إسلام ويب

تفسير سورة غافر [5-7]للشيخ : المنتصر الكتاني

  •  التفريغ النصي الكامل
  • يحذر الله تعالى المشركين من أن يصيبهم ما أصاب الأمم السابقة التي كذبت رسلها وعصتهم، فكان عقابها الهلاك والدمار، فهذه العاقبة ستكون لكل من عمل عملهم وفعل فعلهم، فليس بين الله تعالى وبين أحد من خلقه نسب حتى يعامله معاملة خاصة.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (كذبت قبلهم قوم نوح والأحزاب من بعدهم...)

    قال تعالى: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ [غافر:5].

    يقول الله جل جلاله معزياً للنبي عليه الصلاة والسلام ومسلياً ومصبراً: يا محمد! لا تبتئس ولا تحزن لكفر قومك بك، ولا تحزن من شرك هؤلاء من قومك ومن غيرهم من كفار المشرق والمغرب، ممن أرسلت إليهم، وكلفت بتبليغهم، فمنهم من كذبوك، ومنهم من لم يؤمنوا بك، فقد سبق أن كان ذلك منذ أول الرسل نوح عليه السلام.

    فآدم كان نبياً، ثم أرسل بعد ذلك إلى أولاده، وأولاده ابتدأوا بولدين، وانتهوا بمجموعة، وأما نوح لما أرسل فقد كان القوم قد تكاثروا، وزعموا أنه مضى من أيام نوح إلى آدم ألف عام، وهذا كافٍ لأن يصبح الناس عشرات الآلاف، فأرسل إليهم نوح عليه السلام فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعوهم إلى عبادة الله الواحد، وكانوا قد أشركوا بالله، وأخذوا يعبدون أوثاناً وأصناماً، يعكفون عليها صباحاً ومساءً، وطوال هذه المدة ما آمن به إلا قليل، ثم أخبره الله وقال: إنَّه لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ [هود:36]، ولم يؤمن به أكثر من سبعين شخصاً، والكثير من العلماء قالوا: إنه لم يؤمن به إلا اثنا عشر رجلاً وامرأة فقط، بل حتى بعض أهله كفروا به كولده، فالله يخبر نبيه صلى الله عليه وسلم بأنه إن كُذِّب فقد كذبت أمم من قبله، فكذب نوح في قومه، ثم كذبت الأحزاب من بعده، والأحزاب هي الفئات والشعوب والأمم، كقوم عاد وثمود، وقوم صالح، وقوم لوط، وقوم موسى وهارون، وأقوام إبراهيم إلى عيسى، فالنبي يعزى صلى الله عليه وسلم من قبل ربه الكريم بأنك إن كُذبْت فقد كُذِبَت أمم من قبلك، فعوقب الذين كذبوا على تكذيبهم، ولقوا عذاب الله، واستحقوا العذاب الأليم الخالد في جهنم؛ جزاء شركهم وكفرهم بالله.

    كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ [غافر:5] أي: قبل قوم النبي صلى الله عليه وسلم، وذكرت كذبت بالتأنيث لاختلاف اللفظ.

    والله يقول لنبيه في آية أخرى: فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا [الكهف:6] أي: لعلك مهلكها على أنهم لم يؤمنوا، فلا تفعل ذلك، فإن تلك هي سنة الأقوام والشعوب قبلك، ولكن النهاية أن النصر حليفك كما نصر الأنبياء قبلك، وعقوبة أولئك كما عوقبت الملل والشعوب قبلك، فالله ناصركم، والعاقبة للمتقين.

    وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ [غافر:5] الهم: شبه العزم، وقد يصل إلى حد العزم، وهموا أي: حاولت كل أمة أن تقتل نبيها، وقد فعل بعض بني إسرائيل ذلك، وقد حاولوا ذلك بنبينا عليه الصلاة والسلام، فقد حاول قومه من قريش وقتله، وقد تآمروا عليه في دار الندوة، ومكانها كان جوار الصفا والمروة، وأخذوا يتآمرون عليه ليقتلوه، واتفقوا على القتل، وأن يقتله شباب من قبائل مختلفة؛ ليهدر دمه ويتوزع في القبائل، وبنو هاشم أقل من أن يعلنوا القبض على جميع القبائل، ولكن الله نصره عليهم، وخرج من بينهم وذهب مهاجراً إلى الله ورسوله إلى المدينة المنورة، وفي المدينة همت اليهود أن ترمي عليه يوماً رحى، وذهب وصعد السطح من حاول أن يرميها على رأسه، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم انتبه أو نُبه من قبل جبريل، فعاد إلى المدينة وقد كان خارجها، وسممته يهودية اسمها زينب وسألت: أي نوع من اللحم يعجب محمداً؟ فقالوا لها: الذارع، فأخذت ذراع ضأن وسممته، فأكل منه لقمة، وأكل من كان معه لقمتين فمات شخصان من توهم، والنبي لفظ اللقمة وقال: إن هذا اللحم يحدثني بأنه مسموم، وكان هذا عام خيبر قبل موته عليه الصلاة والسلام بثلاث سنوات، وكان يقول: (لا تزال أكلة خيبر تعاودني حتى قطعت نياط قلبي)، بمعنى أن السم بقي في دم النبي صلى الله عليه وسلم وفي عروقه يكبر ويكبر مضعفاً له، وبذلك وصفت عائشة النبي صلى الله عليه وسلم في آخر آيامه أنه كان كثير الأحزان، كثير الأمراض.

    وسئلت مرة: يا أم المؤمنين! قلنا: خطيبة تعلمت من بيت النبوة وهي أم المؤمنين، قلنا: نسابة، فإنها بنت أبي بكر ، وكان أبو بكر نسابة العرب، فعنه تعلمت، وقلنا: عالمة، فلِمَ العجب؟ فقد نشأت وتربت في بيت النبوة، حيث ذكْر الله والحكمة، ولكن الطب من أين لك؟ فقد كانت عائشة على درجة من الطب حتى وصفت بالطبيبة، فقالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم دائم الأمراض، فكان يأتيه الأطباء ويصفون الدواء له، وكنت أشرف على تمريضه وعلى علاجه من هناك تعلمت الأمراض وتعلمت أدويتها، تعلمت الأدواء والأدوية، وكان ذلك إثر هذه الأكلة، فالنبي لم يكن بدعاً من الرسل قبله.

    وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ [غافر:5] أي: ليقتلوه، وليأخذوا نفسه وروحه، وقد فعل هذا حتى بنبينا عليه الصلاة والسلام.

    قال تعالى: وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ [غافر:5] أي: ليذهبوا ويبطلوا به الحق، فكانوا يجادلون في الغث من القول، وبالكلام الذي لا يسمن ولا يغني من جوع، والذي يتضاحك منه الأطفال.

    (وجادلوا بالباطل) أي: أدخلوا الباطل في الجدال، فحصلوا القول الذي لا يعتمد عليه، وجعلوه أداة للجدال وللسؤال.

    (ليدحظوا) من الدحض وهو الزوال، أي: يضيعوا به الحق، وهيهات هيهات فعلى الحق نور لن يزول منه قط، كما فعل نبينا لما دخل مكة فاتحاً، وجاء إلى الأصنام إليها فأخذت تتهاوى وتسقط إلى الأرض، وهو يقول: وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا [الإسراء:81]، فالباطل في طبيعته زهوق ضائع؛ لأنه لا يقبله عقل عاقل، ولا فكر مفكر، ولا اعتبار معتبر، فهو يتهاوى في نفسه، فحتى الأطفال وعجائز النساء الذين لم يدرسوا ولم يتدربوا على الجدال لا يقبلون الباطل بحال قط.

    فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ [غافر:5] أي: أهلكهم ودمرهم وأغرق قوم نوح، ثم عاقب هذه الأمم بين صعق وبلاء وزلازل من الأرض، وصواعق من السماء، وقلبت أرض أهل السوء عاليها سافلها، وهكذا ما من أمة من الأمم المشركة إلا وعاقبها وبالغ في عقوبتها، وأما أمة محمد صلى الله عليه وسلم -تكرمة من الله لمحمد صلى الله عليه وسلم- فإنه لم يفعل بها ما فعله بالأمم من قبلهم، ولكنه عاقبهم بأن جعل بأسهم بينهم شديد، ومثال ذلك: أن يقوم شخص من بينهم ويستسلم لليهود، فيتهود في نفسه ثم يلتفت إلى قومه فيسبهم ويلعنهم ويشكك بهم، فيكون هذا العقاب هو الذي جعله الله عقوبة للمؤمنين عندما يخرجون عن أمر الله، يسلط الله بعضهم على بعض.

    وأما ما أصاب الأمم السابقة من غرق تام، ومن صعق تام، ومن جعل الأرض عاليها سافلها، فإن هذا لن يصيب أمة محمد؛ رحمة من الله، وتكرمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فالله يمهل ولا يهمل، ويفعل هذا لعل المجرمين يتوبون، ولعلهم يتقون.

    وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ [غافر:5].

    يسأل الله نبيه وكل من تلا هذه الآية سؤال تقرير: كيف رأيت عقابي لهؤلاء؟ والجواب بالتصريح: كان عقاباً بالغاً مدمراً، وكان عقاباً مميتاً، وكان عبرة للمعتبر، وكان درساً للدارسين، وتاريخاً للمؤرخين.

    وقد مضت على هذه الشعوب قرون وآلاف من السنين، ولا يزالون يذكرون بذنوبهم وآثامهم وعقوباتهم؛ ليكونوا عبرة للمعتبر، وليأخذ منهم المؤمن ومن أدرك رسالة محمد صلى الله عليه وسلم العبرة والدرس، حتى إذا حاول أحد من أمة محمد أن يشرك ويكفر ويخالف ويعصي تذكر -إن كان من أهل الذكر وممن سبقت له العناية- أن من حاول فعل ذلك وأمثاله عوقب بالدمار، وعوقب بالغرق فلا يفعل مثل ذلك، وهذه حكمة هذه القصص.

    فعندما يقصها الله علينا في القرآن ليس المراد منها أن يسلينا بالقصص والحكايات، ولم ينزل القرآن لمثل هذا.

    ولذلك لم يسمِّ ربنا جل جلاله، ولا نبينا صلى الله عليه وسلم بعض الشخصيات أو تحديد تواريخ القصص؛ لأنه ليس المقصود من ذلك القصة، ولكن المقصود الحكمة العبرة من القصة، والدرس من كفر هؤلاء وذكرهم.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وكذلك حقت كلمة ربك على الذين كفروا أنهم أصحاب النار)

    قال تعالى: وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ [غافر:6].

    (حقت) أي: وجبت، وحقت من الحق، ومغزى ذكر الحكاية: أن من فعل مثل قوم نوح، أو مثل عمل الأحزاب من بعدهم، فكفر كفرهم، وأشرك شركهم، وعصى بنيه كعصيانهم، فكذلك نفعل به.

    وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ [غافر:6].

    أي: كلمة العذاب، والكلمة التي يقولها عندما يريد شيئاً هي: كُنْ فَيَكُونُ [البقرة:117].

    وهكذا كان في المعاقبين من المشركين من الأمم الماضية، التي كذبت رسولها، والتي عبدت مع الله غيره، وأشركت به أصناماً وأوثانا.

    وكذلك الذين كفروا بسنة محمد، وكل الخلق بعد ظهور النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الديار المقدسة كلهم أمة محمدية، فمن آمن به من الأمم سميت أمة مستجيبة، ومن كفر سميت أمة متمردة عاصية، وأما رسالة موسى فقد انتهت، وكذلك رسالة عيسى، وكلاهما قد مسخ ونسخ، وانتقل اليهود من ديانة التوحيد إلى عبادة العزير، واعتقدوا أنهم أبناء الله.

    وانتقلت ديانة النصارى من عبادة الله الواحد إلى زعمهم بأن عيسى هو الله، وأنه ابن الله، وأنه ثالث ثلاثة، وأنهم جميعاً أبناء الله، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.

    فقد نسخت هذه الديانات في حد ذاتها، ثم بعد ذلك جاء الإسلام ونسخها جميعها، فلذلك يقول نبينا عليه الصلاة والسلام: (والله! لو كان موسى حياً لما وسعه إلا اتباعي)، فلا بد على كل أحد أن يؤمن بنبينا، فمن لم يؤمن به كان كافراً، و(لو) حرف شرط، ولا يلزم من الشرط الوقوع، وعيسى سينزل في آخر الزمان، وسينزل على دين محمد، ولذلك عد من الأصحاب، وترجم في كتب الأصحاب أنه من أصحاب النبي عليه الصلاة السلام.

    ومن هنا قال ربنا جل جلاله: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ [آل عمران:85]، وقال تعالى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ [آل عمران:19].

    فلا دين كل ما فيه حق إلا دين الإسلام، فمن جاء بغيره فقد جاء بأباطيل وأكاذيب وضلالات ما أنزل الله بها من سلطان، ولن يقبل الله سوى الإسلام، فالإسلام ليس كما يحاول أن يفهمه كل إنسان، لقد قال نبينا عليه الصلاة والسلام: (اختلفت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، واختلفت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستختلف أمتي على ثلاث وسبعين فرقه، كلها في النار إلا واحدة، قيل: يا رسول الله! ومن هي هذه الواحدة؟ قال: ما أنا عليه وأصحابي) أي: السابقون الأولون كما وصفهم الله: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ [التوبة:100].

    فحتى الصحابة ليسوا جميعهم، بل السابقون الأول من المهاجرين الذين هجروا دار الكفر إلى دار الإسلام، والذين سبقوا إلى الإسلام وتحملوا في سبيله الشدائد والعذاب، ومن الأنصار الذين أسلموا في الأيام الأولى والإسلام لا يزال ضعيفاً ومضطهداً، فهؤلاء هم الصحابة الذين أمرنا بإتباعهم.

    وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ [غافر:6]، أي: بأنهم أصحاب النار، وهكذا من جاء قبل هؤلاء من الأقوام السابقين، من أقوام نوح وهود وصالح ولوط، وأقوام إبراهيم، وأقوام أنبياء بني إسرائيل من الذين لم يؤمنوا بأنبيائهم، فضلوا وأضلوا.

    كذلك أي فرقة من أمة محمد صلى الله عليه وسلم كفرت ولم تؤمن به، فهي من أصحاب النار، ومآلها جهنم مع أولئك، ونهايتها النار مع أولئك.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم...)

    قال تعالى: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ [غافر:7].

    يقول ربنا جل جلاله: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ [غافر:7] الملائكة عباد الله المكرَمين الذين يطيعونه ويمتثلون أمره، ويكونون عند أمره ونهيه جل جلاله، والملائكة الذين يحملون العرش هم ثمانية، فالذين من حول العرش ومن يحمل العرش على عواتقهم هم ثمانية، فهؤلاء ليسوا كالكفار، أي: اقتدوا بهؤلاء: فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ [الأنعام:90].

    يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ [غافر:7] أي: يعظمون ويجلون ربهم، ويسبحون بحمده، وينزهونه ويعظمونه ويقدسونه، يقولون: سبحان ذي العزة والجبروت، سبحان ذي الملك والملكوت، سبحان الحي الذي لا يموت، سبوح قدوس رب الملائكة والروح، ويقولون هذا وهم يطوفون ويدورون كما نطوف بالكعبة، فهم يطوفون بعرش ربهم، ويحمله ثمانية.

    والثمانية وصفوا من الهيبة والكِبَر والعظم أن ما بين كل أذني واحد كما بين السماء والأرض.

    والثمانية وهم يحملون عرش ربهم، لا يرفعون أبصارهم عن الأرض قط؛ هيبة وجلالا وخوفاً من الله وجلاله، واسمهم الكروبيون وتجدهم بين طائفتين: فالذين يحملون العرش على رءوسهم يضعون أيديهم على عواتقهم، والذين يطوفون حول العرش يجعلون أيمانهم على شمائلهم، كما نفعل في الصلاة.

    وهم يسبحون ربهم بهذه الصيغ السابقة وغيرها من الصيغ، يقولون: لا إله إلا الله، ويقولون: سبوح قدوس رب الملائكة والروح، وغيرها من أنواع الذكر لله، ما نعلم وما لا نعلمه، وكله تقديس، وكله تعظيم، وكله إكبار وإجلال لله جل جلاله.

    والعرش له كرسي، فقد قال نبينا عليه الصلاة السلام في هذا الكرسي أنه أمام العرش كحلقة ملقاة في الأرض، والدنيا بالنسبة للكرسي هي هذا الخاتم فكبر الكرسي أمام كبر الكون ككبر الأرض على الخاتم، فالعرش أعظم من الكرسي الذي الكون بالنسبة إليه كخاتم ألقي في فلاة.

    والكرسي هو خلق من خلق الله، وما بين كل سماء وسماء مسافة خمسمائة عام، ما بين الأرض والسماء الدنيا مسافة خمسمائة عام، فلو ذهب الإنسان طائراً فلا يصل إلا بعد خمسمائة عام، والعام هل هو من أعوام الدنيا أو غيره، الله أعلم بذلك، فعام الدنيا اثنا عشر شهراً، والشهر فيه ثلاثون يوماً، واليوم فيها أربع وعشرون ساعة، ويوم الآخرة ألف سنة مما تعدون.

    فلا ندري هل الخمسمائة سنة من سني أهل الأرض، أم من أعوام الآخرة أو أعظم من ذلك.

    وما بين كل سماء وسماء كما بين الأرض والسماء، وفوق السماء السابعة العرش، علو من السماء الأولى إلى السماء السابعة، وحين أسري بنبينا صلى الله عليه وسلم ووصل إلى سدرة المنتهى وقف جبريل، وقال: أنا لا أزيد أكثر من ذلك، فزاد نبينا عليه الصلاة السلام حيث لم يزغ: مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى [النجم:17].

    وقد تخطى ذلك بكل ثبات وصمود، فموسى وهو من الخمسة أولي العزم من الرسل عندما طلب رؤية ربه قال الله له: وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا [الأعراف:143].

    ما استطاع موسى أن يصبر لتجلي الله للجبل، ولكن النبي عليه الصلاة والسلام رأى من آيات ربه ما رأى، ومع ذلك لم يزغ بصره، ولم تضطرب نفسه أو أعضاؤه، وبقي ثابتاً.

    وجبريل قال: أنا لا استطيع أن أزيد أكثر من ذلك، فوصل النبي إلى حيث سمع صريف الأقلام في اللوح المحفوظ، حتى أمره ربه مكالمة بلا ملك، فأمره بالصلاة خمسين صلاة في اليوم والليلة، إلى آخر القصة، حيث رجع إلى السماء السادسة ولقي موسى فقال له: ارجع إلى ربك؛ فقد عاشرت الناس قبلك فقومك لا يستطيعون، وبقي يذهب ويصعد ويمضي إلى أن وقفت إلى خمس صلوات، فقال: (هي خمس في العدد وهي خمسون في الآخرة، لا يبدل القول لدي) فهي خمس في العمل، وهي خمسون من حيث الأجر والثواب؛ لأن الحسنة بعشر أمثالها.

    وقد سبق أن قلت في أكثر من مناسبة: اللوح لوحان: لوح من قبل الملائكة يتلقون منه الأمر والنهي، ولوح من قبل الله، وهذا الذي من قبل الملائكة يقول الله عنه: يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ [الرعد:39]، ويقول عن اللوح الثاني: وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ [الرعد:39].

    ويقول عن أم الكتاب: مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ [ق:29]، وهذا الأخير لا يختلف زيادة ولا نقصاناً، واللوح الذي من قبل الملائكة فيه الزيادة والنقصان، ومن هذا ما فيه من الأحاديث مثل: (الصدقة تدفع غضب الرب)، وقوله: (صلة الأرحام تطيل الأعمار)، (والصدقة تطيل العمر والدعاء لأخيك في ظهر الغيب مستجاب، ودعاء الوالد لولده في ظهر الغيب كذلك)، هذه الزيادة في العمر أو النقص تكون في اللوح الذي من قبل الملائكة، وأما الذي من قبل الله الذي يقول عنه: مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ [ق:29] فلا يزيد ولا ينقص.

    قال تعالى: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ [غافر:7] فهم يطوفون ويدورون بالعرش، هؤلاء جميعهم: يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ [غافر:7].

    قوله: وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا [غافر:7].

    قال العلماء المفسرون: أنصح خلق الله للإنسان المؤمن الملائكة، وأكثرهم غشاً للإنسان الشياطين، فالشيطان عدو أبينا الأول وأمنا الأولى؛ آدم وحواء، وهو عدونا وعدو ذرياتنا من بعدنا، والملائكة أنصح الخلق لنا، فهم يستغفرون الله لنا، وبيننا ويبنهم ملايين من الأميال.

    فهم يحملون عرش ربهم، ويطوفون بعرشه، ويستغفرون للذين آمنوا قائلين: رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا [غافر:7].

    وهذا النص يقال له نص تفسير، والمعنى: ربنا وسع علمك كل شيء، ووسعت رحمتك كل شيء، وسبقت رحمته غضبه جل جلاله، العالم بكل شيء ما ظهر وما بطن، وما أعلن وما أخفي، فمع حلمه وسعة رحمته كل شيء: المؤمن والكافر، للإنسان وللحيوان والهوام وكل شيء، ومن رحمته بالكافر أنه أمد له في حياته، ورزقه وأعطاه؛ لعله يوماً يتذكر ويقول: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين.

    رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ [غافر:7].

    إذاً فالمرجع مبني على التوبة، فهم يدعون للمؤمنين الذين تابوا من الشرك، ولا مغفرة من الشرك إلا بالرجوع عنه.

    لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ [غافر:7] أي: واتبعوا دينك الذي أرسلت به رسلك وأنبياءك، أي: المؤمنين الموحدين.

    وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ [غافر:7] أي: عذاب النار، وعذاب جهنم، وعذاب الحريق، فأي دعوة أعظم من هذه: أن تُطلب المغفرة من الله، وأن يصلنا الله ويحفظنا، ويجعل لنا وقاية بيننا وبين عذاب النار.

    واسترسل الملائكة في الدعاء فقالوا: رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُم وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [غافر:8].

    يدعون لنا فيقولون: (ربنا أدخلهم جنات عدن التي وعدتهم) أدخل عبادك الموحدين التائبين المستغفرين أدخلهم الجنة التي وعدتهم بدخولها وهم في دار الدنيا عندما آمنوا بك وأسلموا.

    رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ [غافر:8] فهي جنات وليس جنة واحدة؛ لأن الجنة مراتب ودرجات ومنازل.

    رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ [غافر:8] أي: جنات إقامة، فعدن بمعنى إقامة، أي: إقامة دائمة خالدة باقين فيها أبداً سرمداً.

    الَّتِي وَعَدْتَهُم [غافر:8] فقد وعدتهم بها، وأنت لا تخلف الميعاد.

    وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ [غافر:8] أي: من قال: لا إله إلا الله، ومن آمن وخرج عن الكفر، ومن صلح بعد شرك وكفر من آبائهم ومن أزواجهم.

    و(من): اسم موصل يطلق على المذكر والمؤنث، وعلى المفرد والمثنى والجمع.

    وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ [غافر:8] أي: من آباء المؤمنين التائبين المستغفرين، ومن صلح من أزواجهم، ومن صلح من ذرياتهم وأبنائهم كذلك.

    وقد ذكر النبي عليه الصلاة والسلام: أن المؤمنين في الدار الآخرة قد تتفاوت درجاتهم في الجنة، فيفرق بين الزوج وزوجته والأب والولد، وبين الابن وأبيه في درجات من الجنة كما بين الأرض والسماء، فيبحث الولد عن والدة فيجده أقل منه بدرجة، فيقول: يا رب! أكرمتني بالجنة وبالمغفرة، فلتكن زوجتي معي -وهي في الجنة كذلك ولكنها في درجة أدنى-، وكذلك أريد ولدي معي، فيقال له: لم يفعلوا فعلك، ولم يعبدوا عبادتك، فيقول: يا رب! إني عبدتك ووحدتك لتغفر لي، وتلحق بي أولادي، وتلحق بي أهلي، فيستجيب الله له دعاءه، فيرفع الولد للوالد، والزوجة للزوج، والوالد للولد، والحفيد للجد وهكذا دواليك.

    وقالوا: إن العرش هو في سمت الكعبة، فكما أن الكعبة يطوف بها المسلمون ليلاً ونهاراً، صيفاً وشتاء، ربيعاً وخريفاً، لا تكاد تفرغ لحظة من زمن، فكذلك العرش، فالملائكة الذين حوله يطوفون يسبحون ويوحدون ويعظمون ويمجدون ربهم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755957498