إسلام ويب

تفسير سورة النور [55-57]للشيخ : المنتصر الكتاني

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لقد وعد المؤمنين بالاستخلاف في الأرض والتمكين إن هم عبدوا الله تعالى ولم يشركوا به شيئاً، وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة، وسيبدل خوفهم أمناً، وقد حدث هذا في تلك العصور عندما كان أصحابها على هذه الصفات والشرائط، فلما بدل من بعدهم بدل الله عليهم، فسلط عليهم أعداءهم، ورماهم بالخوف والذل.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات...)

    قال الله جل وعلا: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [النور:55].

    هذه الآية الكريمة تعتبر من آيات الله المعجزات التي أخبر الله وبشر بها نبيه والصحابة والمؤمنين بأن ينصرهم ويملكهم الأرض، ويجعلهم خلفاء فيها، ويزيل خوفهم، وقد كان ذلك كله بعد ما كان في مكة من الخوف والاضطهاد والظلم والإيذاء وسفك الدماء والصد عن الله والإسلام.

    فالله وعد ووعده الحق، وعد الذين آمنوا من الناس وعملوا الصالحات، وكان إيمانهم لساناً وجناناً وأركاناً، فيفعلون ما يقولون، وعدهم وأقسم بذاته العلية (ليستخلفنهم) اللام موطئة للقسم، أي: سيجعلهم خلفاء يحيون بإذنه، ويقتلون بإذنه، ويتصرفون في العباد بما يروه صالحاً عدلاً حقاً، وهكذا كان سلفنا الصالح، فالنبي عليه الصلاة والسلام بعد سنين كانت كلها ظلم واضطهاد، إذا بالله الكريم لم يذهب بمحمد صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى حتى مكنه من رقاب العباد في جزيرة العرب، فأصبح الحاكم والقاضي والموجه.

    استخلاف الصحابة وتمكينهم بعد نبيهم

    وما كاد ليذهب للرفيق حتى مكن أصحابه الخلفاء الراشدين، ففتحوا البلاد والعباد، وزادوا على الجزيرة العربية أرض الشام والعراق وفارس ومصر وغيرها، فكانوا المتحكمين والآمرين والناهين في العباد، واستخلفهم الله في الأرض وجعلهم الملوك والقادة، والمعلمين والموجهين، جعلهم يأمرون بأمره وينهون بنهيه، ويتصرفون في عباده بما يرونه الحق، وقد كان كل ذلك.

    قال تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [النور:55] كما استخلف موسى وهارون، وكما استخلف نوحاً وإبراهيم عليهم وعلى نبينا السلام، وكما حكم الإسكندر المقدوني دولتي فارس والروم، وغيرهم ممن سبقوا وحكموا، فكان بعضهم يحكم بالعدل كالأنبياء وخلفائهم، وكان بعضهم يحكم بالباطل كمن كفر من الروم والفرس وأشكالهم وأنواعهم.

    ثم قال تعالى: وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ [النور:55] وهكذا مكن الله للخلفاء الراشدين وللخلفاء بعدهم، مكن لهم دينهم فنشروه في مشارق الأرض ومغاربها، فأصبحت المآذن وبيوت الله والمدائن والقرى والأصقاع والأقاليم تشهد شهادة الحق: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، وكلهم يدينون بالإسلام دين الله، دين الحق، دين خاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم.

    فأصبح الإسلام متيناً ثابتاً راسخاً رسوخ الجبال الرواسي في الأرض، نشروه مشارق الأرض ومغاربها، وإلى يوم الناس هذا لا تكاد ترى رقعة في الأرض ولا مدينة كبيرة ولا صغيرة إلا وفيها جماعة من المسلمين، يعلنون شهادة الحق ويدينون بها، ويشهدون لنبي الله وخاتم رسله بالرسالة والنبوة الإمامة على الخلق كلهم.

    قال تعالى: وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ [النور:55] أقسم الله بذلك، واللام هي الموطئة للقسم، والتمكين: هو الثبات والنصر والتأييد.

    الدين الذي ارتضاه الله لعباده

    ثم قال تعالى: دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ [النور:55] فالدين الذي ارتضى لهم هو دين الإسلام، دين محمد عليه الصلاة والسلام، الذي لا يرتضى سواه ولا يقبل غيره، الدين الذي نسخ الأديان السابقة، وقد كانت قبل ذلك ثم بدلت وغيرت وحرفت، هذا هو الدين الذي لا يرتضى غيره.

    ومنذ أن ظهر نبينا في بطاح هذه الديار المقدسة، وقال: (إني رسول الله إليكم جميعاً) لا يسع أحداً لا جناً ولا إنساً إلا أن يدين به، ويعمل بمقتضاه، وإلا كان كافراً من أهل النار.

    فهذا الدين هو الذي وعد الله تعالى محمداً صلى الله عليه وسلم وأتباعه بأنه سينصرهم به، وينشره ويجعله المكين في الأرض، فهو المعمول به لا دين غيره، قال تعالى: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ [آل عمران:85] ، وقال سبحانه: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ [آل عمران:19] فلا دين غيره من الأديان السماوية أو من الأديان التي اخترعت وافتريت يقبله الله جل جلاله، إنما يقبل الإسلام الذي جاء به محمد عليه الصلاة والسلام.

    نزول الأمن بعد الخوف

    ثم قال تعالى: وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا [النور:55] فكانوا يقولون: يا رسول الله! إلى متى ونحن خائفون؟ إلى متى ونحن مسلحون؟ لا نكاد نلقي السلاح لا ليلاً ولا نهاراً، لا سفراً ولا حضراً، إلى متى ونحن غير آمنين على الحياة والأعراض والأموال ولا على دوام ديننا، وإذا بالله الكريم يتولى الجواب عن نبينا عليه الصلاة والسلام، وينزل هذه الآية الكريمة في هذه السورة الشريفة سورة النور، فيعدهم بنصرهم واستخلافهم في الأرض، حكاماً ودولاً، وأنه سيمكن لهم دينهم الذي رضيه لهم، ويبق الدين الحق وحده، وكل الأديان السابقة تحت الجزية، وتحت حكم وتصرف الإسلام وأهله، ووعدهم كذلك أنه سيبدلهم بعد خوفهم أمناً، ويعيشون آمنين في أوطانهم لا يخافون إلا الله، فلا سرقة ولا اغتيال، ولا من يحاول أن يسيطر على بلادهم ويتمكن منها.

    أسلم عدي بن حاتم سيد قبائل طيء فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: (يوشك يا عدي ! أن ترى المرأة تخرج من الحيرة إلى مكة حاجة بيت الله الحرام، فلا تخاف إلا الذئب) والحيرة بلدة في العراق، (ويوشكن يا عدي ! إن مد الله في حياتك أن تفتح كنوز كسرى، فقال له عدي : كسرى بن هرمزان ؟! قال: نعم كسرى بن هرمزان ، وليوشك أن تخرج بملء يدك ذهباً لتتصدق به على الفقراء والمساكين فلا تجد من يقبله منك).

    قال عدي : وقد رأيت بعيني المسلمات يخرجن ليس معهن إلا الله، من الحيرة إلى مكة وفي جميع ديار الإسلام التي فتحت على المسلمين، لا تخاف أحداً من الناس، فتأتي إلى الحج وإلى العمرة، وتتجول في هذه الصحاري الواسعة، وتعود لبيتها ولأهلها فلا يمسها سوء ولا ينالها رعب، وقد شاركت في الاستيلاء على فارس وأخذ كنوز كسرى بن هرمز ، وحكمت فيها مع المسلمين، وإن مدت بي حياة فسيكون الثالث مما أخبرني به النبي صلى الله عليه وسلم، أي: أن يخرج أحدنا بالذهب في يده يمده للفقراء والمساكين فلا يجد فقيراً ولا محتاجاً، فقد استغنى المسلمون جميعاً فلم يبق فيهم فقير ولا مسكين.

    وهكذا كان في الصدر الأول، كان هذا في أيام عمر بن عبد العزيز ، وغيره، في أيام عز الإسلام في مختلف الأقطار والأصقاع، في المشارق والمغارب، ولم يغير ذلك، ولم يعد الخوف بعد الأمن، والفقر بعد الغنى، والذل بعد العز، إلا بعد أن غير الناس ما في نفوسهم، فعصوا وخالفوا، فقتلوا عثمان وعلياً، وتمردوا على خلافة الحق فأغرقت الدماء أنهاراً، وإذا بالله الكريم يعاقبهم ويخيفهم ويفقرهم، ويستولي أعداؤهم على أرضهم، فكان ما كان من تلك الحروب الطاحنة، والصليبين والتتر والاستعمار الأخير، ومن البلاء الذي لا نزال نراه إلى اليوم، حتى إن ألعن الخلق وأشدهم غضباً -إخوان القردة والخنازير اليهود- تسلطهم على المسلمين لا يخفى، فيستبيحون دماءهم، وينتهكون أعراضهم، ويأكلون أموالهم، ويستحلون أرضهم، وهم مع ذلك لم ينتبهوا لما ابتلوا بسببه وعوقبوا؛ لمخالفتهم كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    لذا قال الله جل وعلا: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [النور:55] فلا يكفي أن يزعم الزاعم منا أنه مسلم، وقد وعد الله المسلمين بالنصر، ولكنهم لا يعملون بالإسلام، فإذا دعوا لحكم الله أبوا وصدوا، وقد قال الله عن أمثال هؤلاء: وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [البقرة:8] فلم يبق من الإسلام إلا رسمه عند كثير من الناس إلا من رحم ربك، فعاقب الله عباده عندما تركوا دينه، ونشروا الفواحش والمعاصي على كل أشكالها، وغيروا الإمامة المحمدية، وقيادة الخلفاء الراشدين، إلى إمامة اليهود والنصارى، وتركوا كتاب الله وراءهم ظهرياً، ولن يرفع الله ذلك حتى يعود المؤمنون لدينهم، لكتاب ربهم وسنة نبينهم.

    وهكذا علمنا التاريخ والواقع، فعندما حدثت الفتن بين الصحابة لم يرفع الله عنهم البلاء والدم والفقر إلا بعد أن تابوا إلى الله وأنابوا، ثم بعد ذلك غير الناس وبدلوا؛ فسلط عليهم الصليبيون، فتابوا وأنابوا فرفع الله ذلك عنهم، ثم بعد ذلك مد لهم الملك والسلطان، وأعطاهم ما عودهم من خير وعز وغنىً، ولكنهم بعد ذلك كما قال الله: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا [مريم:59]، وما أنذر الله به قد حدث مرات تلو مرات في التاريخ، فسلط على المسلمين بعد الصليبين التتر، فاستباحوا ديار المسلمين، وشربوا مياه أنهارهم، واسقطوا الدور عليهم، وقتلوهم إلى أن جرت أنهر وبحار دماً عبيطاً من دماء المسلمين، ثم تابوا وأنابوا وتضرعوا إلى الله أن يرفع ما بهم من ذلة وهوان، فنصرهم وعاد بأفضاله عليهم، ففتحوا القسطنطينية، وأصبحت تسمى دار الإسلام، تسمى: إسلام بول، أي: مدينة الإسلام، وهكذا انتصر الإسلام إلى أراض أخرى لم تكن دخلت في الإسلام ولا في عصر الصحابة، ولا في عصر التابعين، وهكذا انتشر الدين وامتد.

    التغيير سبب تسلط الأعداء

    ولكنهم بعد ذلك أيضاً بدلوا وغيروا وعصوا وخالفوا فسلط الله عليهم الاستعمار الأوروبي، فلم يتوبوا فسلط عليهم الاحتلال اليهودي، وهانحن نعيش اليوم في بلاء ومحنة وفتنة، ولن ترفع حتى نعاود ديننا، وإذا لم نفعل يوشك أن يغير الله هذه الأجيال بأجيال غيرها أصلح منها.

    وقد قال ربنا جل جلاله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ [المائدة:54].

    فهؤلاء -أي: الصليبيون وأذنابهم- لم يأتوا المسلمين إلا لإذلالهم، وسفك دمائهم، وانتهاك أعراضهم، ونحن نتفرج عليهم، ونحن كأن الأمر لا يعنينا، مزقنا ديار الإسلام إلى وطنيات ضيقة، وقوميات فاجرة، ووثنيات ما أنزل الله بها من سلطان.

    وهكذا وعد الله المؤمنين الصادقين بقوله: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا [النور:55].

    أي: يعيشون عابدين لله موحدين له، ممتثلين لكتابه ولسنة نبيه، فكانوا السادة وكانوا القادة قروناً بعدها قرون، حتى بدلوا وغيروا، وهو ما قاله الله في ختام الآية: وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [النور:55] فمن جحد النعمة، وخرج على الدين الحق، واستبدل النعمة بالنكران وبالجحود، وخالف أمر الله وأمر نبيه المعصوم صلى الله عليه وسلم، فالأمر كما قال الله: إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ [الرعد:11]، فغيرنا ما بأنفسنا فغير الله عنا نعمه، فنرجو الله أن يرفع عنا ذلك، ويعيدنا لدينه وينصرنا بنصره، ويطلقنا لطاعته، وللجري وراء من يجدد أمر هذا الدين بفضل الله وكرمه.

    وهذا كله قد حدث، كان أيام الخلفاء الراشدين، وأيام الدول الأموية والعباسية والعثمانية، كانت الكثير من أصقاع الأرض مغارب ومشارق تحت حكمهم، ولكن عندما بدلوا ابتداءً من قتل عثمان بن عفان ذي النورين صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلى قتل علي بن أبي طالب الخليفة الراشد الرابع رضي الله عنه، ذل الإسلام بذلهم، وهان المسلمون على الناس، وهكذا دواليك يغيرون فيغير الله عليهم، ويتوبون فيتوب الله عليهم.

    ونعيش نحن اليوم ومن زمن طويل في أوضاع تزداد سوءاً، فيعيش المسلمون في ذل وهوان على غناهم وترفهم، وعلى سلاحهم وكثرتهم، ولكنهم غثاء كغثاء السيل، كما قال صلى الله عليه وسلم: (يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة على قصعتها، قيل: يا رسول الله! أمن قلة نحن يومئذ؟ قال: لا، بل أنتم كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل) ، فمن كفر بعد ذلك، ومن كفر بعد هذه النعمة وبعد هذا العز والشرف، وبعد هذه الخلافة الإلهية التي كانت بفضل الله وبنصره، فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [النور:55] أي: العصاة المخالفون الذين خرجوا عن الحق، وخرجوا عن الدين؛ فلم يشكروا النعمة، وقديماً قيل: من لم يشكر النعمة سلبها، وقد قال الله في ذلك جل جلاله: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ [إبراهيم:7]، والعذاب الشديد هو سلب تلك النعمة، نعوذ بالله من السلب بعد العطاء.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الرسول...)

    قال الله تعالى: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [النور:56].

    دلنا الله على الخير الذي قاله في أول الآية: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [النور:55] فكان من هذه الصالحات إقامة الصلاة، والإتيان بالفروض الخمسة وإقامتها، والمحافظة عليها في أول أوقاتها بطهارتها، وباستقبال قبلتها، وبالمحافظة على أركانها وواجباتها وآدابها وسننها، وأن تكون لله ليس فيها رياء ولا سمعة.

    وفي هذه الآية الأمر بالقيام بحق الله وحق العباد، فحق الله تعالى عبادته ليلاً ونهاراً، والسجود له، ولا يليق أن توضع الجباه في الأرض إلا لله، ولا أن تطأطأ الرءوس إلا لله.

    وحق العباد هو في قوله: (آتوا الزكاة) أي: آتوهم من مال الله الذي آتاكم، وأعطوا الفقراء حقوقهم، وأعطوا المساكين واجباتهم، أعطوهم من مال الله الذي أعطاكم، وقد خرجنا لهذه الدنيا لا نملك مالاً ولا نسباً، فهو الذي أعطانا من فضله وخيره، وأوجب علينا أن نؤدي من ذلك المال قدراً منه، وقد بينه صلى الله عليه وسلم في سنته، فللفقراء حقوقهم وما ملكهم الله في أموالنا، قال تعالى: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ [التوبة:60] فاللام هنا للتمليك، فقد ملك الله الفقراء جزءاً من مال الأغنياء، فللفقراء مالهم وحقوقهم في الذهب والفضة والزراعة والتجارة وفي غيرها، ومن لم يفعل ذلك أفقره الله في الدنيا، وسلط عليه من يأخذ ماله وغناه، وهذا الذي حدث، وما سلطت الشيوعية والاشتراكية وأعداء الله على المسلمين إلا عندما منعوا الفقراء حقوقهم، فسلط عليهم من أخذها وصادرها منهم، وهكذا عندما لا يشكر المسلم المنعَم عليه النعمة الإلهية فإنه يسلبها مع الذل والهوان والعقوبة.

    قال تعالى: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ [النور:56] أجمل الله تعالى فعل الخيرات والصالحات بطاعة الرسول، والرسول عليه الصلاة والسلام وجدناه مبيناً للقرآن مفسراً له، فأمرنا بالصلاة، وبالزكاة، وبالصيام، وبالحج، وبتعلم العلم، وبترك المنكرات، وبحب المسلمين وخدمتهم واعتبارهم إخوة، وأمرنا أيضاً ببغض الكافرين والمنافقين وجهادهم بالمال والنفس، وبكل ما نملك من عزيز علينا، وإذا ترك المسلمون الجهاد ذلوا، وهذا الذي حدث، وقد قال علماؤنا -بجميع مذاهبهم- ما ترك المسلمون الجهاد في عام إلا وسلط عليهم أعداؤهم، فالجهاد يجب أن يبقى دائماً وإلى أبد الآباد ما دام في الأرض مؤمن وكافر، وفي الأرض مؤمن وكافر دواماً واستمراراً.

    وعلماؤنا وفقهاؤنا قسموا الأرض إلى قسمين: أرض إسلام، وهي ما يحكمها المسلمون بكتاب ربهم وسنة نبيهم، وأرض حرب وهي ما يحكمها الكفار بكل مللهم وأشكالهم، وبقوانينهم الجائرة وآرائهم الفاسدة، فما كان من أرض الكفار وأرض الحرب فهو للمسلمين مجال حيوي للقتال فيه، والاستيلاء عليه، فإن لم يفعلوا فبمعصية منهم لربهم ولنبيهم، وسيكونون في ذل يسلط عليهم.

    حكم طاعة الرسول

    وطاعة الرسول واجبة وجوباً عينياً على كل مسلم، ومن يطع الرسول صلى الله عليه وسلم فقد أطاع الله، فطاعة الرسول طاعة لله؛ لأنه يأمرنا بأمر الله وينهانا بنهيه، ويبلغنا دينه، فنحن في طاعته نطيع الله جل جلاله.

    وقد ذكر تعالى عن طاعة النبي عليه الصلاة والسلام الكثير من الآيات والكثير من السور، وقد أمر الله بذلك في غير ما آية، وقال سبحانه عند الخلاف والنزاع: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [النساء:59]، فالرد إلى الله هو رد إلى كتابه، والرد إلى الرسول رد إلى سنته، فعندما نتنازع مذاهب وأفكاراً وآراء فالمحكم هو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

    وهكذا فطاعة الرسول من طاعة الله، ومن يبايع الرسول فقد بايع الله، وقال الله في البيع: يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [الفتح:10] وكانت البيعة لرسول الله، وكانت اليد يد رسول الله عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم،ولكن الله اعتبر أن البيعة والطاعة كانت له، والإيمان كان بالله؛ لأن النبي مبلغ ومبايع عنه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.

    ثم قال تعالى: لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [النور:56] أي: لعل الله يرحمكم بفعل الخيرات، وإيتاء الزكاة، وطاعة النبي عليه الصلاة والسلام في كل ما أمر به، وترك كل ما نهى عنه، فيرحمنا من ذل حكم الأعداء، ويرحمنا من غضبه تعالى ومن لعنته، ويرحمنا بأن نكون سادة الأرض وقادتها، والمحكمين في الرقاب، وخلفاءه في الأرض، ولا يليق بالمسلم إلا ذلك، فإن حدث خلاف هذا فبمعصية منا، وبعقوبة من الله لنا.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (لا تحسبن الذين كفروا معجزين في الأرض...)

    ثم قال الله تعالى: لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ [النور:57] أي: لا تحسبن أيها القارئ ولا تحسبن يا محمد يا رسول الله! أن ما تراه في يد الكفار من حكم ومن مال ومن جاه ظاهر، هو فضل لهم وعناية بهم، ولكنه استدراج وفتنة من الله لهم؛ لتبقى الحجة لله البالغة، عساهم أن يعودوا إليه يوماً، عندما يسألون بعد الموت: ماذا صنعتم فيما رزقكم الله فيه؟ هل آمنتم بربكم الذي رزقكم وأحياكم؟ هل آمنتم بنبيكم الذي أمركم عن الله ونهاكم؟ فعندما يقولون: لا، ستكون الحجة البالغة لله وحده، فيعذبون وتسجر بهم النار، ولا يكونون ظالمين إلا أنفسهم، كما قال تعالى: وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [آل عمران:182].

    إذاً: فمعنى قوله تعالى: لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ [النور:57] أي: لا تظن أن الكفار الذين تراهم والكلمة كلمتهم كفارس والروم في أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وغيرهم بعده، أنهم يعجزون أو يفوقون ربهم، ولا يستطيعون أن يقولوا: بلغنا من القوة ومن السلطان ما لا يقدر علينا أحد، وإذا بالله الكريم قد وعد المؤمنين أن يجعلهم خلفاء الأرض وقد فعل، فحكموا فارس وحولوها من دار مجوسية ووثنية إلى دار إسلام إلى يومنا هذا، وقلصوا الروم وطردوهم عن الشام وطرد كثير منهم عن أرضهم فذلوا وأهينوا، والأمر سيبقى، والآية كذلك، ونحن نعيش اليوم فارس والروم القديمة، وهي أوروبا وأمريكا.

    فلا تحسبن أيها المؤمن وأنت تتلو هذه الآية أن هؤلاء بما زعموه من قوة، ومن قنابل ذرية فتاكة، ومن أسلحة مدمرة، أنهم يعجزون الله فلا ينالهم عذابه ولا عقابه، وأن المسلمين لا يمكن أن يسلطوا عليهم أو يحكموهم يوماً، فلقد كانت الأمم قبلهم أعظم سلطاناً منهم، وأقوى شأناً وأغنى مالاً، فلم يعجزوا ربهم، وقد أدركنا بريطانيا في هذا العصر التي كان يقال عنها: لا تغرب عن رايتها الشمس، أين هي الآن؟! وكذلك فرنسا، ويوشك عن قريب إذا عاد المسلمون لربهم أن تجد هذه الدول الكبرى بسلطانها وجبروتها وطغيانها وظلمها حديث أمس الدابر، وكأنها لم تكن، ولن يعجز الله شيء جل جلاله، ولكن الأمر يرجع للمسلمين أنفسهم، أي: هل سيطيعون ربهم؟ وهل سيمتثلون أمره أمر نبيه؟ ويقومون بما وجب عليهم؟ أو يبقون هكذا دائماً في المؤخرة وراء الكافرين يهوداً ونصارى ومنافقين؟

    فالكفار لا يعجزون ربهم ولا يحسبون أنه يقدر عليهم، أو على البطش بهم وإفنائهم، هيهات، لقد كانت الأمم والتي طال ما حدثنا الله عنها من عاد وثمود والفراعنة وفارس والروم وغير ذلك، كانوا أعظم سلطاناً، ومع ذلك دمرهم الله وأصبحوا كأن لم يكونوا، ورجعوا رمماً بالية، وملك الله أرضهم ورقابهم وأموالهم للمؤمنين، عندما كانوا مؤمنين حقاً، ومع ذلك لو يعودون إلى الله إلى دينه وإلى نبيه صلى الله عليه وسلم، لعاد الله عليهم بأفضاله وبعزه وبنصره، فالقوة لله جميعاً وليست لأحد من الخلق، فهو القادر على كل شيء جل جلاله، ولكنه من حكمته يعز المؤمن عندما يعز المؤمن نفسه بطاعة ربه وطاعة نبيه، فإذا خرج عنه عاقبه، وما من عقوبة إلا بذنب ويعفو عن كثير جل جلاله وعلا مقامه.

    فليسوا بمعجزين في الأرض وسينالهم الخراب والدمار والذل والهوان، وقد فعل ربنا، ولن يرفع يده عليهم جل جلاله، ومع هذا في الآخرة مأواهم النار هي مسكنهم ومنزلهم ومرجعهم، فيعذبون أبد الآباد, لا موت لهم فيها ولا فناء، وكلما نضجت جلودهم بدلهم الله سبحانه جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب.

    ثم قال تعالى: وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ [النور:57] أي: بئس المصير النار، فما أقبح وأشد بؤس من كانت نهايته ومصيره الذي سيصير إليه النار وغضب الله.

    والله يحذرنا نفسه في الدنيا لعلنا ندرك حياتنا، ونستفيد من وجودنا ونعود إلى ربنا، يخاطب الله الناس كلهم في المشارق والمغارب، منذ نزل القرآن ونزل به جبريل على قلب محمد صلى الله عليه وعلى آله، يدعو الله إليه الخلق كلهم عربهم وعجمهم، بيضهم وسودهم؛ ليعبدوا رباً واحداً، وليطيعوا نبياً واحداً، وليمتثلوا لكتاب واحد بلغة واحدة هي لغة محمد صلى الله عليه وسلم، وقومه الذين نشروا الإسلام بدمائهم وبأولادهم وبحياتهم وبكل ما يملكون من عزيز.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718694

    عدد مرات الحفظ

    764905801