لا يزال ربنا يشيد بأحوال الصادقين من المؤمنين الثابتين الراسخين.
قوله: (من المؤمنين).
(من) للتبعيض، أي: من المؤمنين بالله وبرسوله (رجال) مؤمنون صادقون.
وقوله: (صدقوا ما عاهدوا الله عليه).
أي: عاهدوا الله وأعطوه من أنفسهم ذمتها وعهدها والثبات في دين الله، والطاعة لكتابه، والطاعة لرسوله، والاقتداء به صلى الله وعليه وسلم.
فهؤلاء المؤمنون عاهدوا الله على الوفاء، وعلى الثبات، وعلى الإخلاص ما داموا أحياءً.
وقوله: (فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ).
أي: من هؤلاء من قضى نذره، ووفى بعهده واستشهد في سبيل الله، عاهد الله ووفى بعهده، وآمن وصدق في إيمانه، وقاتل وثبت في قتاله، وابتلي في نفسه وفي ماله وفي أرضه فثبت في كل ذلك ثبوت الجبال الرواسخ، فمن هؤلاء الصادقين من قضى نحبه، والنحب: قيل: النذر، وقيل: العهد، وقيل: الحياة والموت، وكل ذلك صحيح، فهؤلاء قد وفوا نذورهم، ووفوا عهودهم وعهودهم بالصدق والثبات، وجاهدوا في سبيل إعلاء كلمة الله، حتى استشهدوا في سبيل الله.
وممن قضى نحبه حمزة بن عبد المطلب عم النبي عليه الصلاة والسلام، ومنهم مصعب بن عمير وغيرهما ممن استشهد في أحد وغيرها.
فجميع الصحابة تحملوا الشدائد والرزايا والبلايا في سبيل الله، ومن أجل إعلاء كلمة الله، فكل هؤلاء ممن صدقوا الله ما عاهدوه، وقضوا نحبهم وعهودهم إلى أن استشهدوا في سبيل الله، ومنهم من بقي على عهده إلى أن مات.
لم يرد أن يزكي نفسه، ويقول: سأقاتل وسأعطي وسأفعل، وإنما قال: (ليرين الله مني ما أصنع)، أي: من قتال وجهاد في سبيله سبحانه، قال أنس بن مالك : فجاءت معركة أحد فبذل من نفسه، ولقي في طريقه سعد بن معاذ فقال: واهاً يا سعد ، إني لأجد ريح الجنة دون أحد.
وإذا بـأنس بن النضر يدخل المعركة ويقاتل قتال المريد للموت والشهادة إلى أن سقط في المعركة شهيداً، وبه بضع وثمانون ما بين ضربة بسيف وطعنة برمح ورمية بسهم، ومثل به أعداء الله من المشركين الكافرين، حتى قال أنس وغيره من الرواة عندما بحث عنه في الأموات وجثثهم: لم تعرف جثة أنس بن النضر إلا أخته الربيع عرفته ببنانه من كثرة الجراح، ولتمثيل وتشويه جثته من قبل أعداء الله من المشركين الوثنيين.
وورد أن هذه الآية نزلت في طلحة بن عبيد الله كذلك، وقد كانت شلت يده في غزوة أحد؛ دفاعاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجهاداً في سبيله.
ومنهم أيضاً مصعب بن عمير القرشي الذي كان شاباً مترفاً بمكة، وعندما أسلم وكان من المسلمين الأول أرسله النبي صلى الله عليه وسلم لتعليم الناس الإسلام والدين في المدينة، فعاش عيشة الزهد، وكان إذا وجد تمرات أكلها وشرب عليها جرعة ماء وحمد الله، حتى عندما استشهد لم يجدوا له ثوباً يكفنونه به إلا نمرة فكفنوه بها، فكانوا إذا غطوا رأسه تنكشف قدماه، وإذا غطوا قدميه ينكشف رأسه، فقال لهم عليه الصلاة والسلام: (استروا رأسه، وضعوا على رجليه الإذخر).
فكان من هؤلاء الصحابة من استشهد في سبيل الله، كما قال الله: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ [الأحزاب:23] أي: أوفوا بنذورهم وبعهودهم وبذلوا أنفسهم وأرواحهم رخيصة في سبيل الله.
وقوله: وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ [الأحزاب:23].
أي: من هؤلاء الرجال المؤمنين الذين صدقوا الله ما عاهدوه من قاتل ولم يمت، ومنهم خالد بن الوليد الذي ما حضر معركة إلا وخرج منها منتصراً مظفراً، فـخالد بن الوليد جاءه الموت وهو على فراشه، وما من موضع في بدنه إلا وأصابته سهام وأصابته طعون بالسيوف، فأخذ يبكي ويقول: هأنذا أموت على فراشي كما يموت البعير فلا نامت أعين الجبناء!
قال ذلك تواضعاً وهضماً لنفسه، وإلا فـخالد قد ارتمى على الموت فأباه الموت، وقذف نفسه في كل معركة ليموت، ولكن الموت لم يرده، إلى أن مات على فراشه، وكان ممن ينتظر مع الكثير من أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام، وهذه الآية وإن كانت نزلت في غزوة الأحزاب أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، إلا أنها تشمل كل المؤمنين الصادقين الذين صدقوا الله عهودهم، وبذلوا أنفسهم رخيصة في سبيل الله، فذهبوا شهداء في سبيله.
قوله: وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا [الأحزاب:23].
أي: من يوم أن قالوا: لا إله إلا الله محمد رسول الله، قالوها لساناً وأيقنوا بها جناناً، وعملوا بمقتضاها أركاناً، إلى أن بذلوا الأرواح والأموال، وبذلوا كل عزيز وحبيب على النفس في هذه الحياة الدنيا لم يبدلوا ولم يغيروا، وهذا من أعظم الإشادة بهؤلاء رضوان الله عليهم، وقد قال عنهم رسول الله عليه الصلاة والسلام: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، والنصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، قيل: من هي يا رسول الله؟ قال: ما أنا عليه وأصحابي).
فما كان عليه صلى الله عليه وسلم هو موضع القدوة بأمر الله: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب:21] وكذلك السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه، فهؤلاء رضي الله عنهم ورضي أعمالهم وطاعتهم، وهم كذلك رضوا عن الله بقضائه ورضوا برزقه، ورضوا بأمره، ورضوا ببلائه إلى أن ذهبوا إلى الله قريرة أعينهم ودخلوا جنان الخلد مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً.
وكذلك صدقوا الله ما عاهدوه عليه إلى أن قضوا نحبهم وأنهوا حياتهم، إلى أن أوفوا بنذورهم وعهودهم، رضي الله عنهم وألحقنا بهم لا مبدلين ولا مغيرين.
وقوله: وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا [الأحزاب:23].
أي: لم يغيروا دين الله، ولم يبتدعوا فيه، ولم يرتدوا عنه، ولم يخرجوا عما عاهدوا الله عليه من الثبات في دينه، والثبات على طاعته وطاعة نبيه صلى الله عليه وعلى آله.
أي: هؤلاء الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وما بدلوا ولا غيروا، وقضوا نحبهم، فعل الله ذلك بهم، ليجزي الله الصادقين بصدقهم ما وعدوه في دينهم، وفي طاعتهم وفي حياتهم.
فقوله: لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ [الأحزاب:24] أي: بسبب صدقهم، فيجازيهم الله الجزاء الأوفى بدخول الجنان، وبرضاء الله، وبمصاحبة نبيه صلى الله عليه وسلم يوم القيامة في الجنة، وفي الفردوس الأعلى مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.
وقوله: لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ [الأحزاب:24].
أي: ليبتلي هؤلاء وهؤلاء، أما الصادقون فيجازيهم بصدقهم، وأما المنافقون فيعذبهم إن شاء أو يتوب عليهم.
وكيف تكون التوبة على المنافقين والكفار؟
يتوب عليهم بأن يلهمهم التوبة من النفاق والكفر، بالرجوع إلى الله والصدق في الإيمان، والإخلاص في طاعة الله وطاعة نبيه.
إذاً: هؤلاء يتوب عليهم من النفاق، فيخلصون لله، ويعودون لله، حتى إذا تابوا من النفاق تاب الله عليهم ليتوبوا، والنفاق في العقيدة كفر، والكافر لا توبة له في الآخرة، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48] لكن ما داموا أحياءً لم يموتوا بعد فتوبتهم أن يعودوا من الكفر والنفاق، ويخلصوا النية والعمل لله، فتكون تلك توبة لهم ومغفرة لذنوبهم، فيختم الله حياتهم بخير.
وقوله: إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا [الأحزاب:24].
أي: يغفر الذنوب جل جلاله، ويتوب على المذنبين جل جلاله، وهو رحيم بعباده، وقد سبقت رحمته غضبه، وكتب ذلك في اللوح المحفوظ قبل أن يخلق الخلق، فالكافر والمنافق عندما يتوبان من النفاق والكفر في دار الدنيا يختم لهما بخير، والمؤمن المذنب يرحمه الله ويغفر له ذنوبه، ويخرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه، ووسعت رحمته حتى الحيوانات والحشرات، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (دخلت امرأة النار في هرة؛ لا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض).
وفي الحديث: رحم الله بغياً وغفر لها برحمتها لكلب وجدته يكاد يموت عطشاً على رأس بئر، فسقته بنعلها.
فراعى الله ذلك لها ورحمها حيث رحمت هذا الحيوان.
وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء).
فرحمة الله وسعت كل شيء، الكافر والمؤمن، والحيوان وكل خلق الله.
رد الله الذين كفروا من الأحزاب من أهل مكة، ومن أهل نجد، ومن يهود المدينة بغيظهم، ردهم خائبين أذلاء، ردهم بغيظهم يعضون أناملهم ندماً، رجعوا خائبين مما كانوا يطلبونه من النصر، ومن غنيمتهم، ومن قضاء على الإسلام، ومن قتل لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان ما حصلوه ذلاً لأنفسهم وبلاءً عليهم، وكارثة أصابتهم في الدنيا، فازدادوا توجعاً وألماً وحقداً، ولم ينالوا خيراً في الدنيا ولا وفي الآخرة، لم ينالوا في الدنيا ما كانوا ينتظرونه من نصر، ومظهر، ولن ينالوا في الآخرة إلا الخزي والعذاب والخلود في النار.
وقوله: وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ [الأحزاب:25]:
أي: كفى الله المؤمنين من المهاجرين والأنصار وسيدهم القتال، كفاهم القتال بالريح التي أرسلها عليهم، فشردتهم وشتتتهم، وبالملائكة الذين أرسلهم الله وزعزعوا بهم الأرض، وأكفئوا قدروهم، وخوفوهم وأرعبوهم، وهكذا تولى الله جل جلاله بنفسه قتال هؤلاء وإذلالهم، حتى رجعوا بغيظهم لم ينالوا خيراً.
وقوله: وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا [الأحزاب:25].
قوياً في ملكه، قوياً في إرادته، إن القوة لله جميعاً، يهب منها لمن يشاء ابتلاءً أو إكراماً، وينزعها ممن يشاء ابتلاءً أو إكراماً، عزيزاً لا ينال، وهو قد أعطى من قوته للمؤمنين، فقووا على أعدائهم، وأعطى من عزته المؤمنين فعزوا وسادوا، ومن هنا كان صلى الله وعليه وسلم يقول وقت المعركة: (اللهم منزل الكتاب، هازم الأحزاب، سريع الحساب، اهزمهم وانصرنا عليهم).
وكان صلى الله عليه وسلم يقول: (لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده، ولا شيء بعده).
والنبي عليه الصلاة والسلام من تمام إخلاصه في دينه وعبادته لربه مهما بذل من نفسه، فإنه كان لا ينظر لنفسه شيئاً، بل كان يجعل كل ذلك إلى الله، وهكذا يجب أن يكون المؤمن الصادق.
قال الله تعالى: وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا [الأحزاب:26].
الآية السابقة خصت قريشاً وغطفان ممن جاءوا من مكة ونجد من الوثنيين، وهذه الآية خصت أهل الكتاب، والكل كافر ذليل كاذب على الله، وعدو لله ولرسل الله، فقال الله عن أهل الكتاب من يهود المدينة: وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ [الأحزاب:26].
أي: أنزل الذين ظاهروا الأحزاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فهؤلاء اليهود الذين ظاهروا الأحزاب وساندوهم وعاونوهم أنزلهم من صياصيهم.
والصياصي: جمع: صيصة، وهي القلاع المحصنة، فهؤلاء الذين تحصنوا في حصونهم وقلاعهم، يظنون أن تلك القلاع ستحميهم وستمنعهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فأنزلهم الله ذليلين حقيرين.
فقوله: وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ [الأحزاب:26]؛ فهم من أول مرة لم يجرءوا على أن يقابلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين، بل فروا فرار الجراذين والحشرات فتحصنوا بالحصون؛ ورعباً وخوفاً من قوة الله التي قوى بها نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، وقذف في قلوبهم الرعب، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (نصرت بالرعب مسيرة شهر)، وفي رواية: (مسيرة شهرين هكذا وهكذا ..) يعني: من جميع النواحي مشرقاً ومغرباً وشمالاً وجنوباً.
وهذا لو صدق المسلمون الله في دينهم وعهدهم لنصرهم بالرعب، ولما ذلوا حتى يستبيح بلادهم وأعراضهم وأموالهم إخوان الخنازير والقردة من اليهود أعداء الله.
وقوله: وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا [الأحزاب:26].
هؤلاء قد قذف فيهم الرعب بين أيديكم، وقتلتم منهم فريقاً وأسرتم منهم فريقاً، كما في غزوة بني قريظة التي سبق أن قصصتها بتفاصيلها، وأعيدها هنا ملخصة.
انتهت غزوة الخندق بفرار قريش وغطفان، بريح سلطها الله عليهم، قلعت خيامهم، وقلبت قدورهم، وأرعبت قلوبهم، وبجيوش من الملائكة زلزلوا بهم الأرض وأرعبوهم وخوفوهم، وإن كان المسلمون والكفار هذه الغزوة لم يتواجهوا بالسلاح، وإنما فر الكفار خائفين كما وصفهم الله، قال تعالى: وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا [الأحزاب:25].
بعد ذلك اليهود الذين ظاهروا المشركين وناصرهم وذهبوا يجمعونهم من مشرق الجزيرة وغربها، هؤلاء رجع النبي صلى الله عليه وسلم من الغزوة وهو يظن أنها قد انتهت وكان في بيت أم سلمة تغسل شعره صلى الله عليه وسلم، وإذا بجبريل يأتيه ويقول: يا رسول الله أوضعت السلاح؟ نحن لم نضع السلاح بعد، اذهب إلى بني قريظة فأدبهم وانتقم منهم لمظاهرتهم للعدو، وإذا بالنبي عليه الصلاة والسلام يلبس سلاح الحرب وينادي في المؤمنين: أن هلموا، وكان ذلك بعد صلاة الظهر، وقال لهم: لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة، فتسابق الصحابة، فبعضهم صلى العصر قبل المغرب في الطريق، والبعض لم يصل إلا بعد العشاء، فلم يعنف هؤلاء ولا هؤلاء، وكان قد جعل ابن أم مكتوم نائبه وأمير المدينة، وأعطى الراية لـعلي بن أبي طالب ، وذهب إليهم فحاصرهم، وعندما أرسل علياً للراية عاد إليه علي وقال: يا رسول الله إن شئت لا تحضر، قال: لعلك سمعت شتماً، قال: نعم، قال: إذا رأوني لا يجرءون على شتمي، فجاءهم صلى الله عليه وسلم وهم متحصنون في الآفاق والحصون والصياصي، فقال: يا إخوة القردة! يا إخوة الخنازير! ما هذا الذي صنعتم؟ ستلقون جزاء الله بسبب غدركم وخيانتكم، فقالوا له: يا أبا القاسم لم تكن يوماً جهولاً!
ولم يجرءوا على أن يبادلوه بذلك، وحاول علي أن يشتمهم من قبل ولكن الزبير قال له: ما بيننا وبين هؤلاء أعظم من الشتيمة، وبقي أربعة أسابيع يحاصرهم إلى أن طالبوا أن يستشيروا أبا لبابة بن عبد المنذر من حلفائهم في الجاهلية.
فجاءهم فالتف عليه الأطفال والنساء فأخذوا يجهشون بالبكاء، والرجال يستعطفونه ويتمسحون به ويسألونه ماذا ترى؟ فقال لهم: ليس إلا الذبح وأشار بأصبعه إلى حلقه ولم ينطق، وشعر بأنه خان الله ورسوله وفر إلى المسجد النبوي وربط نفسه بسارية.
ثم بعد ذلك عرضوا على رسول الله عليه الصلاة والسلام أن يخرجوا بنسائهم وأطفالهم وبما حملت دوابهم كما فعل مع بني النضير، فأبى عليهم النبي عليه الصلاة والسلام ذلك، وإنما يستسلمون.
وإذا بهم يطلبون أن يحكم عليهم حليفهم في الجاهلية سعد بن معاذ ، وكان قد أصيب في غزوة الخندق في أكحله -أي: في العرق الذي في يده المتصل بالقلب- فنزف الدماء فدعا الله تعالى ألا يميته حتى تقر عينه من بني قريظة، فرقى الدم ووقف، وبقي جرح خفيف إلى أن أرسل إليه عليه الصلاة والسلام فجاء على حمار، فقال: قوموا إلى سيدكم -أي قوموا إجلالاً وإكباراً واحتراماً- فقال له رسول الله عليه الصلاة والسلام: هؤلاء يريدون أن تكون أنت الحكم فيهم، فأخذ العهود والمواثيق من المهاجرين والأنصار ومن رسول الله عليه الصلاة والسلام، فالتفت إلى المهاجرين وقال: آلله إن حكمت بحكم لتنفذنه؟ قالوا: اللهم نعم، والتفت إلى الأنصار وقال مثل ذلك، والتفت من الجهة التي فيها النبي عليه الصلاة والسلام وقال: ومن هنا؟ وهو يغض البصر حياء من رسول الله عليه الصلاة والسلام؟ قال: اللهم نعم، وإذا به يقول: أحكم بقتل الرجال وسبي النساء والأطفال وغنيمة الأموال، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: (قد حكمت فيهم بحكم الله ورسوله)، فلما تمكن منهم ربط الأعناق منهم والأيدي، وسيقوا إلى خارج المدينة بأميال، وهم ما بين سبعمائة إلى تسعمائة، فحفرت لهم الأخاديد، وقطعت رءوسهم في عشية يوم نصر الله فيه نبيه صلى الله عليه وسلم وأذل عدوه.
وكان الأسرى من الأطفال ومن النساء كذلك ما بين ستمائة إلى سبعمائة، وكان من يشك فيه هل بلغ أو لم يبلغ يكشف عن عانته، إن وجد قد أنبت اعتبر رجلاً فتقطع رأسه، ومن لم ينبت اعتبر طفلاً فيؤسر.
وهكذا حكم الله جل جلاله نبيه في هؤلاء الأعداء، حيث قال ممتناً عليه وعلى أتباعه من المهاجرين والأنصار وعلى المؤمنين إلى يوم القيامة: وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا [الأحزاب:26].
أي: هؤلاء الذين ظاهروا وعاونوا الأحزاب على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما كان من الله سبحانه إلا أن رد كيدهم في نحورهم، فجاء إليهم صلى الله عليه وسلم وحاصرهم فاستسلموا، فقتل رجالهم وسبى نساءهم وأطفالهم، وغنم أموالهم، وكفى الله المؤمنين القتال.
أي: دورهم وقصورهم.
سبق في علم الله وأخبر بالفعل الماضي وهو كالحاضر والمتوقع والواقع، (أورثكم أرضهم) أي: سيورثكم أرض أهل الكتاب وأرض المشركين والوثنيين كذلك.
وقوله: وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا [الأحزاب:27].
قال الحسن البصري : أي: لم تدوسوها بأقدامكم ولم تدخلوها بعد، وهي أرض فارس والروم، وقد فعل الله جل جلاله ذلك في أيام الخلفاء الراشدين ابتداء من أبي بكر رضي الله عنه، فقد توفي عليه رضوان الله وجيوشه على أبواب الجابية في أرض الشام، وكانت أرض الروم.
ثم استكمل الفتح بعد ذلك الضرغام عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ثم فتح الشام والعراق، وفتح مصر وإفريقيا، وفتح أرض فارس، فكان الأمر كما ذكر الحسن البصري.
فقوله: وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا [الأحزاب:27]، لم يطأها المسلمون قبل ذلك ولم يدخلوها فاتحين ولم يملكوها يوماً، ولا تعلقت نفوسهم بها حتى جاء الإسلام ووعدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، يوم الخندق حيث قال في الضربة الأولى للصخرة: (فتحت لكم أرض الروم، وفي الثانية: فتحت أرض فارس، وفي الثالثة: فتحت أرض اليمن ورأيت قصورها كأنها أنياب الكلاب).
وهكذا تم ذلك بعد النبي عليه الصلاة والسلام في سنوات، فذهبت فارس ولا فارس بعد اليوم، كما قال عليه الصلاة والسلام عندما أرسل كتاباً إلى كسرى ملك فارس يدعوه إلى الإسلام، فأخذته العزة بالإثم فمزق الكتاب وأمر جنديين بأن يأتياه بهذا العربي، أي: أن يأتيا إليه بالنبي صلى الله عليه وسلم.
فلما بلغ الخبر النبي عليه الصلاة والسلام قال: (مزق الله ملكه، فلا كسرى بعد كسرى، ولا فارس بعد فارس)، ومضت بضع سنوات وإذا الله يسلط عباده المؤمنين في عهد عمر فذهبوا بفارس وذهبوا بكسرى فلم يعد كسرى الفارسي بعد ذلك وإلى اليوم القيامة، ولم تعد فارس وثنية منذ ذلك اليوم وإلى يوم القيامة، فدخل المسلمون أرضاً لم يطئوها من أرض الروم وأرض فارس.
وقال عكرمة مولى ابن عباس: (وأرضاً لم تطئوها): كل أرض سيفتحها المسلمون بعد ذلك.
فقد فتح المسلمون بعد ذلك أرض الفرس والروم، وفتحوا أرض الهند، وفتحوا أرض المغرب، وفتحوا أرض أسبانيا، وفتحوا أرض برتغاليا، وفتحوا كثيراً من أرض أوروبا، وجابت سفنهم البحار كلها في مشارق الأرض ومغاربها، وجابت خيولهم البراري كلها في مشارق الأرض ومغاربها، وجنوبها وشمالها، وكان ذلك تأكيداً وتفسيراً لقوله تعالى: وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا [الأحزاب:27].
فقوله: وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا أي: هو القوي جل جلاله، وهو العزيز الذي لا ينال جل جلاله، وهو القادر على كل شيء.
فهؤلاء العرب كانوا يتقاتلون على ناقة أو فرس مدة أربعين سنة، فأعزهم الله بالإسلام فسادوا وحكموا الأرض، وكانوا المعلمين والموجهين والمؤدبين المحكمين بين الخلق، فلما عادوا فبدلوا وغيروا سلط الله عليهم الأعداء من النصارى واليهود الذين هم أذل الخلق وأحقرهم، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ [الرعد:11].
فإن عاد المؤمنون والمسلمون وغيروا ما بأنفسهم من عصيان، وغيروا ما هو واقع في الأمة من كفر بالله ومن جري وراء اليهود والاستسلام لهم، كما هو الحاصل من الحكام الذين أذلوا الأمة الإسلامية وأهانوها، والإسلام منهم بريء ومن أعمالهم، حينها سينطبق علينا قوله تعالى: وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا [الأحزاب:27].
نلاحظ في القرآن الكريم وفي هذه السورة أن الله خص خاتم أنبيائه صلى الله عليه وسلم بأنه لا يناديه باسمه وإنما يقول عنه: يا رسول الله، يا نبي الله، وفي أول هذه السورة قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ [الأحزاب:1].
وهنا يناديه ويقول: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ [الأحزاب:28]، وسيقول بعد ذلك: يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ [الأحزاب:30]، وما ذلك إلا لمنزلته ولمقامه ولقدره عند الله جل جلاله، فهو سيد الأنبياء وإمامهم وسيد جميع الخلق من ملائكة وبشر.
قد يبدو لأول مرة أن الآيات الآتية ابتداء من هذه الآية لا مناسبة بينها وبين غزوة الخندق أو الأحزاب، فنقول:
إن مناسبة الآية مع الغزوة ظاهرة، وهي: أن الغزوة قائمة والرسول بين إذاية المنافقين والمشركين واليهود، وإذا بالنساء يجتمعن حوله ويقلن: يا رسول الله نريد ذهباً، نريد قصوراً، نريد نفقة، نريد رفاهية.
وهذا من الأذى للرسول صلى الله عليه وسلم، وقلن: هؤلاء نساء الملوك من الروم والفرس يتنعمن ونحن في حالة من البؤس لا تليق بنساء الملوك، وكأنهن يتحدثن عن ملك لا عن نبي ورسول وجاء في الحديث: (أن الله تعالى خير النبي عليه الصلاة والسلام بين أن يكون نبياً ملكاً أو نبياً عبداً، فأشار إليه جبريل أن تواضع، فقال: اللهم نبياً عبداً)، وكان بذلك سيد الملوك، وكانت الملوك يشرفها أن تمسح أقدام النبي صلى الله عليه وسلم وأن تنفض الغبار عن نعاله، وكان صلى الله عليه وسلم لا يهاب الملوك، ومن هم حتى يهابهم صلى الله عليه وسلم؟ بل هم الذين يهابونه ويرتعدون بين يديه، ومع ذلك فقد قاد الجيوش وساد في الأرض، وبلغت جيوشه المشارق والمغارب، إلى أقصى المغرب في ديار أوروبا، وأقصى الشرق كالهند والصين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر