يخبرنا الله عن تحاور أهل النار وتجادلهم، وتحدث أهل النار الضعاف الأتباع عن حسرتهم لتقليد الكبراء والسادة أئمة الكفر، وكأن المعنى: ذكرهم يا محمد وأخبرهم وعظهم أنه سيأتي وقت -مهما طال الزمن فإن الصبح لناظره قريب- يتحاجون في النار، أي: هؤلاء الكفار يتحاجون، فيحاول أن يحتج بعضهم على بعض، وأن يجادل ويحاور بعضهم بعضاً، كما قال الله: فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ [غافر:47].
أي: يقول الأتباع: كنا تبعاً لكم أيها الكبراء، وكلمة (تبع) تدل على المفرد والمثنى والجمع، وإذا أردت الإفراد قلت: تابع، وجمع التابع أتباع، تقول: فلان تبعني، وتقول: فلان تبع لقول فلان أو لفلان، فإذا أردت الإفراد فقل: فلان تابع لفلان، وإذا أردت ذكر الجماعة دون أن يقع لك قلت: أتباع.
وقوله تعالى: فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا [غافر:47] أي: ضعاف الرأي والقدرة والمال والجاه والإدراك والفهم، فيقولون للذين استكبروا وتكبروا وتعاظموا من قادة الكفر وسادة الفجور، الذين دعاهم الأنبياء وأتباعهم فأبوا إلا عدم الإيمان بالله، فيقول لهم الضعفاء حينئذٍ: إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا [غافر:47] أي: كنا أتباعاً لكم في دار الدنيا، فاتبعناكم على الشرك، وقبلنا قولكم في الضلال.
فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ [غافر:47] أي: هل أنتم تغنون أو تتحملون عنا جزءاً من العذاب مقابل أنكم أئمة لنا في الكفر والعصيان؟
وهل تقومون عنا بنصيب من العذاب تخففون به عنا وأنتم أصحاب هذه الدعوة وكبرائها وقادتها؟
أي: قال هؤلاء المستكبرون القادة من الكافرين: إنا كل فيها، فكيف نغني عنكم؟ الكبار والصغار في النار، الأئمة فيها والأتباع، وأيضاً قد حكم الله يوم عرضنا عليه بأن الكل في جهنم وبئس المصير، أيرد حكم الله راد؟ أيحاول أحد أن يغير حكمه؟ هيهات هيهات لا سبيل إلى ذلك، ولكنهم مع ذلك لم يصبروا، واشتد عذابهم وزاد بلاءهم، فما عاد يطلب كبير من صغير ولا صغير من كبير، فأخذوا جميعهم -الكبار والصغار- يغيرون الطلب والدعوة.
فالكبراء والصغراء ذهبوا للملائكة خزنة جهنم وطلبوا منهم بأن يدعوا ربهم بتخفيف العذاب عنهم، وخزنة جهنم هم الذين يشرفون على عذاب هؤلاء كي لا يفروا منها.
وقوله تعالى: ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ [غافر:49] أي: قالوا لهؤلاء الخزنة: ادعوا الله بلسانكم أن يخفف عنا يوماً، أي: أن يعطيهم يوماً من الأيام يكون العذاب فيه خفيفاً، فلم يطمعوا في زوالة؛ لأنهم مشركون وماتوا عليه، فالذي طلبوه هو أن يخفف الله عنهم عذاب يوم من الأيام، لكن اليوم في الآخرة عظيم بالنسبة لأيام الدنيا، اليوم في الآخرة كألف سنة مما يعد من أيام الدنيا، فهم طلبوا تخفيف عذاب يوم من أيام النار.
أي: سألهم هؤلاء الخزنة من الملائكة من خزان النار وبوابيها: أنتم يا من تطلبون منا أن ندعو ربكم ليخفف عنكم، هل أُرسلتْ لكم رسل بالبينات وبالآيات الواضحات عندما كنتم في الدنيا؟ هل أتتكم بالأحكام عن الله وبالتوحيد ونبذ الشرك والوثنية؟
وقوله: أَوَ لَمْ تَكُ [غافر:50] (تك) من الأفعال الخمسة، وجزمت بـ(لم) فحذفت النون، ويصح أن تقول: أولم تكن في غير القرآن.
وقوله تعالى: قَالُوا أَوَ لَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ [غافر:50] قوله: (رسلكم) جمع رسول، وقد أرسلهم الله إلى أمم مختلفة، فمنهم من صدق بهم ومنهم من كذب.
فأكدوا أن الرسل قد جاءت بالبينات الواضحات، وبما يدل على صدقهم، ولكنهم مع ذلك غلبتهم شياطينهم ونزواتهم؛ فكفروا به، فأقروا قائلين: بلى، قالوا: فادعوا إن كان الأمر كذلك، أي: ادعوا أنتم أما نحن فلا نفعل؛ لأن الكافر لا مغفرة ولا رحمة له، وفي الآخرة لا ينتهي عذابه.
وحتى إذا دعوا فالأمر كما قال الله: وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ [الرعد:14] أي: وما دعاء الكافرين إلا في ذهاب وخسارة، فلا ينفع ولن تكون له نتيجة، وأنهم سوف يكونون مع دعائهم خاسرين، ولو دعوا هذا الدعاء وهم في دار الدنيا فقال أحدهم: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين، وآمنوا بالله ووحدوه، وكفروا بالشرك وأهله، لكان ذلك نافعهم ومفيدهم، ولكن هيهات بعد أن أنكروا البعث والنشور والدار الآخرة وأصبحوا فيها، هيهات هيهات فالوقت سيف إن لم تقطعه قطعك.
يخبرنا ربنا جل جلاله بأنه ينصر رسله والمؤمنين من أتباعهم في الدار الدنيا ويوم يقوم الأشهاد، أي: يوم يقوم الملائكة يشهدون على كل حي بالخير والشر، فهم يشهدون على الرسل بالتبليغ، ويشهدون على الكفار بالتكذيب، فقوله: وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ [غافر:51] أي: يوم القيامة يوم يقف الملائكة صفاً يشهدون على الرسل بأنهم بلغوا رسالات ربهم، ويشهدون على المؤمنين أنهم آمنوا برسالات ربهم، وعلى الكافرين أنهم كذبوا برسالات ربهم.
وقوله تعالى: إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا [غافر:51] يعد الله جل جلاله الرسل بأنه ناصرهم في الدنيا وفي الآخرة، فكيف هذا النصر في الدنيا؟ قد علمنا أن بعض الأنبياء قتلهم اليهود، فقتلوا زكريا، وقتلوا يحيى، وقتلوا غيرهما، كما ذكر الله، فحاولوا قتل عيسى، وأخرج إبراهيم من أرضه، وأخرج محمد صلى الله عليه وسلم من أرضه، وهناك شعوب مسلمة، وعلماء صالحون، ودعاة إلى الله قد قتلوا، أو شردوا أو سجنوا أو عذبوا، فكيف هذا النصر؟
الجواب عن ذلك: أن النصر إما أن يكون نصراً في الحياة ونصراً بمحق الأعداء، وإما أن يكون بالانتقام من هؤلاء الأعداء، فيكونون من قتلوا من الأنبياء والمؤمنين قد حازوا الشهادة، وذهبوا إلى أرفع الدرجات، وكذلك من عذب فلهم درجات عاليه على قدر بلائهم، ولكن هؤلاء الذين فعلوا ذلك ينتقم الله منهم بعد ذلك أشد الانتقام، فقد يكون ذلك في حياة الأنبياء والمؤمنين، وقد يكون بعدهم.
فاليهود مثلاً قتلوا أنبياء الله، وكانت النتيجة عقب قتل هؤلاء مكر الله بهم، فشتتهم وشردهم وقطعهم، وسلط عليهم بختنصر فهدم هيكلهم، وقتل منهم مئات الآلاف، واستعبد منهم كذلك مئات الآلاف، وتركهم في الأرض قطعاً مبعثرة، كما قال سبحانه: وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَمًا [الأعراف:168]، ثم سجل الله عليهم عذاباً مقته وغضبه إلى يوم القيامة، فقال: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ [الأعراف:167]، ولا يغرنك ما ترى اليوم؛ فهو تسليط للكافرين على منافقين، وتسليط للمجرمين على عصاة مخالفين، ولم يحدث هذا في العصور الماضية، ولكن عندما خرج المسلمون عن دين الله ورسوله وكتابه، وجعلوه وراءهم ظهرياً، وأخذوا يدعون إلى مذاهب يهودية تسمى تارة ماسونية، وتارة شيوعية، وتارة اشتراكية، وتارة وجودية، وتارة بهائية، وتارة قاديانية إلى أسماء ما أنزل الله بها من سلطان، فعاقبهم الله وسلط عليهم هؤلاء، فكانت عقوبة لأقوام هم إلى الكفر أقرب منهم للإيمان، بدليل ما حدث بعد ذلك، أي: أسلموا لمللهم، وخضعوا لهم، وتحالفوا وإياهم للفتك بالمسلمين الصالحين، وشتيمة المؤمنين والتواطؤ عليهم، وما تزيدهم الأيام إلا عتواً وفساداً في الأرض، ولكن هيهات، فلينتظروا عذابهم وسخط الله عليهم.
وهذا إبراهيم عندما أخرجه النمرود من أرض العراق هاجر إلى أرض الشام، ولكن النتيجة أن كشف الله كيد النمرود وقومه، وعذبهم وأهلكهم وشرد بهم، وهؤلاء كفار مكة كفار الجزيرة كيف كان حالهم مع نبينا عليه الصلاة والسلام؟ فقد أخرجوه من أرضه، وهموا بقتله، والنتيجة نصره الله نصراً عزيزاً مؤزراً، فعاد إلى مكة فاتحاً منصوراً، وكان الطرد وكان الإبعاد لهم، وقبل ذلك شردوا وقتلوا، وبعد دخوله مكة فاتحاً كانت النتيجة أنهم طردوا طرداً أبدياً، كما قال سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا [التوبة:28].
وأما اليوم بعد ذلك بألف وأربعمائة عام فلا يحرم المسافر الكافر أن يدخل مكة والمدينة! وقد قال الله عنه: نَجَسٌ [التوبة:28] والنَجَس: عين النجاسة، لم يقل: نَجِس، من المتنجس الذي يطهر بالماء، وإنما النَجَس، فهو كالماء العكرة التي تطهر بالماء، فهم عكرة عين النجاسة، مطرودين إلى يوم القيامة، إلى أن يشاء ربي.
وأيضاً: بعد ذلك المؤمنون ابتلوا، فقد أوذي آل البيت في الصدر الأول من الإسلام، وقتل مسلمون وصحابة أخيار، فقتل عمر ، وقتل عثمان ، وقتل علي ، فماذا كانت النتائج بعد ذلك؟ سلط الله على هؤلاء ولو أنهم صحابة تابعون لكن كما قال الله: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [الأنفال:25] فأصابهم من البلاء من العذاب نصرة لأولئك الخلفاء الراشدين الصالحين، عمر وعثمان وعلي .
وقل مثل ذلك عن الحسين رضي الله عنه، الذي قتل من أجل الظالمين الفاجرين أعداء الله وأعداء رسوله وآل البيت، وسلط الله عليهم من سلط، فأباح أرضهم، واستباح دماءهم، واقتلعهم من جذورهم من الأرض إلى حيث لعنة الله وغضبه، وفي العصر الأخير قتل المسلمون والعلماء والدعاة إلى الله، فماذا كانت النتيجة؟ النتيجة أن سلط الله اليهود على الجميع، فأما عذاب الله في الآخرة فهو أشد وأنكى، وهكذا قول الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
فنصرهم الله بأن قهروا وغلبوا، ووضعوا أقدامهم حيث كانت أقدام أولئك الأعداء الكافرين الجاحدين، وأكرمهم الله بالشهادة، ثم ينتقم من أولئك بعد ذلك، فيقتل منهم الآلاف، بل مئات الآلاف، حيث يضيعون ويشردون وينتهون ويدمرون، ولعذاب الله بعد ذلك في الآخرة أشد وأنكى.
وقوله تعالى: وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ [غافر:51] أي: ويوم القيامة عندما تقف الملائكة بالشهادة على الأنبياء بأنهم قد بلغوا ما أمرهم الله بتبليغه، وعلى المؤمنين أنهم آمنوا برسالات أنبيائهم، وعلى الكافرين بأنهم كذبوا أنبياءهم وأشركوا بربهم.
الظالمون هنا هم المشركون والكافرون، فيكون النصر في الدنيا، ويكون في اليوم الذي لا ينفع المشركين معذرتهم، أي: عندما يقومون للاعتذار: فيقولون نحن كنا ضعافاً، وكبراؤنا هم الذين أمرونا، ونحن لا نفكر جيداً، فيقولون هراءً لا يقبله الله منهم.
وقوله تعالى: وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ [غافر:52] أي: يلعنهم الله، ويطردهم من رحمته ومن جنته.
وقوله تعالى: وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ [غافر:52] أي: ولهم الدار السيئة، وهي جهنم وبئس المصير، سيكونون عندما يطردون من الرحمة ليس لهم إلا العذاب والنار، وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ [غافر:52].
هؤلاء الذين قاتلوا الأنبياء وكذبوهم، وقاتلوا المؤمنين، وهجموا على دورهم، فاستباحوا أعراضهم وأموالهم، وتحالفوا مع اليهود من القردة والخنازير وعبدة الطاغوت على المؤمنين والصالحين، فكان ما ذكره الله هو عاقبتهم، ونهايتهم.
وأما الرسل والمؤمنون فهم منصورون، ويكون نصرهم إما بإبقائهم وهزيمة أعدائهم، وإما بأن يموت من مات فينال الشهادة والكرامة، فيذهب إلى ربه مسرعاً بشهادته، ويبقى ختم أولئك: المحنة واللعنة والغضب، وهذا التاريخ بيننا، فالتاريخ الحديث والقديم يؤكد كل هذا، ودعنا مع تاريخنا الإسلامي وما حصل في بدايته وفي وسطه وفي عصرنا، فجميع من كفروا بالله وقاتلوا رسالات رسل الله، وقاتلوا المؤمنين الصالحين، قاتلوهم في اليمن، وفي العراق، وفي مختلف بلاد المسلمين، كانت النهاية للمجرمين اللعنة والخزي والدمار في الدنيا، ولعذاب الله في الآخرة أشد وأنكى.
وسنسمع يوم القيامة ونحن في الجنة بفضل الله وكرمه، أنهم مع فرعون وهامان ينادون يا ويلنا وبلاءنا ومصيبتنا، ويأتي الأتباع الذين ساندوهم وبايعوهم وأيدوهم ومشوا خلفهم وتعصبوا لهم -ونحن نرى هذا حيث ذهبنا- يتخاصمون مع كبرائهم تخاصم الجياد في الماء، يقول المستضعفون للكبراء كما حكاه الله عنهم: وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ [غافر:47]، فيرد عليهم الكبراء بأن الله قد حكم بين العباد، فيدعون الملائكة، فلا يجدون عندهم إلا الخزي واللعن، ويتساءل الملائكة: قَالُوا أَوَ لَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ [غافر:50]؟ فلا يستطيعون إلا الإجابة بقولهم: قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ [غافر:50]، وما قاله الله حق وواقع لا محالة، ومن تشكك في كلامه فليس بمسلم.
يذكر ربنا جل جلاله بأنه آتى موسى الذي كان يريد قتله، وهذا الذي قام مؤمن آل فرعون ينافح ويدافع عنه في كثير من المواقف، بشجاعة وقوة بالله، وأراد الظالم المتأله الكذاب فرعون أن يقتله لكن كما قال الله: فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا [غافر:45] وكان العكس وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ [غافر:45].
وقوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى [غافر:53] أي: هدى الله موسى إذ جعله نبياً ورسولاً، وأنزل عليه كتابه التوراة ليهدى به، ويهدي غيره من القبط وبني إسرائيل.
وقوله: وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ [غافر:53] أي: وأورثنا قومه من سلالته من بني إسرائيل أورثهم الكتاب الذي هو التوراة، أورثهم إياه ليعملوا بما فيه، وليتقبلوا التوحيد الذي جاء به، ويحترموا أنبياء الله ورسله، وليكونوا على غاية ما يكونون من الأدب مع الله وشعائر دينه.
أي: جعل الله الكتاب إرثاً لهم، فورثوه ليكون هدى لهم يهديهم من الظلام إلى النور.
وقوله تعالى: وَذِكْرَى لِأُولِي الأَلْبَابِ [غافر:54] أي: تذكيراً لهم بالله وبأحكامه، وبعذابه ورحمته، وهو كله لذوي الألباب، أي: لذوي العقول المؤمنة السليمة.
وماذا كان من بني إسرائيل بعد أن أورثهم الله الكتاب؟ كان منهم أن قتلوا الأنبياء بعد موسى، فقتلوا زكريا ويحيى وشعياً، وسفكوا الدماء، وحرفوا كتاب الله وبدلوه، وشتموا الأنبياء وقذفوهم بالكبائر، وبإتيان المحارم، وتجرءوا على مقام الله فقالوا عنه تزييفاً ما يقوله اليهودي عن ربه ونبيه، فكان الجزاء أن سلط الله عليهم الأمم في الأرض كلها، فشتتوهم وشردوهم وقتلوهم وعذبوهم، واستباحوا أولادهم ونساءهم، واستباحوا كل ما لا يستباح للمؤمن المعصوم الدم.
وإذا رأيتم ما حدث اليوم فهو من باب قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا [مريم:83]، وما ظالم إلا وسلط عليه أظلم، ثم يقذف بالكل إلى النار، ومع ذلك فليس هناك مستقبل لهم، إنما هو زمن قصير، وسحابة صيف سرعان ما تنقشع، وعلامة الله معنا في القضاء عليهم وإنهائهم: أن يدخلوا المسجد الأقصى بعد أن دخلوه أيام سليمان عندما كانوا مؤمنين بأنبيائهم، وهم قد دخلوا، فانتظروا بعد ذلك تدميراً وبواراً، وإن رأيتم من استعان بهم فهو على دينهم، فقد خلع ربقة الإسلام عن عنقه، وتهود يهوديتهم، وعندما سيأتي البلاء سيعم الكل، قال الله تعالى: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ [المائدة:51]، فهذا حكم الله الذي حكم به عباده.
فمن جعل ولاءه لصليبي أو لنصراني فهو مثله، ومن جعل ولاءه ليهودي فهو مثله، فكيف بمن جعل ولاءه صباحه ومساءه نهاره وليله بين يهود ونصارى، وأبعد المسلمين والقرآن والدعاة إلى الله، ولكن وهيهات هيهات إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [غافر:51] أولاً ثم وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ [غافر:51] .
فبنو إسرائيل أورثهم الله التوراة التي أنزلها على موسى، ومن غريب أمرهم أنه في الوقت الذي أنقذهم الله بموسى، وأغرق فرعون وقومه، وخرجوا من الغرق والماء بمعجزة، فقد شق البحر فصار كل شق كالجبل العظيم، وتجاوزوه بعد أن ذهب موسى لميعاد ربه، فجاء ووجدهم قد كفروا وارتدوا وعبدوا العجل، وقالوا لبعضهم: هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ [طه:88] أي: هذا إله موسى الذي ذهب لميعاد ربه، فتركه هنا وذهب لإله غيره، فعاقبهم الله، وهكذا دواليك كانوا مع أنبيائهم، فما بالك بمن بعدهم، فشتتوا وشردوا وكأن لم يكونوا.
وإذا حدث ما ترونه اليوم فذلك لأن المسلمين فعلوا فعلهم وعصوا عصيانهم، وخالفوا مخالفتهم، وكما قال من قال: ردة ولا أبا بكر لها، فيعيش الناس اليوم في رحلة جديدة كرحلة من يرتد يوم أن توفي المصطفى عليه الصلاة والسلام، ولكن في الصدر الأول وجدوا أبا بكر فردعهم وأجبرهم على العودة بين قتيل وأسير وجريح، واليوم ما وجدوا أبا بكر الثاني، ولكنه آت لا محالة، ذاك وعد الله في كتابه، وذاك وعد رسوله صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى.
عاد الله إلى خطاب نبيه صلى الله عليه وسلم، والسورة مكية، وقد نزلت عليه والمؤمنون مضطهدون في مكة ومعذبون: بين قتيل، وبين مضطهد لا أمان على حياته وإيمانه ورزقه، والله قد ابتلى الأنبياء وأتباعهم قبل نبينا بأقوامهم، وما كانت النتيجة؟ أن نصر الله أولياءه، وعاقب وسحق أعداءه.
وقوله تعالى: (فاصبر) يدعو الله نبيه صلى الله عليه وسلم إلى الصبر، فصبر ما شاء الله له أن يصبر، ثم هاجر إلى المدينة، ثم أذن له بالقتال والانتصار، وهذه كانت قبل الإذن بذلك؛ ولذلك تعتبر منسوخة، فقد نسخت بالقتال، أي: بقوله تعالى: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ [الحج:39].
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر