فالله جل جلاله كما أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يأمر الرجال بغض الأبصار، وحفظ الفروج، والستر والعفة والحياء، أمره أن يأمر النساء بذلك؛ إذ إن الإسلام جاء للنساء كما جاء للرجال، (النساء شقائق الرجال) أي: إخوتهم الشقائق في الأحكام والحلال والحرام وجميع ما أمر الله به ونهى عنه، إلا ما صرح فيه مما يخصهن وحدهن، فقال تعالى: (وقل للمؤمنات) أي: قل: يا محمد! للمؤمنات وللمسلمات، (يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن) أي: قل لهن وهن مؤمنات: لا يليق بهن إلا أن يعشن كذلك في غض الأبصار، وحفظ الفروج، والعفة والستر والحشمة والحياء، فكما أن الرجال لا يحل لهم أن ينظروا إلى النساء وزينتهن، فكذلك لا يحل للنساء أن ينظرن إلى الرجال بشهوة، ولا أن ينظرن إلى محاسنهم وما يدعو إلى الفتنة منهم، فكل ذلك سواء، وفي عصر الصحابة عندما نزلت الآية ظن النساء أن غض البصر إنما هو خاص بالرجال وليس عاماً للنساء كذلك، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أم مكتوم وهو ضرير البصر، وكان في مجلس رسول الله بعض نسائه من أمهات المؤمنين فضللن في المجلس، وإذا بالنبي عليه الصلاة والسلام يأمرهن بأن يتركن المجلس ويخرجن، فقلن: يا رسول الله! أليس بأعمى لا ينظر؟ فقال لهما: (أفعمياوان أنتما؟) فقمن إذ ذاك من المجلس.
فكما حرم النظر إلى النساء من الرجال فكذلك حرم النظر من النساء إلى الرجال.
قال تعالى: (وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهم) (من) هنا قلنا: للتبعيض، أي: بعض النظر لا يجوز، وحد ذلك قوله عليه الصلاة والسلام لـعلي رضي الله عنه: (لا تتبع النظرة النظرة؛ فإن لك الأولى وعليك الثانية)، ونظر الفجاءة هو الذي يحدث من الرجال للنساء فجاءة فتلك النظرة الأولى هي المعفو عنها، وهي المرادة بالآية، ولكن النظرة الثانية هي المحرمة والممنوعة، وفيها الإثم والوزر.
قال: (ويحفظن فروجهن) أي: يصن فروجهن، والفروج: جمع فرج وهو مكان العفة من النساء، فأمرن بأن يحفظن فروجهن عن النظر وعن الزنا والفاحشة، وكما مضى في سورة المؤمنون أنه لا يجوز ذلك إلا للأزواج، وفي صفة المؤمنين الذين يحفظون الفروج إلا من الأزواج، قال تعالى: إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ [المؤمنون:6-7]، فمن ابتغى غير الزوجات وملك اليمين كان معتدياً وظالماً.
فالأمر للنساء كالأمر للرجال بغض البصر، وبألا يرين الرجال بشهوة، وألا يرين محاسنهم، وأن يحفظن فروجهن عن النظر إليها أو الزنا من باب أولى.
وقال ابن كثير : جمهور الأئمة على أن عورة المرأة هي عورتها في الصلاة والطواف والحج والإحرام، وعورتها كذلك هي الوجه والكفان، وإحرام المرأة في وجهها، ولكن علماءنا مع ذلك قالوا: إذا خيفت الفتنة وانتشر الفساد فيجب الأخذ برأي ابن مسعود ، خاصة وأن ابن مسعود استدل بآية واستدل بما كان في عصر الصحابة، فقد كان بعضهن متنقبات باللثام بحيث كان لا يرى منهن إلا العين، وعلى هذا عاش المسلمون قروناً في مشارق الأرض ومغاربها، وما كان ذلك يتغير إلا في العجائز والبدو، وفيما لا يكاد يكون له خطر من زينة أو محاسن.
فـابن مسعود احتج بالآية، وابن عباس احتج بالآية وما يفسرها من حديث أسماء أخت عائشة ابنتي أبي بكر الصديق رضي الله عنهم، فقد دخلت على رسول الله البيت صلى الله عليه وسلم بألبسة شفافة تكاد تظهر لون اللحم من خلفها، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم وأعرض وترك المكان ثم عاد، فوجدها لا تزال، وقد قالت لها أختها عائشة : لقد كره منك صلى الله عليه وسلم شيئاً، وإذا به يقول لها: (يا
قال تعالى: (وليضربن بخمرهن على جيوبهن) الخمر: جمع خمار، والخمار: ما يستر شعر المرأة، وكانت المرأة تستعمله حتى في الجاهلية، ولكنهن كن يكشفن نحورهن وأجيادهن وأذرعهن وظهورهن، فأمر الله جل جلاله في كتابه بأن خمار الرأس يجب أن يضرب على العنق وعلى الجيوب كلها، والجيوب: جمع جيب: وهو الشق، ومن هنا سميت الشقوق في القمصان والثياب جيوباً، وهناك جيب العنق، وجيب القفا، وجيب الآباط، كل هذه الجيوب يجب أن تستر وتغطى بالخمر، فلا يجوز أن تظهر المرأة منها شيئاً لا عنقها ولا شعرها ولا أقراطها ولا عقودها ولا أساور يدها ولا خلاخل رجلها ولا شيئاً من ذلك، كل ذلك قد حرمه الشارع وشدد فيه ونهى عنه، وأمر بالعفة والستر والمروءة والحشمة والحياء.
كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ [الأحزاب:59] أي: قل يا محمد! لزوجاتك أمهات المؤمنين ولبناتك: زينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة والأحفاد منها، وقل للمؤمنين ولنساء المؤمنين عامة يدنين عليهن من جلابيبهن، والجلباب: ما يستر جميع بدن المرأة، ولا يزال يسمى في المغرب بالجلابية ويسمى هنا بالعباءة، ويسمى في كل قطر من الأقطار الإسلامية باسم، فقال الله لنبيه: قل لجميع المسلمات من أمهات المؤمنين وبنات آل البيت وعموم المسلمات أن يدنين ويقربن عليهن الجلابيب بحيث يكون البدن جميعه مستوراً.
أما المحارم فقد أباح الشارع أن تظهر المرأة بمحاسنها الخارجية والخفية، والمحاسن الخفية: الأقراط والعنق واليدان والرجلان وبقية الزينة، وليس كشف اللحم وكشف الصدر وكشف الظهر وكشف السيقان وما إلى هذا، فقال تعالى: (ولا يبدين زينتهن) فعمم ثم خصص وفصل، فقال: (ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن) البعولة: جمع بعل: وهو الزوج، فلا يظهرن زينتهن إلا للأزواج، وللرجل أن يرى جميع بدن امرأته ولو عريانة، لكن الفقهاء مع ذلك كرهوا منه ومنها أن ينظر بعضهم لفرج بعض.
و(زينتهن) التي حرم الله إظهارها أمام الأجنبي.
وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ فمع المحارم لا حاجة لذلك، فكشف شعر الرأس والعنق والصدر وما إلى ذلك إلى أحد من المحارم لا مانع من هذا.
قال: أَوْ آبَائِهِنَّ [النور:31] آباء البنات يحل له أن يرى الزينة من ابنته، وأن تري البنت زينتها لأبيها فهو محرم لها وهي محرم له، وليست المحارم ما لا يخطر على البال مما يكون عادة مع الأجانب، قال تعالى: (أو آباء بعولتهن) أي: آباء الأزواج، وهو ما يسمى في اصطلاح بعض ديار المشرق بالعم، فأبو الزوج كذلك محرم حرمة أبدية، فإن بقيت المرأة زوجة أو طلقت فإنه يبقى محرماً لها كما لو كان أباها نفسه.
قال: (أو أبنائهن) والمرأة كذلك مع أبنائها، والأبناء كذلك مع أمهم، قال: (أو أبناء بعولتهن) أو الربائب، فابن الزوج بالنسبة للزوجة هو كولدها؛ لأنه محرم عليها حرمة أبدية.
قال: (أو إخوانهن) جمع أخ، وهو أخوها الشقيق أو غير الشقيق أي: الأخ لأب ولأم، أو الأخ لأب فقط أو الأخ لأم فقط، فكل أولئك محارم، فلها أن تظهر زينتها لهم، ولهم أن يروها كذلك.
(أو بني إخوانهن) أو أبناء الإخوة وهم من ينادونها بالعمة، فهم كذلك محارم وهي محرم لهم.
(أو بني أخواتهن) من يناديها من الأبناء بالخالة، فالخالة والعمة والزوج والأب والربيب والإخوة كل أولئك محارم لمن هذه صلتهم بها، ولمن صلتها بهم كذلك.
(أو نسائهن) النساء: جمع لا مفرد له باللفظ، ومفردها امرأة، والمعنى: المؤمنات مع المؤمنات؛ لأن الأمر بهذا للمؤمنات: (وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن)، فالمؤمنات مع المؤمنات والمسلمات مع المسلمات كذلك لهن جميعاً أن يظهرن محاسنهن وزينتهن لبعضهن، وخرج من هذا من لسن بمسلمات فهن لسن بنساء مؤمنات، أي: لسن بالنساء اللائي لهن صلة دين أو أخوة إسلامية، ومن هنا يقول جمهور العلماء بأن المرأة غير المسلمة هي من المسلمة كالأجنبي من المرأة، فلا يجوز أن تظهر لها إلا كما تظهر للأجنبي إما مستورة كاملة أو تظهر الوجه والكفين فقط.
فإن قيل: ولم ذلك؟ قالوا: لما يمكن أن تصف تلك النصرانية أو اليهودية الصفة التامة لتلك المؤمنة لأزواجهن من الكفار يهوداً ونصارى وغيرهم، وهذا قد حرمه الشارع، فإن عمر رضي الله عنه كتب لعامل الشام أبي عبيدة عامر بن الجراح رضي الله عنه فقال له: بلغني أن النساء المسلمات يدخلن في الشام للحمامات ومعهن النصارى واليهود، فامنعهن من ذلك، فقد منع الله ذلك ولم يبح إلا للمؤمنات فقط، أما أن يدخلن هكذا عرايا على النساء غير المسلمات فلا، فمنعهن أبو عبيدة من ذلك.
وقال بعض الأئمة: (نسائهن) أراد أن يفهم منها كل النساء، وأن الكافرة كذلك لا مانع منها، ولكن الآية تكاد تكون صريحة وليس هناك ما يؤكد هذا، ومن هنا ننتبه أن الآية تدل على مسلمين آخرين من الأقارب فلم يذكر الخال ولم يذكر العم؛ ليس لأن الخال والعم ليسا بمحرم، قالوا ولكن السبب: أنه لا يجوز للمرأة أن تظهر زينتها ومحاسنها للعم والخال، لأنه يمكن أن العم يتحدث بذلك لأولاده وهم أجانب، ويتحدث الخال لأولاده وهم أجانب، وقد كان صلى الله عليه وسلم ينهى الزوجات من أن يصفن النساء لأزواجهن كما لو أنهم يرونهن رأي العين، فمنع الزوجات أن يخبرن أزواجهن بأن فلانة طولها وعرضها وعينها وخدها كذا حرم الشارع ذلك؛ لأنه يمكن أن يشهي مثل هذا الوصف لزوجها، ويدعوه لما لا يليق به مما يكون خطراً على دينها ودينه، فإن كان هذا مع العم والخال وهما محرمان مؤمنان، فمع المرأة الكافرة من باب أولى.
قال: (أو ما ملكت أيمانهن) الكلمة في ظاهرها تدل على أن ملك اليمين عبيداً وإماءً إن كانوا ملكاً للمرأة بأنه لا مانع من أن يكونوا معها كالمحارم، ولكن المفسرين زيفوا هذا الفهم لبعض المفسرين وقالوا: ليس الأمر كذلك، فإن العبيد قد دخلوا من أول مرة على أنهم أجانب، ولا يدخل هنا إلا المرأة الكتابية الكافرة إن كانت أمة للسيدة المؤمنة، فلا مانع من أن تظهر زينتها لها، ولا مانع من أن تعيش معها كما يعيش المحرم مع محرمه؛ لأنها وهي تحت ملكها وتصرفها وملك يمينها كونها تصف لزوجها الكافر أو لأولاده محاسنها وزينتها مأمون هذا فهي أمتها، والشأن ألا تزوجها بكافر، وألا يكون عندها أولاد كفرة، ومن هنا قالوا: إن ملك اليمين يخص الأمة، أي: المرأة المملوكة لا العبد.
قال: (أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال) أو من عادةً يملئون البيت ممن لم يأت إلا لأجل الطعام والشراب والمتاع، وأخذ الصدقة والعطاء ممن ليس له حاجة في النساء، ولا رغبة له فيهن، وهؤلاء كالرجال المغفلين الذين عادة يتصلون ببعض البيوت والأشخاص ولا يشتهون النساء ولا يفكرون فيهن، وليست لهم الرغبة التي تكون عند الآخرين، أو الشيخ الهرم المسن الذي لا رغبة له في النساء ولا النساء لهن رغبة فيه، أو الرجال الذين هم عادة منعوا من الزواج إما لأنهم جبت فروجهم أو دقت أنثياهم فأصبحوا أشبه بالنساء، وهذا ما يسمى بالخصي، وهؤلاء لا يبقون رجالاً، بل يبقون خلقاً لا هم رجال ولا هم نساء، وتذهب منهم الرغبة بالنساء مطلقاً، فدخول هؤلاء كذلك على النساء لا مانع منه بأن يكونوا في البيوت خدماً، أو أن يكونوا ممن يتبعون الناس في البيوت لطعام أو شراب أو خدمة أو ما إلى ذلك، فإذا ظُنَّ إنسان يوماً أنه أبله أو مغفل أو مجبوب أو عنين ثم أخذ يتكلم عن محاسن النساء فإنه يمنع من الدخول عليهن، كما حصل ذلك مرة من مخنث كان يظن أنه من المغفلين، وكان يدخل البيت النبوي، وكان اسمه هيت، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فوجده وبعض أمهات المؤمنين حاضرات وهو يقول لأحد أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو ذهبت إلى الطائف ورأيت فلانة فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان، وأنها وأنها .. فقال صلى الله عليه وسلم: (أراك تفهم هذا؟ أخرجوه عنكم، فطرد) وأخرج من المدينة ألبتة، وأبعد عن سكن الناس بالمرة؛ لأنه أظهر من بلاهته وغفلته ما غر الناس فعوقب بالنفي المؤبد، وبقي منفياً حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحياة أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعثمان إلى أواسط أيامه رضي الله عنهم، فأذن له أن ينزل يوم الجمعة ليسعى فيما يتعيش به هو ومن في خارج المدينة.
فقوله: (أو التابعين غير أولي الإربة) أي: التابعين للأسر أزواجاً وزوجات ممن يخدمونهم وممن يطلبون رفدهم وصدقتهم وعطاءهم وسقط متاعهم، فهؤلاء إن كانوا لا إربة لهم ولا غرض ولا شهوة، ولا يعرفون مما يتعلق بالنساء شيئاً أذن لهم في الدخول على النساء.
قال تعالى: (أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء) (الطفل) هنا: الأطفال، فهو اسم جنس للجميع، فهؤلاء الأطفال الذين لم يطلعوا على عورات النساء بحيث لو رأوا شوهاء أو جميلة عريانة أو لابسة لا يدركون ذلك بالمرة ولا يفكرون فيه، كأبناء خمس سنوات أو ست سنوات أو أقل، أما الولد المميز الذي يستطيع أن يقول: هذه جميلة وهذه شوهاء، وهذه من صفتها كذا وهذه من صفتها كذا فهؤلاء أيضاً لا يجوز لهم أن يدخلوا على النساء، ويجب أن يمنعوا ما داموا يعرفون من النساء محاسنهن ويعرفون منهن صفاتهن، وأما أولئك الأطفال الذين لا يميزون فلا مانع، وعورة المرأة زينتها، وهكذا أعيدت الكلمة باسم (عورات) وهو ما قاله الأئمة ومفسروا الآية، فقوله: (ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها) أي: هي عورة لا يجوز أن تظهر؛ ولذلك نرى لم يذكر العم وهو محرم، ولم يذكر الخال وهو محرم وهو قول الشعبي والضحاك والأئمة من المفسرين، قالوا: منعهم أن يروا زينة المرأة أو محاسنها كيلا لا يصفوها لأولادهم فيكون بذلك كشف للعورة وهذا لا يجوز، وأما الأخ فأبناؤه محارم، والأب كذلك أبناؤه إخوة، والأخت أبناؤها محارم، وأولاد الزوج من الرضاعة فهم محارم، وكل ما ذكر الله من الآباء والأبناء في هذه الآية هم جميعاً من المحارم، ولكن لم يذكر الخال والعم لأن أولادهما ليسوا من المحارم؛ واتقاء أن يذهب العم والخال فيصف للأولاد زينة المرأة ومحاسنها، كما لو كان يراها مباشرة، فمنع من ذلك لهذا المعنى، كما منعت المرأة الكتابية والمرأة غير المسلمة من أن ترى محاسن المسلمة وزينتها؛ كيلا يتحدثن عنها لأزواجهن أو لأولادهن وهم كفار.
قال تعالى: (ولا يضربن بأرجلهن) أي: لا يضربن بأرجلهن ليبدين ما يخفين من زينتهن، وهذا لا يزال إلى الآن في بعض الأقطار، فمن حلية المرأة أن تلبس في رجليها ما يسمى بالخلاخل، فتجد المرأة تلبس ذلك في رجلها إذ تكون متسترة هكذا الشأن في المسلمات، ولكن المرأة بفطرتها تريد أن تشعر المارة بأنها تخفي من الحلية في الرجل واليد والأذنين والعنق ما يدل على رفاهيتها وعزتها على زوجها وعلى أبيها، فتفعل حركة برجليها وتضرب رجلاً برجل ليسمع صوت الخلخال وتلفت أنظار الماشين من الرجال، فإن فعلته لمجرد هذا فهو ممنوع وحرمه القرآن، وإن فعلته تبرجاً فإنه يصل إلى كبيرة من الكبائر، إذ يلتفت الرجال إليها ويتبعونها فيصبح تبرجاً للفاحشة، والله ذكر الخلخال وما في الرجل ليشير إلى كل الزينة المخفية للمرأة، فكذلك تجد امرأة خارجة وهي متسترة بسبب أو غير سبب، وتحرك يدها لتريك ما في يدها من أساور وخواتم؛ وتكشف لتريك ما في عنقها من عقود ولآلئ وجواهر وما إلى ذلك، ولتريك ما في أذنيها من أقراط، فهذا جميعاً ممنوع حرمه الله على النساء المؤمنات، وأمر الأزواج بأن يأمروا نساءهم بالعفاف والحشمة، وأمر الرجال الأولياء من أب وأخ وزوج وولد أن يمنعوا نساءهم من ذلك.
وقوله: (ليعلم ما يخفين من زينتهن) أي: ليظهرن ويعلمن من لا يعلم أن في أرجلهن خلاخل، وأنهن من المترفات ومن الصغيرات اللائي لا يزلن يلبسن الحلي.
قال تعالى: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31] توبوا يا أيها المؤمنون نساء ورجالاً مما سبق أن فعلتم من هذا في جاهليتكم أو في مبتدأ الإسلام قبل أن يحرم عليكم، توبوا إلى الله مما مضى، ومن فعلت أشياء محرمة فلتتب إلى الله ولتجدد توبة، قال تعالى: (لعلكم تفلحون) أي: لعل الله يجعلكم من أهل الفلاح فتفوزون بالمغفرة، ولعلكم تفلحون بقبول التوبة، وتفلحون عند الموت بدخول الجنان، وهكذا أمر الله جل جلاله المسلمين المؤمنين الممتثلين العابدين أن يجددوا يومياً التوبة له؛ لأنه قد يحدث ميل بشري عن قصد أو غير قصد، فالله أمر المؤمنين أن يجددوا التوبة.
ولقد كان صلى الله عليه وسلم كما في السنن والمسانيد يستغفر الله في اليوم ويتوب إليه مائة مرة، ويقول: (رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الرحيم)، ونبينا قد غفر الله له ذنبه ما تقدم منه وما تأخر، وهو معصوم كبقية الأنبياء صلى الله عليه وسلم، وما خطؤه إلا ما يعبر عنه في الآداب والرقائق بخلاف الأولى مما عاتب الله به نبيه في القرآن كما في قصة الأعمى، وقصة الفداء وعدم الإجهاز على الأعداء حينما أسروا، ولم تكن هناك أوامر إلهية حتى يقال: إنه أذنب ولكن كما قال علماء الآداب والرقائق من المسلمين في مثل هذا: بأن حسنات المقربين سيئات الأبرار، فمن يكون نبياً وله صلة دائمة وهو من عباد الله المكرمين يجب أن يقف عند ما يرضي الله في عمله وتصرفاته، فإذا حدث منه أحياناً غير ذلك لا خلافاً لأمر أو ارتكاباً لنهي حاشاه من ذلك، فالأنبياء معصومون، وخلاف الأمر معصية وفعل النهي معصية، وهذا لا يحدث ولم يحدث من نبي قط، ولكن الذي يحدث ما يعتبر خلاف الأولى مما لا يليق، فالنبي لهذا كان يجدد التوبة مائة مرة في اليوم؛ ليكون أسوة وقدوة للمؤمنين من أتباعه، وأتباعه ليسوا بمعصومين، فنحن في حياتنا صغاراً وكباراً علماء وجهالاً سلفاً وخلفاً لا نخلو من ذنب ظهر برعونة أو عن جهالة أو عدم انتباه، فهو إذا جدد التوبة فجدير أن يقبل الله توبته، ويغفر ذنبه.
وهذا ما يأمر الله به جميع المؤمنين، قال تعالى: (وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون)، وعلى رأس المؤمنين سيدهم وإمامهم صلى الله عليه وعلى آله وسلم فهو كذلك أمر بالتوبة، ثم على رأسهم الصحابة بعد الأنبياء، ثم التابعون، ثم الأمثل فالأمثل، ولم يستثن واحداً من المؤمنين.
وأكد الله ذلك لتدخل المرأة والرجل الكبير والصغير، والصالح وغير الصالح في وجوب الاستغفار والتوبة، ونحن نمتثل أمر الله عند كل تلاوة، وفي اليوم مائة مرة أو أكثر كما كان يفعل صلى الله عليه وسلم، وامتثالاً لأمر الله نقول ما قاله نبينا عليه الصلاة والسلام: (رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الرحيم).
(لعلكم تفلحون) (لعل) إذا وردت في القرآن فهي للتحقيق، وهي في اللغة العربية للرجاء، ومعنى الرجاء أن الشيء الذي بعدها قد يكون وقد لا يكون، وأما في كتاب الله إذا قال الله لعبده المؤمن: (لعل) فهي للتحقيق، فقوله: (لعلكم تفلحون) معناها: تفلحون بفضله وبكرمه، ويقبل التوبة والاستغفار منكم، ويتوب الله على من تاب، وقد قال الله لنا في كتابه جل جلاله: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر:60]، فمن الاستجابة أن يتوب علينا، وأن يغفر ذنوبنا، وأن يكفر عنا سيئاتنا.
ومن هنا نخرج من هذه الآية الكبيرة الطويلة والآية التي قبلها بما أمر الله به من أحكام فيها تهذيب للمسلمين، وتعليم لهم، والنهي عما لا يليق، والأمر بفعل الواجب، وحدود وعقوبات من خالف من الجلد إلى الرجم، وهنا أمر الله بالعفة والستر، ونهى عما لا يليق لمؤمن أن يفعله، وحذر أن يرتكب سوءاً أو فاحشة، ونهى أن يكشف عورته، وأمره أن يغض بصره.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر