إسلام ويب

تفسير سورة النور [32]للشيخ : المنتصر الكتاني

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لقد حث الشرع على الزواج وأمر به؛ وذلك لما له من أهمية عظيمة، فهو حصن منيع في وجه الفتن والرذائل والفواحش، وخصوصاً في هذا الزمن الذي كثر فيه الفسوق ونشر الرذيلة المسموعة والمرئية.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وأنكحوا الأيامى منكم...)

    قال الله تعالى: وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [النور:32] .

    قوله: (أنكحوا) الأمر هنا للأولياء بالإنكاح -أي: بالتزويج-، ولو كان الأمر للإنسان أن يزوج نفسه لقال: انكحوا، أي: تزوجوا، لكنه قال: أنكحوا أيها الآباء، أي: زوجوا أولادكم وبناتكم، و(الأيامى): جمع أيم، والأيم: كل رجل وامرأة غير متزوجين سواء سبق أن تزوجا أو لم يتزوجا أصلاً، فكل رجل ليس بمتزوج فهو أيم، سواء كان متزوجاً وطلق، أو ماتت زوجته، أو لا يزال عزباً، هذه لغتهم التي بها تعبدنا الله في كتابه سبحانه، وبها نزل وحيه، فعندما يقول الله لنا: (أنكحوا الأيامى منكم) أي: زوجوا العزاب والعذارى، وزوجوا الأرامل، والأرمل والأرملة: هما اللذين كانا متزوجين يوماً فطلقا أو مات أزواجهما.

    وأمر الله الأولياء بتزويجهم جميعاً فالرجل والمرأة التي مات زوجها أو طلقها لا تدعوهما بلا أزواج، وأولادكم وبناتكم الذين لم يتزوجوا بعد لا تتركوهم بلا أزواج، والأمر في لغة العرب وفي أصول الفقه إذا أطلق يكون للوجوب، وهكذا فهم هذه الآية الكثير من الصحابة والكثير من الأئمة، مثل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وأبي بكر رضي الله عنه، يقول رسول الله عليه الصلاة والسلام: (عليكم بسنتي وسنة الخليفتين الراشدين من بعدي، عضوا عليها بالنواجد)، فيصبح الامتثال لهذه الآية امتثالاً لأمر الله، ويصبح الأخذ بفهم عمر ورأيه أخذاً بالسنة وبأمر رسول الله؛ لأن سنة عمر وأبي بكر رضي الله عنهما هي سنة لرسول الله صلى الله عليه.

    فـعمر بن الخطاب كان يرى في تفسير الآية: (أنكحوا) للوجوب، والأئمة من بعد اختلفوا: فالجمهور قالوا: الزواج سنة وليس أمراً واجباً، والشافعية قالوا: مباح فقط، ولكن عمر وابن عباس قالا: (وأنكحوا) للوجوب؛ لأنه أمر، فالذي يستطيع أن يتزوج فلم يفعل يكون عاصياً لله ولرسوله، والأمر يختلف.

    وقول الله تعالى: (أنكحوا) ولم يقل: انكحوا، فهو أمر للآباء بأن يزوجوا الأولاد والبنات، ومن هنا جاء الولي للزواج والنكاح، والولي أوجبه جمهور الأئمة سوى شيء نقل عن الأحناف في ذلك، والمرأة التي لا ولي لها فإن وليها السلطان الحاكم المسلم، فهو الذي يتولى زواجها، وأما المرأة التي تزوج نفسها بلا ولي فعند الجمهور أن هذا الزواج غير قائم ويعتبر مفسوخاً، والآية تشهد بهذا: (أنكحوا)، فلو كان الأمر لكل واحدة في نفسها لزوجت نفسها بلا ولي، والآية لم تقل: انكحوا، وإنما قالت: (أنكحوا)، أي: زوجوا، ولو قال: انكحوا لكان معناها: تزوجوا، وقد قال عليه الصلاة والسلام في هذا المعنى فيما أخرجه أحمد والبخاري ومسلم : (يا معاشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء).

    فقد أمر صلى الله عليه وسلم بالزواج، وعلق عدم الزواج على عدم القدرة، وكون الرجل في نفسه لا يصلح للزواج كأن يكون عنيناً أو خنثى، والعنين: هو الذي لا يستقيم ذكره ولا يقف، أو يكون خصياً أزيلت منه الأنثيان -البيضتان-، أو يكون في طبيعته -لسبب ما- ما جعله أشبه بالنساء، فهذا غير مستطيع للزواج، وقد يكون أحياناً لسبب آخر بأن يكون الولد طالباً وهو يتنقل في أرض الله، وقد يكون جندياً وهو يتنقل للجهاد وللقتال، فعلى ذلك قد يكون عدم زواجه عذراً، فإذا وجد من يزوجه وينفق عليه من أب أو غيره أو من دولة أو من حاكم، ففي هذه الحالة يعتبر مستطيعاً.

    والباءة: هي النكاح وإتيان النساء، ومن لم يستطع لعلة من العلل فعليه بالصوم؛ لأن الصوم له وجاء، أي: قيد، وإيقاف للشهوة، وهو دواء مؤقت وليس دائماً، وقال عليه الصلاة والسلام: (تناكحوا تناسلوا؛ فإني مفاخر بكم الأمم يوم القيامة) ، وقال: (أفضلكم أكثركم أزواجاً)، وأفضلنا هو نبينا صلى الله عليه وسلم.

    الحث على الزواج بأكثر من واحدة

    قال بعض الأئمة في قوله تعالى: فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ [النساء:3]: إن الزواج بواحدة رخصة، والعزيمة أن يتزوج باثنتين إلى أربع؛ لأن الله ابتدأ باثنتين فقال: فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى [النساء:3] ولم يبدأ بالواحدة، وإنما ذكر الواحدة للضعاف العجزة الذين يخافون نساءهم، أو الذين لا يستطيعون التصرف، قال: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً [النساء:3]، فليست لهم رجولة كاملة، أي: يعجزون عن الإشراف على النساء وعن إعطائهن حقوقهن، فالأصل مثنى وثلاث ورباع.

    وفي حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم ذهب عبد الله بن عمرو بن العاص وغيره ليتبتلوا، فقال أحدهم: لا أتزوج النساء، وقال الآخر: أقوم كل الليل، وقال آخر: نصوم النهار، وكان بين عمرو بن العاص وبين ولده عبد الله اثنا عشر عاماً فقط، معناه: أن عمراً تزوج وهو ابن إحدى عشرة سنة، فولد له وهو ابن اثنتي عشرة سنة ولد سماه عبد الله ، فزوجه بكريمة من كريمات وعقائل قريش، وإذا به يغيب، فدخل عمرو بن العاص على زوجة ولده فسألها: كيف وجدت زوجك؟ قال: نعم الرجل! ما كشف لنا ستراً، أي: لم يدخل الخدر ولم يسألها قط ولم يبحث عنها، فشتمه أبوه شتماً قاسياً، ثم ذهب يشتكيه إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام وقال له: يا رسول الله! إن ولدي عبد الله أراد أن يترهب ويتبتل فأجبرته على الزواج فترك زوجته، وقد زوجته بكريمة من كريمات قريش فتركها أياماً لم يلتفت إليها، وهو يقول: إني أريد أن أصوم ولا أفطر، وأن أقوم الليل ولا أنام، وألا أتزوج النساء، فأرسل خلفه صلى الله عليه وسلم وقال له: (ما بال كلام سمعته عنك؟) فكررها عليه فقال: نعم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم ولمن كان معه على هذا العمل يقول: (إني أصوم وأفطر، وأنام وأصلي، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني).

    فقد جعل صلى الله عليه وسلم ترك الزواج والهروب من تحمل مسئوليات الزوجات والأولاد ليس من سنته صلى الله عليه وسلم، وكفى بذلك توبيخاً وتقريعاً وتنكيراً، كيف والله يأمر وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ [النور:32].

    فقوله: (منكم) أي: من الأحرار المؤمنين.

    وقوله :(والصالحين من عبادكم وإمائكم) أمر للرجال أحراراً وعبيداً، وأمر به النساء حرات وإماءً، أي: زوجوا الصالحين للزواج من غلمانكم، والصالحات للزواج من إمائكم وفتياتكم، ومن هنا كان عمر وابن عباس وجمهور من الأئمة وهو مذهب الظاهرية وداود وآراء الكثير من الأئمة الأربعة يقولون: إذا كان الولد والأيم والأرملة لا يستطيعون الصبر على عدم الزواج فهؤلاء الزواج في حقهم واجب، ومن فتن هذا العصر وفساد اليهود وإفسادهم وفساد النصارى وإفسادهم أن أشاعوا عدم الزواج، وتبعهم المسلمون في ذلك، فلا تكاد تجد في مشارق الأرض ومغاربها مسلمين إلا والدور فيها فرد أو فردان أو أفراد من النساء والرجال الذين بلغوا الثلاثين وهم بلا زواج، وأخذوا يغرونهم بأنواع الفواحش وبالروايات الداعرة، والصور الفاجرة، والأفلام الفاسدة، وتعليق الصور على أبواب هذه الدور الفاسدة ويسمونها سينما؛ ليزيدوا هؤلاء إغراءً، فلو أن هؤلاء تزوجوا لما وجدوا سوقاً رائجاً لرواياتهم الداعرة، ولا لصورهم الفاسدة، ولا لأفلامهم المتحللة، ولكن اليهودي شيطان الأرض ما عاش إلا لينشر الفساد في الأرض، حتى أفسد النصارى ومزقهم وحلل أشخاصهم وأصبحوا هباءً منثوراً، واستعمر النصارى المسلمين وأمروهم ووجهوهم، وأفسدوهم بدورهم بالمذاهب الوافدة من شيوعية وماسونية ووجودية واشتراكية، وغيرها من الأسماء القذرة التي نشرت الفواحش على أشكالها والكفر على أنواعه، فأفسدوا البلاد والعباد، ونشروا الفساد في البر والبحر والسهول والجبال، بل حتى الأجواء لم تفلت منهم.

    فقوله تعالى: (وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم) أي: لا تتركوا أحداً بلا زواج.

    يقول أبو بكر رضي الله عنه: عجبت لمن ليس بمتزوج، ومن كان فقيراً كيف لا يتزوج، وقد ضمن الله له الغنى في الزواج!

    وقد قال صلى الله عليه وسلم كما في الصحاح والسنن: (ثلاثة حق على الله تعالى أن يعينهم: الناكح يريد العفاف، والمجاهد في سبيل الله، والمكاتب يريد الأداء)، فالزواج أمرك الله تعالى به وأعانك عليه، وضمن لمن يريد الزواج تحصيناً لنفسه، وطاعة لربه، والفقر ليس بعلة، فقد جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تعرض نفسها عليه فقالت له: يا رسول الله! أعرض نفسي عليك، وكان هناك رجل مسكين تظهر عليه ملامح الفقر، لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم لم يجبها قال له: يا رسول الله! زوجنيها، قال له: هل معك شيء؟ قال له: لا شيء، قال له: اذهب وابحث، فغاب ورجع وقال له: يا رسول الله! لم أجد شيئاً إلا هذا الرداء وهذا الإزار، هل أعطيها واحداً منهما؟ قال: لا، هذا الرداء تلبسه والإزار تلبسه، التمس ولو خاتماً من حديد، فرجع وقال: يا رسول الله! ولا خاتماً من حديد، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ماذا عندك من قرآن؟ قال له: سور صغيرة: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1] ، قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ [الفلق:1] ، قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ [الناس:1]، قال له: زوجتكها بما معك من القرآن.

    يعني: علمها هذه السور لتصلي بها وتعليمك عمل يحتاج لأجرة، والأجرة التي ستعطيك هذه المرأة مقابل تعليمها هو المهر.

    إن هذا الغلاء في المهور وخاصة في هذه البلاد منكر وبدعة يجب أن تزول بالعنف والسجن؛ لأن البنات أصبحن من غير زواج، والأولاد أصبحوا من غير زواج، فإن سألت الشباب لماذا لا تتزوجون؟ يقول أحدهم: ذهبنا نخطب فلانة فطلب أبوها منا عشرين ألف ريال، ومنهم من يقول: أربعين ألف ريال، ثم يشترط عليه سيارة و(فلة)، والنبي عليه الصلاة والسلام لم يمنع هذا الشاب الذي طلب منه أن يزوجه كونه لم يملك حتى خاتماً من حديد، فلم يقل له: أنت لست قادراً على الزواج، وأمثالك لا يتزوجون، وهذا دليل على أن عدم القدرة على الزواج ليس في المال؛ لأن الله قد تعهد لمن يريد أن يتزوج ويرجو العفاف بالمال، قال تعالى: إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [النور:32].

    إذاً: قوله عليه الصلاة والسلام: (يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج) معناه: القدرة البشرية، فلا يكون عنيناً ولا مجبوباً ولا ضعيفاً ولا مشغولاً بقتال ولا طالب علم، بل إن طالب العلم إذا وجد أباً أو ولياً أو دولة تساعده وجب عليه الزواج، فلا عذر للطالب الجامعي إطلاقاً بألا يتزوج، فالدولة تعطيه المسكن والراتب، فماذا يريد الإنسان أكثر من هذا؟ ولذلك لو تقبل الشعوب والدول الإسلامية مشورتي لأوجبت الدول الإسلامية الزواج، ولأصدرت قراراً أنه لا يجوز للشاب أن يعمل في الدولة إلا بعد أن يكون متزوجاً، وبذلك لن يبقى في البيت عزباً ولا عزبة، كذلك لا يباح للطالب أن يأخذ شهادة بكالوريوس إلا بعد أن يكون محصناً، ومن لم يفعل أحرم من هذه الشهادة، وبالتالي أحرم من دخول الجامعة، ولكن لا حول ولا قوة، فإن هذا البلاء منتشر في الأرض، فقد تركنا النساء للأعداء كما ترون في أكثر بلاد العالم الإسلامي، يخرجن في الشوارع متبرجات عرايا يتزين للدعارة أكثر مما يتزين لأزواجهن، فإن كنا نترك الشابات بلا زواج والشبان بلا زواج حدثت الفواحش والمنكرات، وكل هذا حرمه الشارع.

    وأنا أعرف شباباً تزوجوا وأغناهم الله غنىً كبيراً، وهم تزوجوا قصد التعفف والتحصين، والله تعالى استجاب لهم، وصدق الله إذ قال: لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ [فصلت:42].

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    767489701