحجاز والشام.
وإذا بهم كذبوا وكفروا وقاموا على أنبيائهم بالصد والمعارضة والمقاومة، فقال الله عنهم: وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ [العنكبوت:38].
أي: وعاداً وثمود قد تبين لكم أيها السامعون كيف كانت عاقبتهم، قد تبين للناس في عصر النبوة عندما ذهب صلى الله عليه وسلم إلى غزوة تبوك ومروا على الحجر، فأخذوا ماءها فطبخوا وعجنوا به، وإذا بالنبي عليه الصلاة والسلام يأمرهم برمي ذلك العجين وعدم أكل الخبز، وبطرح ذلك الطعام وعدم أكله، وأن يخرجوا من هذه الديار التي غضب الله على أهلها، وألا يدخلوها إلا باكين أو متباكين، حتى لا يصيبهم ما أصابهم من لعنة وطرد من الرحمة، إذ كانوا كفرة بالله، متمردين على الله، وقد رزقهم عقولاً مستبصرة، وأجساماً قوية، فبنوا حضارات سبقوا بها الناس، فكانوا ينحتون من الجبال بيوتاً، وكانوا عمالقة الأجسام أقوياء، وكانوا من أتقن الناس للصناعات وللبناء وللمزارع، وكانوا على غاية ما يكون من الشدة والبأس، ولكنهم لم يشكروا النعمة، ومن يكفر بالنعمة تزال عنه وتسلب منه، قال تعالى: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ [إبراهيم:7].
والله تعالى لفت أنظار الناس أن يروا آثار اللعنة والغضب عليهم، وما أصابهم من صيحات ورجفات بحيث أصبحوا كأنهم جذوع نخل خاوية، وقد ذهب بهم الهلاك كل مذهب، فلم يبق منهم أحد، فبعضهم كان في البيوت والغرف، وبعضهم في الأزقة، وبعضهم بين الشجر، وعندما جاء هذا العذاب والبلاء ذهبوا وهلك كل واحد منهم على ما كان عليه في نفس الوقت والحال، وتركوا آثارهم، تركوا الخراب في دورهم، وتركوا المياه متغيرة بالسواد، وتركوا شجرهم وقد احترق وذهب، وذلك في الأحقاف في أرض اليمن قرب حضرموت، وذاك بالحجر من أرض الحجاز قرب تبوك، في الحدود بين الحجاز والأردن من أرض الشام.
فالله يقول: يا هؤلاء الذين كفروا بمحمد ورسالة محمد تفكروا قليلاً، وانظروا ماذا حل بالأمم السابقة من قوم نوح وقوم إبراهيم، وقوم لوط، وقوم شعيب، وقوم هود، وقوم صالح، وكانت نتائج كفرهم وعنادهم، أن عاقبهم الله وأهلكهم وأنهى ذكرهم ووجودهم، وكأنهم لم يعيشوا يوماً.
وقوله تعالى: وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ [العنكبوت:38]، أي: تبين لكم آثار دورهم بعد خرابها ودمارها، وآثار ما بقي بعدهم، وما صنع الله بهم من لعنة وغضب.
وقوله تعالى: وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ [العنكبوت:38] أي: فقد زين لهم الشيطان أعمالهم، فأخذوا يعتبرونها أعمالاً حسنة وصالحة ومجيدة ينبغي أن يجازوا عليها، وهذا من سخافة العقول، وظلمة الكفر، وضلال الدين، وهكذا صنع بهم، قلبوا الحقائق واعتبروا الهدى فساداً، والظلمة نوراً، إلى أن تربصت بهم الأيام والشيطان يغريهم، ويزين لهم أعمالهم، إلى أن هلكوا وكأنهم لم يعيشوا يوماً.
وقوله تعالى: فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ [العنكبوت:38].
أي: دفعهم، وأبعدهم عن الطريق الحق، وعن السبيل المستقيم، وعن طريق الهدى والتوحيد والإيمان بالله ورسالاته وكتبه.
وقوله تعالى: وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ [العنكبوت:38].
أي: كانوا قبل ذلك ذوي عقول مفكرة، ولكن ذلك في شئون الدنيا لا الآخرة، فكانوا يتمتعون بالقوة أبداناً، وعقولاً، وحرباً وقتالاً، بنوا الأبنية والقصور فوق الجبال وداخل الجبال، فنحتوا من الجبال صخوراً فبنوها قصوراً، ونحتوا داخل الجبال بيوتاً، فأقاموا فيها، فهم في فصل الصيف يشعرون بالبرد، وهم في البرد في حرارة، وكأنها المكيفات في عصرنا هذا، ومع ذلك علموا من الدنيا ظواهرها وهم عن الآخرة غافلون، وبها كافرون، لم يفكروا يوماً من أين جئنا؟ وإلى أين نذهب؟ ومن الذي أتى بنا؟ لم يفكروا في الخالق، هل سيعيشون سبهللا؟ هل خرجوا للدنيا عبثا؟ فكانوا غافلين وضالين، إلى أن انتهت حياتهم ووجودهم، وإذا بهم قد أصبحوا عبرة ومثلاً للمعتبر.
أي: وكذلك أرسل الله تعالى إلى قارون وفرعون موسى عليه الصلاة والسلام بالآيات البينات، والمعجزات الواضحات، يدعوهم إلى الله، إلى ترك الأوثان.
والمعنى: اذكر يا محمد! قارون الذي أوتي من الأموال ما إن العصابة والجماعة من الناس لا تستطيع حمل مفاتيح خزائنها لثقل تلك المفاتيح، وكان في تلك الخزائن الذهب والفضة والمجوهرات التي لم يكد يملكها إلا القليل من الناس قبل وبعد، فإذا به يتيه بهذا المال على الخلق، ويجعل ذلك حقاً من حقوقه، ولا يكاد يهتم بأحد، تعاظماً وتكبراً وطغياناً وجبروتاً.
ومن يتأله على الله يكذبه، والكفر بالقدر بلاء في الدنيا وبلاء في الآخرة، وأول كفر في الأرض كان من إبليس بسبب القدر، وقارون كان من قوم موسى فبغى عليهم، وفرعون الذي قال لقومه: لا أعلم لكم إلهاً غيري، وقال عن نفسه: أنا ربكم الأعلى، واستدل على ذلك بسخافات وحقارات، فمنها ما قاله الله تعالى: أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي [الزخرف:51]، اتخذ ملكه لجزء من الأرض سبباً لتألهه، وملكه لا يكاد يعتبر نقطة في مياه الأرض العذبة، ونصب نفسه على الناس إلهاً، فكان كاذباً فاجراً سخيفاً.
وهامان كان وزيراً لفرعون وناصره على ذلك وواطأه، وقد أرسل الله لهم موسى يدعوهم إلى الله بالآيات البينات، فقد جاء بتسع آيات، جاء بالعصا، وباليد تخرج من الجيب بيضاء كأنها اللؤلؤ الدري، وبالضفادع، وبالدم إلى أن جاء بأن ينفلق له البحر، فكان كل فرق كالطود العظيم، فكان جواب هؤلاء أنهم كفروا بالله، وخرجوا عن أمر الله، فجوزوا على ذلك.
وقوله تعالى: وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ [العنكبوت:39].
هؤلاء الثلاثة جاءهم موسى عليه الصلاة والسلام برسالة الله وآياته البينات، فاستكبروا في الأرض، وكذبوا بالآيات التي أتى بها موسى، وجحدوا الحق وأبوا إلا الكفران والجحود، وعاشوا على ذلك، إلى أن عاقبهم الله بما نعلمه وبما سيقصه علينا مجدداً.
اتخذوا الكبرياء رداءً وديناً، وتكبروا على موسى وهارون، وتكبروا على المؤمنين من عباد الله واتخذوهم خولاً وعبيداً.
وقوله تعالى: وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ [العنكبوت:39].
أي: لم يسبقوا غيرهم إلى الإيمان بالله، أو لم يفلتوا منا عن عقوبتهم، فعاقبهم الله ودمرهم واحداً واحداً.
ولم يكونوا على ما كانوا عليه من شئون الدنيا سباقين للإيمان بموسى وهارون، وللإيمان بما أنزل عليهم من توراة، بل كانوا سباقين للكفر حريصين على الشرك، متكبرين على الله ومتعاظمين عليه.
يقول جل جلاله: فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ [العنكبوت:40] التنوين هذا هو تنوين العوض، أي: كل قبيلة، وكل أمة، وكل طاغية وجبار ممن ذكر الله من قوم هود وقوم صالح، وقارون ، وفرعون وهامان؛ كل واحد منهم لقي عذابه نتيجة كفره وجرائمه وذنوبه، فكل واحد منهم أخذه الله وأهلكه وعذبه بسبب ذنبه والجرم الذي قام به، وبسبب الشرك الذي عمله.
يقول تعالى: َفَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا [العنكبوت:40] وهم عاد قوم هود، وذلك عندما كفروا بالله فأرسل الله عليهم الحصباء والريح العقيم، فكانت تضرب هذا وتصيب هذا وتقتل هذا، وتفصل رءوسهم عن أجسادهم، إلى أن أصبحوا كأعجاز نخل خاوية.
وهذه الآية فيها أسلوب اللف والنشر كما هو معلوم في كتب البلاغة، أي: أن كل حكم يعود للأول المذكور على الترتيب، فالمذكور أولاً هم عاد قوم هود، فكان عقابهم أن حصبوا بالحصباء إلى أن طارت الرءوس عن الأجساد.
ومنهم من أخذته الصيحة، فصاح بهم جبريل عليه السلام، وهؤلاء هم ثمود قوم صالح، وذلك عندما خالفوه، وخرجوا عن أمره، وطلبوا معجزة الناقة أن تخلق من الصخر بطول كذا وعرض كذا، فدعا صالح ربه فكانت الناقة كما طلبوا، فقتلوها عتواً على الله، وكفراً بأنبياء الله، وظلماً لهذا الحيوان الذي لم يصنع شيئاً، وإنما خلق إظهاراً للمعجزة، وإذا بالله الكريم يصيبهم بالصيحة، فصاح بهم جبريل صيحة ارتجت لها الأرض بحيث خرجت قلوبهم من حلاقيمهم وصرعوا جميعاً، وهلكوا حيث هم، وآثارهم لا تزال في أرض الحجر من المدائن، في حدود الحجاز والشام، وتلك آثار من غضب الله عليهم ولعنهم؛ نتيجة كفرهم وشركهم.
وقوله تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ [العنكبوت:40] وهو قارون ، خرج في زينته يتيه ويتعالى على القوم، وقد خرج في كذا ألف راكب، وكذا ألف حصان وجواد، فتمنى القوم زينته وحليته، ويقولون: يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [القصص:79].
وهكذا ظنهم وتوهمهم حتى خسف الله به وبداره وبجميع كنوزه الأرض، فأصبح في قعرها وكأنه لم يكن يوماً على وجه الأرض؛ عقوبة لكبريائه، فقد أذله الله.
وقوله تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا [العنكبوت:40]، والذي أغرق فرعون وهامان وقومهما، عندما كذبوا نبوة ورسالة موسى وهارون، على كثرة ما جاءهم من آيات بينات، ومعجزات واضحات، لكنهم أبوا إلا الكفران.
بعد ذلك أمر الله موسى وقومه بأن يتركوا أرض مصر، فجاوزوا البحر، وإذا بهؤلاء يلحقونهم، فيدخل فرعون وهامان وجنودهما البحر، وأصبحت الأرض قبل ذلك يبساً لا ماء فيها، وأصبح الماء يميناً وشمالاً كالجبلين العظيمين، فدخل موسى وهارون وقومهما المؤمنون، فلحقهم فرعون وهامان ، وهما يظنان أن الأرض بطبيعتها وجدت كذلك، ثم دخل جميع الجيش البحر، ولم يبق أحد على الشاطئ، وإذا بالبحر ينطبق عليهم، ويصبحون طعماً للحيتان وهوام البحر، إلا فرعون، فقد حفظ الله جسده ليبقى آية لمن بعده، ولا يزال محفوظاً إلى اليوم في متاحف مصر، وهو من الأجسام المومياء، ولكن لا يعرف بالقطع، هل هذا أو ذاك؟ ولكنه واحد منهم؛ لأن قومه أو البعض الذين لم يلحقوا ممن لم يكونوا جنداً كذبوا أن يكون فرعون قد هلك، وزعموا أنه إله سيعود، إلى أن رأوا جسده جثة هامدة لا تتحرك.
وبعدما رأت الأعين، آمنوا بأن فرعون لم يكن إلهاً، وإنما كان كذاباً دجالاً.
فكما أغرق الله قوم نوح، أغرق قوم فرعون، وكما رجم قوم عاد، كذلك أصيب بالرجم قوم لوط، فقد قال الله عن قوم نوح: فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ [العنكبوت:14] فأخبرنا تعالى بأنه عاقبهم بالطوفان فغرقوا وذهبوا.
وقال لنا عن قوم لوط عندما جاءه رسل الله من الملائكة: إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ [العنكبوت:31]، إلى أن قال: وَلَقَد تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [العنكبوت:35]، فقد دمرها الله بالحاصب.
وقوله تعالى: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [العنكبوت:40] أي: أن الله جل جلاله لم يظلم ولا يظلم أحداً وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت:46].
وقال في الحديث القدسي: (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا).
فعندما أغرق الله من أغرق، وخسف بمن خسف، وأصابت الرجفة من أصابت، وحصب بالحجارة من حصب، كان ذلك جزاءً على جرمهم وذنبهم وكفرهم بالله، فأنفسهم ظلموا، وعلى أنفسهم تعدوا، وهل هناك أشد ظلماً من الشرك بالله والكفر به، وجحود آياته وأنبيائه ورسله وكتبه السماوية، وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [العنكبوت:40]، فهم الذين ظلموا أنفسهم بالشرك، وبالكفر، وبالجحود، وبالخروج عن أمر الله، وعن طاعة رسل الله بما ارتكبوه من ذنوب ومعاص وآثام.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر