إسلام ويب

تفسير سورة النور [62-64]للشيخ : المنتصر الكتاني

  •  التفريغ النصي الكامل
  • ذكر الله تعالى من صفات المؤمنين أنهم إذا كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر جامع لم ينصرفوا حتى يستأذنوه، فإذا أذن لهم انصرفوا، وإذا لم يأذن لهم للحاجة إليهم فإنهم لا ينصرفون. ثم أدب الله تعالى المؤمنين بأنهم لا يجعلوا دعاء الرسول ومناداته كدعائهم لبعضهم البعض، وإنما يجلونه ويوقرونه.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله...)

    قال الله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [النور:62].

    علمنا الله في الآية السابقة أدب الاستئذان عند الدخول فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ [النور:58]، وقال في الكبار: وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [النور:59]، فذاك الاستئذان عند الدخول، وهذا عند الخروج.

    وفي الحديث النبوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في مسند أحمد والسنن يقول عليه الصلاة والسلام: (إذا دخل أحدكم على جماعة فليستأذن، فإذا دخل فليسلم وإذا خرج فليسلم، والسلام استئذان، فليست الأولى بأحق من الثانية) وهكذا يبين لنا النبي عليه الصلاة والسلام كتاب الله، ويكون الأسوة قولاً وعملاً وتقريراً عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم.

    وقوله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ [النور:62] أي: المؤمنون منحصرون في هذا؛ لأن (إنما) أداة حصر، الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ [النور:62] أي: كان إيمانهم بالله عن قول وعمل في الطاعة والامتثال.

    الاستئذان عند الأمر الجامع

    ثم قال تعالى: وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ [النور:62] وصف الله هؤلاء المؤمنين إن كانوا مؤمنين حقاً وصدقاً، أنهم إذا كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر جامع، والأمر الجامع: أن يجمعوا مصالح المسلمين في صلاة جمعة أو مجلس ذكر أو علم، أو معارك وجهاد وغيرها مما يتعلق بمصالح المسلمين عموماً، فهؤلاء لا يكون إيمانهم إيماناً صادقاً وحقاً إذا حضروا في مثل هذه الاجتماعات النبوية، ألا يتركوها ولا يذهبوا عنها إلا إذا استأذنوا رسول الله، وقالوا: يا رسول الله! ائذن لنا عندنا عمل ونحوه، فإن أذن فذاك وإلا فلا.

    ثم قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ [النور:62] أي: الذين لا يستأذنونك يا محمد! عندما يكونون معك في أمر جامع أو مصلحة جامعة من مصالح المسلمين: من علم أو مشورة أو مدارسة أو جهاد أو أي عمل يحتاجه رسول الله عليه الصلاة والسلام لمصالح المسلمون عموما ولمصالح دينهم، فهؤلاء الذين لا يتركون المجلس إلا بعد الاستئذان، فهو هم المؤمنون حقاً، والمؤمنون بالله وبرسوله.

    وفي معنى النبي عليه الصلاة والسلام إمام المسلمين، وورثة رسول الله عليه الصلاة والسلام من الدعاة إلى الله والعلماء بالشريعة والصالحين، فإذا اجتمعوا فلا ينبغي للقوم أن يتركوا مجلساً أو معركة أو أعمالاً جامعة لمصالح المسلمين إلا إذا استأذنوا الكبير أو القائد من إمام المسلمين، أو نوابه من العلماء ورثة الأنبياء، فمن دونهم من المعلمين.

    والأمر بالاستئذان سببه هو المصلحة العامة، والعمل الجامع لمصالح المسلمين، فإن كان من رسول الله فذاك الأصل، وإن كان الأمر الجامع من نوابه بعد وفاته عليه الصلاة والسلام فهو استأذن من الإمام ومن برتبته من العلماء والدعاة إلى الله.

    ثم قال تعالى: فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ [النور:62] أي: إذا استأذنك المؤمنون والصادقون ممن يؤمنون بالله وبرسوله. لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ [النور:62]، أي: لبعض مصالحهم لسبب ما، كمرض أو مصلحة خاصة لا يقوم بها سواه، فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ [النور:62] ولماذا لمن شئت؟ لأنه قد يكون النبي عليه الصلاة والسلام محتاج لبعض هؤلاء الذين استأذنوه، فإذا لم يأذن لهم فمعناه: أن مصلحة المسلمين هي في بقائهم وعدم ذهابهم.

    فهنا ترك الأمر في المشيئة لرسول الله، فإن رأى ألا مانع من ذلك أذن لهم، وإن رأى بقاءهم لمصلحة المسلمين لم يأذن.

    ثم قال تعالى: وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ [النور:62] .

    أي: ادعو الله أن يغفر لهم، واستغفار رسول الله للمؤمنين يستجاب، ففي بعض الآثار: ادعوني بلسان لم تعصوني به ومن هنا كانت هذه الآداب، فيطلب المعاصر لرسول الله أن يستغفر له، وكذا يطلب العادي من العلماء والصالحين والأطفال الذين لم يعصوا الله بعد أن يدعوا له، فيكون قد دعا بلسان لم يعص به، ويكون هذا أقرب إلى التقوى وإلى الطاعة وإلى الامتثال من الداعي.

    ثم قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [النور:62] أمر نبيه وعبده صلى الله عليه وسلم أن يستغفر لهؤلاء إن ظهر منهم شيئاً، وليست العصمة إلا للرسل والأنبياء، فليس أحد منا من كبارنا وصغارنا سلفنا وخلفنا إلا وهم في حاجة إلى الاستغفار وإلى التوبة، فالله يغفر الذنوب جميعاً، ويرحم عباده المؤمنين الصادقين اللاجئين إليه؛ لينالوا رحمته ومغفرته.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم...)

    ثم قال تعالى: لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور:63].

    أي: لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضاً، يعلمنا الله تعالى في الآيات الماضية الأدب مع بعضنا من أقاربنا وأهلنا وأصدقائنا، وهنا يعلمنا الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله، ولا يترك هذا الأدب إلا مخذول قد غضب الله عليه ولم يرد به خيراً، فقال تعالى: لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا [النور:63] أي: لا تدعوا رسول الله دعاءكم مع بعضكم، فنحن نقول لبعضنا: يا سيد فلان، أو يا فلان بلا كلمة معها، لكن من الأدب مع رسول الله ألا تقل: يا محمد! ولا يا أبا القاسم، ولا يا سيد محمد، ولا تذكره بلا صلاة عليه، كما يفعل الكثير من سفهاء العصر، يقفون متكلمين أو كاتبين أو دارسين لا يقولون قال: محمد، وإنما يقولون أحياناً: قال رسول الله، وهذا هو الواجب، لكن لا يختمون الكلمة بالصلاة على رسول الله، وقد قال الله: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ [الأحزاب:56]، ثم أمر المؤمنين فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].

    فالصلاة على رسول الله كلما ذكر هي من آداب النبوة والرسالة، ومن الآداب التي حث عليها كتاب الله، فقال: لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا [النور:63] أي: لا تقولوا: يا محمد، وكان يأتي بعض البدو والأعراب ومن لم يدخل الأدب النبوي قلوبهم فينادون من رواء الحجرات: يا أبا القاسم! اخرج لنا، يا محمد! تعال، أو وهم جالسون معه، ويرفعون أصواتهم في ذلك، فحرم الله كل ذلك، وقال: لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا [النور:63] أي: لا ننادي الرسول كما ننادي بعضنا، ولا ندعوه كما ندعو بعضنا: يا فلان أو يا أبا فلان، بل نناديه ونقول: يا نبي الله يا رسول الله، وقد يذكر اسمه وتقول: محمد عليه الصلاة والسلام، فإذا ناديته باسمه فلابد أن توصل بها (صلى الله عليه وسلم)، وهذا من الدعاء الذي ليس لبعضنا مع بعض، فلا نصلي على أحد إذا ذكرناه مهما كان، ولا أبي بكر ولا عمر ، فلا نقول: قال أبو بكر صلى الله عليه وسلم، ولا قالت فاطمة : صلى الله عليها وسلم، بل نترضى على الصحابة؛ لأن الله رضي عنهم، فنقول: قال أبو بكر رضي الله عنه، وقال مالك رحمه الله.

    وأما الصلاة فقد انفرد بها سيد البشر صلوات الله وسلامه عليه، فالأدب أن نقول: قال رسول الله، أو قال نبي الله ونختمها بصلى الله عليه وسلم.

    مكانة الصلاة على رسول الله

    قال عليه الصلاة والسلام: (البخيل كل البخيل من إذا ذكرت عنده لم يصل علي)، فلا يكفي أن نقول نحن: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل كل من سمع خطيباً أو مدرساً أو متكلماً يذكر رسول الله يجب عليه أن يقول: صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

    ومن هنا إذا قلنا: قال أبو القاسم -وقد فعل هذا بعض الصحابة والسلف- ينبغي أن نقول معها: صلى الله عليه وسلم، وإذا قلنا: قال محمد، ينبغي أن نقول معها: صلى الله عليه وعلى آله وسلم؛ لأن الله قد حرم أن ندعو نبينا كما ندعو بعضنا، فإننا ندعو بعضنا بيا فلان! أو يا أبا فلان! ولا نصلي عليه، ولا تكون الصلاة إلا على رسول الله، فإذا قلنا: يا محمد، أو يا رسول الله، أو يا نبي الله فيجب أن نختمها بقولنا: صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

    وهل لا بد أن نقول: سيدنا محمد، أو سيدنا أحمد أو سيدنا أبو القاسم أم لا؟

    نقول: السيادة في حد ذاتها لا تشرف النبي، وإنما تشرفنا نحن، وكون الرسول سيدنا معناه: نحن الذين شرفنا بسيادته، فلا يكفي أن تقول: سيدنا محمد دون أن تصلي عليه.

    وأما التبجيل والتعظيم فهو أن تقول عنه: رسول الله، أو نبي الله صلى الله عليه وعلى آله، وإذا قلت: سيدنا النبي، فهو سيدنا وسيد الكل، ولكنه شرف لنا نحن، ولقد قال عن نفسه عليه الصلاة والسلام: (أنا سيد ولد آدم ولا فخر) وهو إمام الأنبياء والمتقين، وأين نحن من سيادته علينا نحن؟ ولكن الشيء الذي لا بد منه ولا يجوز التفريط فيه أنه إذا ذكرناه أو ذكر ونحن نسمع أن نقول: صلى الله عليه وسلم.

    وحاول البعض أن يقول: الدعاء هنا دعاء النبي صلى الله عليه وسلم، أي: لا تظنوا أن دعاء النبي على أحدكم أو أن دعاءه لواحد منكم هو كدعائكم، بل دعوة النبي مستجابة إذا دعا عليكم أيها المنافقون، وقد مضت الآيات وفيها وجوب أن تعتقد أن ما دعا به واقعاً لا محالة، وإذا دعا لكم أيها المؤمنون الصادقون فتأكدوا من أنفسكم أن دعوته لكم مستجابة، ولكن الموضوع ليس هذا، الموضوع الأدب مع النبوة والرسالة، وفيه ما مضى من قبل ألا نترك أمراً جامعاً أو مجلساً نبوياً للنبي صلى الله عليه وسلم، فنترك مجلسه وأمره الجامع دون أن نستأذنه، فالأدب هو هذا.

    وقوله: لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ [النور:63] ومن هذا كذلك لا تقولوا: يا محمد! أو يا أبا القاسم! بل قولوا: يا رسول! أو يا نبي الله! هذا في عصره، وبعد عصره وإذا ذكرناه نذكره برسول الله ونبي الله، ونختمها بصلى الله عليه وسلم.

    وقد أمرنا الله بذلك في الآية يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56] و(تسليما) مفعول مطلق، أي: كثير السلام كثير الصلاة،كيف والله جل جلاله ابتدأ بنفسه بالصلاة عليه فقال: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ [الأحزاب:56]، وهل احتاج بعد ذلك إلى صلاتنا؟! وإنما أمرنا الله بذلك، فكيف وقد صلى الله عليه، وصلت عليه الملائكة، أفناتي نحن ونجمل بكلمة نقولها عند ذكره صلى الله عليه وسلم؟!

    ومن الأدب مع رسول الله الصلاة عليه عند ذكره، وإلا فنكون قد عصينا أمر الله المتمثل في قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]، وفي هذه الآية يقول الله: لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا [النور:63]، فليس الأمر مع الرسول كالأمر بيننا لا في الآداب ولا في المعاملة ولا في النداء، بل في كل ذلك يجب أن يكون مع النبي عليه الصلاة والسلام في الذروة والقمة.

    وقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يكونون جالسين بين يدي رسول الله كالميت بين يدي المغسل، ويكونون جالسين وكأنما على رءوسهم الطير لا يتحركون، ولا يبتدئونه بكلام إلا إذا هو ابتدأ به صلى الله عليه وسلم، ولا يرفعون أصواتهم إذا تحدثوا على صوته، وقد هدد الله من يفعل ذلك بأن يحبط عمله وهو لا يشعر.

    وكانوا يتبادرون إليه صلى الله عليه وسلم إذا قص شعره في الحي، فيأخذون شعره ليتبركوا به، وكان إذا توضأ يكادون أن يتقاتلوا على أخذ شيء من مائه، وإذا نادى أحداً يبادر بالجواب لبيك وسعديك يا رسول الله، ولأصحابه من ذلك غرائب وعجائب.

    ففي ذات مرة كان يخطب على المنبر وكان ابن مسعود في الشارع لم يصل بعد، فقال النبي: اجلس، وإذا بـابن مسعود يجلس في الأرض في الشارع بعد الصلاة، فيخرج النبي صلى الله عليه وسلم فيجد ابن مسعود جالساً، فيقول له: ما بالك؟ فيقول ابن مسعود : يا رسول الله! سمعتك تقول: اجلس، فجلست.

    والنبي صلى الله عليه وسلم إنما قال: اجلس لمن دخل وهو يخطب وأراد أن يصلي ركعتين، فمنعه من ذلك ليسمع الخطبة، وقال له: اجلس فليس هذا وقت صلاة؛ لأن من تمام صلاة الجمعة أن ينصت الإنسان للخطيب، وألا يلهو ساعة الخطبة، وإلا فمن لغى فلا جمعة له.

    ونرى كثيراً من الناس اليوم يخطب الخطيب وهم يطوفون، فيجب أن يمنعوا بالعصي، والشرطة لا يقومون بذلك؛ لأن الخطبة إذا ذاك هي الواجبة، وصلاة الجمعة واجبة أيضاً، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: (من فاتته صلاة الجمعة ثلاث مرات طبع الله على قلبه)، فهؤلاء الذين لا يذكرون الطواف إلا وقت الخطبة جهلة مقصرون، ويرجعون بالوزر لا بالأجر في تلك الساعة؛ لأنهم مأمورون بسماع ما يقوله الخطيب، ويجب أن يمنعوا من ذلك، وكذلك صلاة التحية أو صلاة ركعتين والإمام يخطب، بل ينبغي أن ينصت الإنسان.

    وقد أمر عليه الصلاة والسلام من يأتي لصلاة يوم الجمعة أن ينصت ويسمع، ولا يتخطى الرقاب، ومن فعل سوى ذلك فقد قال عنه النبي عليه الصلاة والسلام: (فليرجع مأزوراً غير مأجور) أي: يرجع بالوزر وبالإثم لا بالأجر.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذاً ...)

    قال تعالى: قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا [النور:63].

    (قد) هنا للتحقيق، أي: يعلم الله حقاً الذين يتسللون، والتسلل: هو الخروج خفية، و(لواذاً) أي: يحاولون أن يختفوا وراء بعضهم؛ ليتركوا الصلاة والاجتماع، وليخرجوا بغير أذن، فقال الله عنهم: قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا [النور:63]، ومعنى: (قد يعلم الله) أي: قد علم، فهم يخرجون بلا إذن مختفين يلوذ بعضهم ببعض؛ حتى لا يراه رسول الله ويوبخه، ولكن الله قد رأى، وهو قادر أن يُري نبيه ذلك ويعلمه بذلك، وقد فعل.

    وقد علمنا الله كيف نتأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم حياً وميتاً، فالله يعلم هؤلاء المنافقين المتسللين التاركين مجالس رسول الله، ومن ذلك: مجالس علمه وسنته، ومجالس كتاب الله ونشر العلم الموصل إلى معرفة الله ومعرفة نبيه صلى الله عليه وسلم.

    وفي هذه الفقرة من الآية التهديد والنذارة لمن يفعل ذلك؛ لأن الله عالم به.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (فليحذر الذين يخالفون عن أمره...)

    ولذا قال الله بعدها: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ [النور:63].

    أي: عن أمر رسول الله، فيحذر الله جل جلاله ويهدد ويوعد ويخوف من يخالف ويعصي أمر رسوله، أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ [النور:63] أي: أن تصيبهم فتنة في الحياة في الدنيا من نفاق أو كفر وردة، أو من مصائب وبلايا وكوارث.

    ثم في الآخرة: أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور:63] في الآخرة عذاب أليم إضافة إلى هذا الذي في الدنيا، ففي الدنيا هدد بالنفاق وبالكوارث، في الآخرة هدد بعذاب النار الأليم الموجع المهلك.

    وهذا في مخالفة رسول الله حياً وميتاً، فهو رسول الله في حياته وبعد مماته، فلا نبي ولا رسول بعده، ودينه باق إلى يوم النفخ في الصور، وقد أمر بالإيمان به كل إنسان في مشارق ومغاربها، سواء أكان أبيض أم أسود، رجلاً أم امرأة، وهذه الآية -أي: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ [النور:63]- تعم كل مخالف.

    و(عن) في قوله: (عن أمره) صلة، وفسرت (عن) هنا بأنها ليست صلة وإنما هي كلمة أصلية، (يخالفون عن أمره) أي: يختلفون في طاعته ويخرجون عنها.

    فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ [النور:63] أي: ليحذروا من أن يصابوا بفتنة في حياتهم الدنيا: من شرك، أو بلاء، أو أي نوع من أنواع المصائب والكوارث.

    أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور:63] أي: مع هذا فيوم القيامة يصابون بمصائب العذاب الموجع، والعذاب المؤلم في الآخرة بالنار في يوم العرض على الله، وهذا جزاء المخالف لرسول الله وطاعة رسول الله، ومن قال: نطيع القرآن وأما السنة فلا حاجة إليها، فقد قال بهذا زنادقة، وهم بهذا مرتدون، فلا يتصور الإسلام بغير طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    فالله قد قال: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ [النساء:80]، وقال تعالى: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7]، فما أتانا رسول الله وأمرنا به فقد أمرنا الله به أيضاً؛ لأن الله أمرنا بطاعته والامتثال لأمره صلى الله عليه وسلم.

    وكذلك النهي، فقد أمرنا الله أن نمتثل أمره ونجتنب نهيه، ومن خرج عن ذلك فقد خرج عن القرآن، ومن خرج عن القرآن أصبح مرتداً حلال الدم والمال.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ألا إن لله ما في السماوات والأرض...)

    ثم قال تعالى: أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [النور:64].

    قدس الله جل جلاله نفسه، وعلمنا أن نقدسه ونعظمه ونجله؛ فله السماوات وما فيها، والأرض وما عليها وما تحتها، وله كل شيء خلقاً وملكاً وتدبيراً وأمراً ونهياً، ومادام الأمر كذلك أيليق بالعبد أن يخالف سيده؟ وهل يصلح أن يعصي خالقه ويخرج عن طاعته؟ هذا في لغة العقول لا يليق، وهو في لغة الشريعة كفر وردة وخروج عن الإسلام.

    وقوله: (ألا إن لله) (ألا) حرف تنبيه، وكأن المعنى: ألا انتبهوا أيها الناس، وانتبهوا أيها المنافقون، ويا هؤلاء الذين عصوا وخالفوا وخرجوا عن أمره! ألا اعلموا وانتبهوا أنكم لله بأرضكم وسمائكم، وكل ما في الكون ملك وخلق له، أفيليق بالمخلوق المملوك أن يخالف مالكه وخالقه؟ لا يليق هذا في لغة العقول، وهي لغة الشرع والإسلام كذلك.

    وقوله تعالى: قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ [النور:64] (قد) هنا للتحقيق، أي: قد علم الله ما أنتم عليه، وعلم حالكم من صدق وكذب، ومن إيمان وكفر، ومن صدق ونفاق، وهذا إنذار بأن الله لا تخفى عليه خافية، فهو يعلم السر وأخفى، والسر: هو ما ساررته مع أحد، والأخفى: هو الذي تخفيه ولا تقوله لأحد.

    فالله يعلم ما في الضمائر، وما تنطوي عليه النفوس، وما يحدث به الإنسان نفسه ولا يخرج على لسانه.

    إذاً: فكيف يخرج هذا العبد عن أمر الله وطاعته والله يعلم كل حاله ما نطق وما أضمر!!

    وقوله سبحانه: وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا [النور:64] أي: ويوم يرجع الخلق إليه يوم البعث والنشور، يوم الحياة الثانية، يعلم أولئك أن الله تعالى علم ما عملوا في دنياهم ظاهره وباطنه، سره وعلنه، وعند ذا يصيح الكفار والعصاة والمنافقون وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا [الكهف:49]، ينطق بذلك كتاب الله، وينطق بذلك المكلفان عن اليمين والشمال، فإن وجد خير فهو في كتاب اليمين، وإن وجد شر فهو في كتاب اليسار.

    وقوله سبحانه: وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [النور:64] .

    ربنا عليم بكل شيء، والشيء: كل ما سوى الله، فالله يعلم أعمالنا ظاهرها وباطنها، وصدقها وكذبها، فهو عالم بكل شيء جل جلاله، وهذا تهديد ونذارة ووعيد للإنسان أن يخفي ما يظن أن الله لا يعلمه، فإذا ظن ذلك معناه أنه ازداد ضلالة وإفكاً وكفراً، ولما كان الله عالماً بكل شيء، ولا تخفى عليه خافية، فلا يليق بالمسلم إلا أن يكون صادق الإيمان، عاملاً بالأركان، مطيعاً لربه فيما به أمر، تاركاً لما عنه نهى، مطيعاً لرسوله كذلك، ومادام أنه يعلم -وهذا من عقائد المسلمين الأساسية- أن الله مطلع على كل شيء ففيما المخالفة والعصيان إذاً.

    وهكذا ننتهي بسورة النور المباركة، ذات الأحكام العجيبة والحكم البليغة، وعلى صغر آياتها كانت عظيمة الأحكام والآداب والأذواق والرقائق، قد علمنا الله فيها ما يجب عن المسلم أن يكون عليه مع ربه، ومع نبيه ومع نفسه، ومع أهله وأصدقائه، وأن يتجنب النفاق والعصيان، وأن يتجنب مخالفة الشرع، فالله عالم بكل شيء ومطلع عليه.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    767491685