إسلام ويب

تفسير سورة الأحزاب [36-37]للشيخ : المنتصر الكتاني

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إذا قضى الله ورسوله أمراً فالواجب على المؤمنين أن يلتزموه ويعملوا به ولا يخالفوا فيه ولا يختاروا، وقد وقع ما وقع في قضية زواج سيدنا زيد بن حارثة بزينب بنت جحش رضي الله عنها، حيث انتهى الأمر بطلاقها منه وزواجها من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم...)

    قال الله تعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا [الأحزاب:36].

    قوله: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ [الأحزاب:36].

    أي: لا ينبغي ولا يليق بأي مؤمن وأي مؤمنة إذا قضى الله في كتابه قضاءً وأمر أمراً ونهى نهياً، وإذا قضى رسوله أمراً أو نهياً، أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [الأحزاب:36].

    أي: لا خيرة لأحد في أمر الله وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أولى بالمؤمنين من أنفسهم.

    فلا يليق ولا ينبغي بكل مؤمن ومؤمنة أن يكون لهم اختيار في جميع أمورهم؛ فالأمر أمر الله وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن يخالف ذلك ويخرج عنه فما جزاؤه؟ قال تعالى: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا [الأحزاب:36].

    أي: من خرج عن أمر الله فأحل حراماً أو حرم حلالاً، أو زاد شيئاً في شرع الله، أو حاول أن يحذف شيئاً من شرع الله، بأن يلغي قوانين الإسلام ويعمل بقوانين الكفر، بحجة أن قانون الإسلام قد كان يصلح زماناً قد مضى، وهو اليوم لم يعد يصلح؛ لأنه يخالف الحضارة والعصر والزمن، فإن من فعل ذلك يكون كافراً عاصياً لله وعاصياً لرسول الله، وضالاً عن الحق ضلالاً مبيناً بيناً واضحاً، لا يخفى على ذي فطرة سليمة، ولا يخفى على مؤمن.

    وقد يفعل ذلك معصية لا تحدياً فيكون مع ذلك ضالاً فاسقاً، يعني: لا يزال مسلماً مع الفسق والضلال والجهالة البينة.

    فهذه الآية الكريمة تعم كل المؤمنين والمؤمنات في العصر النبوي، وما جاء بعد العصر النبوي وإلى عصرنا وإلى يوم القيامة، فكل من حاول أن يخرج عن أمر الله وأمر رسوله، وأن يختار لنفسه غير ما اختاره الله له، ضارباً بخيرة الله عرض الحائط، كان ضالاً ضلالاً بيناً ظاهراً، وعاصياً لله ولرسوله.

    وقرئ في القراءت السبع: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ [الأحزاب:36] بالتاء لا بالياء، وهي هكذا ينبغي أن تكون لو لم يفصل بين تكون وبين الخيرة بكلمة، أما إذا فصلت بكلمة فصح أن يقول: (أن يكون لهم الخيرة) وقرئ: (الخيْرَة)، والكل بمعنى واحد.

    سبب نزول قوله تعالى: (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً...)

    سبب نزول هذه الآية الكريمة ما يروى في السنن وغيرها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم ذهب يخطب زينب بنت جحش الأسدية بنت عمته، فقالت: حباً وكرامة ونعما، فقال: ليس لي ولكن لمولاي زيد بن حارثة ، فقالت هي: ألم يجد رسول الله صلى الله عليه وسلم لابنة عمته الحسيبة النسيبة القرشية إلا مولى، وقال أخوها مثل ذلك، فنزل قوله تعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ ... [الأحزاب:36]) الآية.

    يعني: ليس لمؤمن وليس لمؤمنة ولا ينبغي ولا يليق أن يكون لهم مع أمر الله اختياراً، فعندما نزلت الآية قالت: (سمعاً وطاعة لرسول الله، فليزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن شاء).

    وقالوا: بعد أن طلقت زينب منه أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يزوجه عقيلة من عقائل قريش، فتلك أسدية قرشية ابنة سيد العرب قبل الإسلام من قبل أمها عبد المطلب ، وهذه أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط كانت من السابقات للإسلام، وأول مهاجرة من مكة إلى المدينة، وكان أبوها عدو الله وعدو رسول الله عليه الصلاة والسلام، وطالما آذاه وألب الناس عليه، خرج أبوها مع الكفار لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه في غزوة بدر فوقع أسيراً، فكان ممن قتله صلى الله عليه وسلم صبراً، فعندما قال: (لمن تترك الصبية يا محمد؟ قال: للنار)، وكان لـعقبة صبية فأراد أن يرحمه رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم، ونسي خبثه وسبابه وشتائمه وتحريضه على رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    فعندما خطب النبي صلى الله عليه وسلم أم كلثوم بنت عقبة قالت: إن كان لك فنعم؟ ووهبت نفسها من قبل للنبي عليه الصلاة والسلام، فقال: (أريد أن أنكحك مولاي زيداً ، قالت: ألم تجد من تزوجني إياه إلا عبدك؟ فنزلت هذه الآية الكريمة: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [الأحزاب:36]، فقالت: بلى رضيت يا رسول الله).

    وقيل في ذلك سبب آخر: وهو أن أحد الصحابة واسمه جليبيب كان إلى الحاجة وإلى المسكنة أقرب، فخطب له رسول الله صلى الله عليه وسلم كريمة من كرائم الأنصار، فقالت أمها وقال أهلها: رضينا يا رسول الله، فقال: ليس لي ولكن لـجليبيب ، فقالت الأم للأب: أتزوج ابنتنا لـجليبيب وقد رددنا فلاناً وفلاناً من كرام القوم وكبارهم؟

    وإذا بالبنت المخطوبة تسمع هذا وكانت في خدرها فنادت أمها وأباها وقالت: أتردان على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمراً، زوجوني لمن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله لا يضيعني ما دامت الخيرة من رسول الله في جليبيب فتزوجت به، فما هو إلا زمن حتى حضرت غزوة من الغزوات، فخرج جليبيب مجاهداً مقاتلاً، واستشهد جليبيب وفي نهاية المعركة قال نبي الله عليه الصلاة والسلام: ابحثوا من افتقدتم؟ فقالوا: فلاناً وفلاناً وفلاناً، قال: ولكنني لا أرى جليبيباً ابحثوا عنه بين القتلى، فوجدوه، وإذا بالنبي عليه الصلاة والسلام يترحم عليه ويضعه بين ساعديه حتى جهزوا له قبراً فدفنه بيديه الشريفتين صلى الله عليه وسلم، بلا غسل ولا صلاة شأن شهداء المعركة.

    الشهداء تشهدهم الملائكة ويتولون أمرهم عن البشر، فدعا النبي عليه الصلاة والسلام لزوجته: أن يصب عليها المال صباً، وأن يودها الناس ويخطبوها، وإذا بشباب الأنصار والمهاجرين يتسابقون ويتبارون أيهم تكون من حصته ومن نصيبه، فتزوجت شاباً كريماً ذا وجاهة وكفاية وغنىً، وعاشت في رغد من العيش، كما دعا لها رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنها اختارت أمر الله ورسوله.

    إذاً: كانت هذه الأمور الثلاثة سبباً لنزول هذه الآية الكريمة، وذلك للعلم فقط، وإلا فالآية تعم السابق واللاحق إلى يوم القيامة، فإذا اختار الله أمراً واختار رسوله أمراً فلا يليق ولا ينبغي ولا يجوز لأي مؤمن ومؤمنة أن يكون لهم الخيرة من أمرهم، ومن يفعل ويقدم خيرته ورأيه على أمر الله وأمر رسوله يكون عاصياً لله وعاصياً لرسوله، ويكون قد ضل الطريق السوي ضلالاً ظاهراً بيناً واضحاً.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك...)

    قال الله تعالى: وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا [الأحزاب:37].

    هذه الآية الكريمة أشير لها في أول سورة الأحزاب، وهنا بينت ووضحت وذكر فيها اسم زيد بن حارثة مولى رسول الله عليه الصلاة والسلام، وعاتب الله نبيه على أن أخفى شيئاً أخبره الله به، وسيكون بعد ذلك ظاهراً وواضحاً.

    إبطال التبني في الإسلام

    يقول تعالى لنبيه: (وإذا تقول للذي أنعم الله عليه) أي: أنعم الله عليه بالإسلام فخرج من الكفر إلى الإيمان، ومن الضلال إلى الهداية.

    وقوله: (وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ) أي: أنعمت عليه بالحرية والعتق بعد أن كان عبداً رقيقاً.

    وذلك أن رسول عليه الصلاة والسلام عندما تزوج خديجة أم المؤمنين رضوان الله عليها، كان زيد بن حارثة طفلاً رقيقاً لديها، وعندما رآه النبي عليه الصلاة والسلام أعجب بذكائه وفطنته وطاعته ومحبته لرسول الله عليه الصلاة والسلام، فوهبته خديجة لزوجها عليه الصلاة والسلام قبل الإسلام.

    وكان زيد بن حارثة عربياً أخذ أسيراً في إحدى الغزوات، وبيع في أسواق مكة، وإذا بأبيه في يوم من الأيام يأتي ومعه عمه يبحثان عن ولدهما في أسواق وقرى ومدن وصحاري الجزيرة، إلى أن رآه أبوه وعمه وألقي في روعهما أنه ولدهما، فوقفا عليه يسألانه: من أنت يا غلام؟ قال: أنا زيد ، فقالا: من أبوك؟ قال: حارثة ، قالا: عند من أنت؟ قال: عند محمد بن عبد المطلب، قالا: أرقيق أنت أم حر؟ قال: بل رقيق.

    قال أبوه: أنا أبوك وهذا عمك، وضماه إليه يقبلانه ويشمانه شأن الوالد الذي يفارق ولده لسنوات ويصبح عبداً رقيقاً.

    وذهبا معه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالا: يا ابن عبد المطلب تكرم علينا أكرمك الله هذا ولدنا، طالما بكت أمه عليه، وطالما حزنا عليه، ونحن الآن وجدناه عندك، وأنت بالخيار بين أن تأخذ ثمنه بما تريد وبين أن تعتقه لله، قال: سلوه إن اختاركم فهو لكم، وإذا بهما يجزمان بأنه لا يترك أباه وعمه ويبقى رقيقاً عند مولاه، فقالا له ذلك، فقال: لا أختار على مولاي محمد أحداً، فعجبا واستغربا وقالا: أتفضل الرق والعبودية على الحرية وعلى أبويك؟! قال: نعم إذا كان مولاي هو محمد فأنا أفضل ذلك.

    وإذا بالنبي عليه الصلاة والسلام يجازيه ويشكره على ذلك فقال: اشهدوا بأني أرثه ويرثني، وأنه من اليوم ابني، فأصبح يقال له: زيد بن محمد، وأصبح يعرف بابن محمد عليه الصلاة والسلام، وكانت العادة في المتبنى أن يكون كابن الصلب في كل شيء.

    في الإرث يرث أباه المتبني، ويرثه أبوه المتبني، ويكون واحداً من الأسرة كالابن من الصلب.

    والتبني من عادات وتقاليد العرب كلها، وهذا العمل عادت إليه شعوب ودول من المسلمين، فعصوا أمر الله وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا ضالين ضلالاً مبيناً.

    والرسول صلى الله عليه وسلم إنما فعله قبل النبوة والرسالة على عادة قومه، فرسول الله وخاتم الرسل والأنبياء تبني زيداً، وإذا بالله يريد أن يبطل هذه العادة على أنها زور من القول، وعلى أنها لا أصل لها ولا حقيقة ولا صحة، فأراد الله جل جلاله أن يجعل النبي عليه الصلاة والسلام هو أول من يبطل هذا التبني، لا بالقول فقط، بل بالفعل، فيطلق زيد زوجته ويتزوجها رسول الله عليه الصلاة والسلام كأرملة مطلقة لرجل أجنبي لا صلة له به ولا محرمية لا من نسب ولا من صهر.

    وكان هذا الأمر شديداً على رسول الله عليه الصلاة والسلام، وأخبر الله النبي عليه الصلاة والسلام أن زيد بن حارثة سيطلق زوجته زينب بنت جحش وستتزوجها بعده؛ ليكون هذا الزواج هو الإبطال العملي للتبني؛ لأن كل متبنى ليس ولداً حقيقاً، وإنما الولد هو ولد الصلب. أما غير ذلك فلا حكم له وهو مردود.

    فالنبي عليه الصلاة والسلام عندما أخبر بذلك من الله جل جلاله عظم عليه الأمر، وعلم بأن المنافقين والكفار سيكثرون فيه القالة والطعن والشتيمة، سيقولون: طمع في زوجة ولده حتى طلقها له وأخذها هو، فقال الله له: وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ [الأحزاب:37].

    وزينب بنت جحش عندما تزوجت زيد بن حارثة تزوجته تزوج الحر للرقيق، فكانت تتعالى عليه وتتعاظم عليه، وكانت تعتبر نفسها من أعلى الدرجات، لقربها من رسول الله عليه الصلاة والسلام، وأن زيداً ليس إلا رقيقاً ومولى أعتق بعد ذلك، وهو على كل حال مولى بعد عتقه، كما هو معلوم.

    فكانت تشتم زيداً وتطيل لسانها عليه، وكانت تهرب من فراشه، فكان زيد يأتي إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام ويشتكيها إليه؛ لأنه هو الذي زوجه بها، فكان النبي عليه الصلاة والسلام يقول له: (أمسك عليك زوجك) لا تطلقها (واتق الله) فيها فالنساء هكذا.

    وكان يسأله: هل رابك منها شيء؟ فقال: معاذ الله يا رسول الله، هي في منتهى الدين، ومنتهى التقوى والصلاح، ولكنني لم أصبر على لسانها وتعاليها وتعاظمها علي.

    مع أن زيداً كان ذا شأن كبير، ولعله أفضل عند رسول الله وأحب منها، كان يقال له: حب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي: محبوب رسول الله، وكان يقال عن ولده أسامة بن زيد : الحب بن الحب، وكان عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدرجة العليا، كما في الصحاح عن النبي عليه الصلاة والسلام أن علياً والعباس سألاه فقالا: (يا رسول الله من أحب أهلك إليك؟ قال: فاطمة ، قالا: لسنا نقصد فاطمة ، من أحب أهلك إليك من الرجال؟ فقال: أسامة).

    قال هذا لعمه العباس ولصهره زوج ابنته وأبي أولاده الحسن والحسين، وقاله لمن انفرد من الصحابة بكرم الله وجهه؛ حيث لم يسجد لصنم قط، هذه كانت رتبة زيد عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحتى عندما ارتفعت البنوة وسمي باسمه زيد بن حارثة كان ذا مكانة خاصة عند رسول الله عليه الصلاة والسلام، وعندما ولد له ولده أسامة كان يضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو طفل على فخذه ويمسح أنفه ويقول لـعائشة وهي ترى ذلك: (لو كان أسامة بنتاً لقرطتها ولقلدتها) أي: لجعلت لها قلادة ولجعلت لها أقراطاً.

    إذاً: كانت زينب بنت جحش تتعالى على زيد بن حارثة وتشتمه، كانت تفر من فراشه، فكان يأتي ويشتكي منها لرسول الله عليه الصلاة والسلام فيقول له: (أمسك عليك زوجك لا تطلقها، واتق الله فيها) فعاتب الله نبيه لما قال لمولاه ذلك وهو يعلم بأن الله أخبره بأن زيداً سيطلقها، أي: فدعه يطلقها وأنت ستتزوجها بعده، فلم تقول هذا لشيء تعلمه من قبل؟!

    وقوله: وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ [الأحزاب:37].

    أي: تخفي في نفسك يا محمد ما الله مبديه، أخفى أن زيد بن حارثة سيطلق زينب بنت جحش ويتزوجها بعده، وأن هذا تنزيل الله وسيكشفه وسيعلنه؛ ليكون رسول الله صلى الله عليه وسلم الأسوة لكل من تبنى ولداً؛ ليزول أثر التبني بالقول واللسان، ويبقى الولد هو ولد الصلب وما سوى ذلك فباطل.

    أما أبوة الاحترام فلا كلام عليها هنا؛ لأننا ذكرنا أن ابن عباس وزيد بن ثابت قرأا وتليا الآية الكريمة: وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم ، فهذه الأبوة أبوة احترام وتعظيم من قبل المسلمين، وأبوة علو ورحمة وعناية ورعاية من قبل رسول الله عليه الصلاة والسلام للمؤمنين، لا الأبوة التي هي للولد من الصلب.

    كذلك أمومة أمهات المؤمنين للمسلمين ليست كأمومة الأم من الرحم، ولكنها أمومة احترام تقدير، الأمومة التي بها يحرم زواجهن بعد رسول الله عليه الصلاة والسلام من الرجال، ومع ذلك حرم الله جل جلاله على المؤمنين رؤيتهن إلا للمحارم المباشرين، بل وحرم عليهن أن يتكلمن وهن من وراء حجاب بلين وتكسر في الصوت كما ذكرنا.

    والذي نفاه الله هنا هي الأبوة الحقيقية من النبي عليه الصلاة والسلام لـزيد ، وترك أثرها ومردودها، وذلك بأن يتزوج النبي صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش بعد طلاق زيد لها، فقال سبحانه: وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ [الأحزاب:37]، أنعم الله عليه بالإسلام، وأنعمت عليه بالحرية وبالمحبة وبالدلال: أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ [الأحزاب:37]، تخفي الزواج بها بعد طلاقه، والله سيبدي ذلك ويظهره: وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ [الأحزاب:37]، تخاف الناس وتستحي من الناس، والله أحق أن تستحيي منه وأن تخافه وتخشاه وهو الآمر لك.

    قالت عائشة : (لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مخفياً شيئاً من القرآن لأخفى هذه الآية)، فالله عاتب نبيه وأنبه بأنك تخشى الناس في إعلان أنك ستتزوج مطلقة زيد الذي زعمت أنه ابنك يوماً وليس كذلك، والله مظهر ذلك ومبديه، وأنت تخشى عشيرتك وقومك وتخاف أعداءك المنافقين أن يقولوا عنك: تزوجت امرأة ولدك، ورغبت في الزواج بامرأة ولدك، هذه الخشية لا محل لها، كان يجب أن تخشى الله الذي أمرك بفعل ذلك، كان يجب أن تخاف الله وتستحيي منه، هذه كانت صورة نازلة وإلا فالنبي عليه الصلاة والسلام كما أخبر عن نفسه قال: (إني لأخشاكم إلى الله، وأكثركم خوفاً منه) ، ولكن هذا من باب العتاب والعناية به صلى الله عليه وسلم.

    جاءني مرة رجل يطرق بابي وأنا في الساعة الثانية ليلاً وهو يبكي والقرآن بيده ويقول لي عن مثل هذه الآية وعن أمثالها: لقد أكثر الله على نبينا، فقلت له: اسكت يا فضولي، اتق الله في دينك، ألا تقولون في أمثالكم الشامية الدارجة: (ضرب الحبيب زبيب) أي: أن الحبيب مهما ضرب حبيبه بحجر فلن يكون ذلك الحجر إلا زبيباً، وهكذا عتاب الله جل جلاله لحبيبه محمد صلى الله عليه وسلم، فليس لأحد أن يدخل بينه وبين ربه، يعاتبه كما شاء، ويلومه كما شاء، وهو أحب الخلق إليه، وهو خاتم الأنبياء عنده، وهو سيد البشر، وكان فضل الله عليك عظيماً.

    كما خاطبه ربه جل جلاله: وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ [الأحزاب:37]، والنتيجة: فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا [الأحزاب:37]، فلما قضى زيد منها حاجته ورغبته من النكاح طلقها ورغب عنها، حينها زوجناكها، لماذا؟ لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا [الأحزاب:37].

    أي: زوجناك بها؛ لكي لا يكون بعد زواجك بها بعد اليوم حرج وإثم وسبب يمنع المتبني أن يتزوج مطلقة المتبنى الذي ليس ابناً من صلبه ولا ابناً من رحم زوجته، وليس إلا شيئاً كان في الجاهلية قبل النبوة والإسلام، وفعله عليه الصلاة والسلام حسب عوائد عشيرته وعوائد قومه، ولم يكن بعد نبياً ولا رسولاً، ولم يكن هناك أمر، ولكن العادة مكنته منه، فعندما أمر بالتزوج من زينب خاف من أعدائه أن يقولوا عنه: بلغ من رغبته في الزواج أن تزوج زوجة ولده.

    فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا ، حاجة ورغبة، (زوجناكها) يقال: زوجتك فلانة، ولا يقال: زوجت فلانة فلاناً، هذه هي اللغة العربية الفصحى، وإن كان في لغة غير القرآن وليس من الفصحى ولا من البلاغة فيما قاله القرطبي وأنكره غيره، كما يقال: زوجت زيداً زينب، ولا تقول: زوجت زينب زيداً.

    فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ [الأحزاب:37]، أدعياء: جمع دعي، أي: المدعى أنه ابن وليس بابن، المدعى أنه ابن محمد وليس ابن محمد وإنما هو ابن حارثة : فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا [الأحزاب:37]، أي: إذا طلقوهن بعد أن يقضوا منهن رغبتهم وحاجتهم.

    قال تعالى: وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا [الأحزاب:37]، كان هذا أمر الله ولا بد من أمر الله أن يفعل وأن ينفذ ويكون إما عن رضاً من المؤمن وإما عن إكراه، مهما حاول أن يخرج من ذلك لا بد منه إذا أراد الله بهذا العبد خيراً؛ لكي لا يخرج عن أمر الله فيكون عاصياً لله وعاصياً لرسوله وضالاً ضلالاً مبيناً.

    هذا المعنى في الآية واضح وضوح الشمس لا يحتاج إلى مزيد.

    إبطال الروايات الإسرائيلية في معنى قوله تعالى: (وتخفي في نفسك ما الله مبديه...)

    هناك خزعبلات وأقاويل ما أنزل الله بها من سلطان، هي إسرائيليات رويت عن اليهود ، والقصد منها التعرض لمقام النبوة وشتم النبي عليه الصلاة والسلام، كعادتهم مع أنبيائهم عندما حرفوا التوراة وحرفوا الإنجيل فملئوهما شتائم وقذفاً في رسلهم، بما لا يفعله المؤمن منا أبداً؛ لأن الأنبياء عندنا مقدسون محترمون، ومن يسب نبياً فهو كمن سب جميع الأنبياء، وجزاؤه القتل، وقد يوصله ذلك إلى الكفر والردة.

    وذكر ذلك في غير ما تفسير على عادة الكثيرين من المفسرين، ولكن العالم المفسر المربي يجب أن يختار مما يرويه من الكتب وما يهمله، لقد قال عليه الصلاة والسلام: (ناقل الكذب أحد الكاذبين) ، وقال عليه الصلاة والسلام: (كفى بالمرء إثماً أن يحدث بكل ما سمع).

    فكثيراً ما نسمع ضلالات وقذفاً في صالحين، كما حدث ممن قذف عائشة أكرمها الله وبرأها من فوق سبع سماوات فجلدوا حد القذف، وهؤلاء قالوا عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، ولولا أني أعلم أن هذا ذكر في الكثير من التفاسير لما ذكرته، ولعل بعضكم سمعه أو اطلع عليه فكان لا بد هنا من نفيه النفي القاطع؛ قالوا: طرق النبي عليه الصلاة والسلام باب زيد ، وإذا به يرى زوجه زينب فكبرت في صدره، وقال: سبحان الله مقلب القلوب.

    وزعموا أن زينب سمعت ذلك وشعرت بأنها ملأت قلب النبي عليه الصلاة والسلام، وجاء زيد فبلغته، وإذا بـزيد يصرف النظر عنها ويأتي إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام ويقول: أريد فراقها، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: (أمسك عليك زوجك واتق الله) ، وكان بعد ذلك أن طلقها زيد وتزوجها النبي صلى الله عليه وسلم.

    وهذا كذب يكذبه سياق الآية ويكذبه الواقع النبوي؛ لأنه لو أراد نبي الله عليه الصلاة والسلام أن يتزوجها لتزوجها من قبل، فهي ابنة عمته وكانت ترغب فيه، وهي عندما طلبها لمولاه امتنعت كما امتنع أهلها، فما الحاجة بأن يتزوجها زيد ليطلقها بعد ذلك ويتزوجها هو عليه الصلاة والسلام؟! كان يعرفها قبل أن يعرفها زيد أو أن يسمع بها.

    وقول الله تعالى: وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ [الأحزاب:37]، ما الذي أبداه الله؟ أبدى الزواج بها، فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا [الأحزاب:37]، هل زوجناكها لحبك ولغرامك ولرؤيتك لها؟ لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا [الأحزاب:37]، أي: السبب في ذلك لكي يزول هذا الحكم الباطل، وهذه البنوة الباطلة، وهذا الأثر الذي لا يكفي فيه القول، بل لا بد من العمل والتمثيل، وكان لا بد أن يكون هذا من النبي الأسوة الأعظم عليه الصلاة والسلام؛ ليأتسي به أتباعه والمؤمنون من أنصاره والمهاجرين.

    فقوله: ما الله مبديه ، الذي أبداه الله هو الزواج بها ولم يبد سوى ذلك.

    وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ [الأحزاب:37]، ما الذي خشي واستحيا منه؟ هو الزواج بها؛ لا أنه رآها ولا أنها عظمت في عينه ولا أنه كذا ... وسياق الآية من البداية إلى النهاية هذا معناه، وهو الذي يتناسب مع المقام النبوي من العصمة النبوية وجلالة رسول الله عليه الصلاة والسلام وتقواه.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755896921