حث الله على طاعته وطاعة نبيه، ووعد على ذلك برضاه ورحمته وجنته، ثم بعد ذلك حذر من الدنيا ونفر عنها وقال: (إنما) بأداة الحصر إِنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ [محمد:36] أي: كل ما في الدنيا سوى ذكر الله وطاعة الله (لعب ولهو) فهو باطل في باطل، يلهي الإنسان زمنه، ويضيع عمره، ويبدد أيامه، وإنما هو يلعب ويلهو كما يلعب الأطفال ويلهون، ولا يحفظ له ولا يسجل له إلا الركيعات التي يقوم بها، والأيام التي يقوم فيها، والطاعات التي يلتزمها من طاعة لله، وطاعة لرسوله صلى الله عليه وسلم.
قوله: إِنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا [محمد:36] أي: إن تؤمنوا بالله وتتقوا المعاصي فلا ترتكبوها، وتجعلوا بينكم وبين المعاصي وقاية تحفظكم من اكتسابها وفعلها.
قوله: وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ [محمد:36] أي: ليس لكم في الدنيا إلا الإيمان والتقوى والعمل الصالح، والبعد عن الفواحش ما ظهر منها وما بطن.
وضابط الطاعة كما في النص النبوي: (ما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم، وما نهيتكم عنه فانتهوا) الفعل: هو أوسع من قدرة الإنسان، أما الترك فهو في وسع الإنسان، ولا يحتاج إلى إرادة، اترك الفواحش جميعها دون ذكر التفاصيل، ليس بينك وبين ذلك إلا قوة إرادة وعزم، نهى الله عن الفواحش، وهي ما عليها حد وما عليها لعنة أو تحذير، فأنت حيث لا تفعل فقمت بما وجب عليك، ولم يحتج ذلك منك إلا لإرادة وعزيمة.
قوله: وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ [محمد:36] أي: يثيبكم بالجنة وبالرحمة.
وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ [محمد:36] الأموال عزيزة على الناس، وهي أحياناً تكون عند بعض الناس أعز من الأكباد والأولاد، وهي عند المؤمن نعمة أتى الله بها إليه ليستعين بها على الطاعات، ونفقة الأهل والأولاد، والصدقة على الفقراء والمساكين والمحاويج، وأن تصل به الأرحام، وكما وصف الله المؤمن: وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ [المعارج:24-25].
وقد جمع الله بين حقه وحق الفقراء من العباد: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ [البقرة:43].
وأول حرب أهلية في الإسلام الحرب على مانعي الزكاة، وعندما خولف أبو بكر لأول مرة حاجهم وانتصر عليهم وفلجهم أصبح ذلك إجماعاً، وقال أبو بكر : والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة ما استمسك السيف في يدي. فأي قرية أو بلدة أو شعب تواطئوا على منع الزكاة فيجب أن يؤدوها، وإلا قوتلوا كما قاتل أمثالهم أبو بكر والصحابة، وكذلك إذا تواطأ أهل قرية على منع الصلاة قوتلوا حتى يصلوا.
قوله: وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ [محمد:36] طلب الله منا أعمالاً بدنية، أما المال فإنما طلب منا شيئاً قليلاً لا يكاد يذكر، فقد طلب ربع العشر فقط.
قال تعالى: وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ [محمد:36] أي: الأموال التي تحبونها وتحرصون على كنزها لم يطلبها جميعاً، وإنما سيطلب منها سهماً للفقراء والمساكين والمحاويج، وهذا بعد النفقة على العيال.
أي: إن يطلب منكم أموالكم جميعها زائدة على الزكاة (تبخلوا).
طلب الله الزكاة وهي شيء لا يكاد يذكر ومع ذلك تركوا الزكاة، ومنعوا الفقراء حقوقهم، فكان الجزاء من جنس العمل في الدنيا قبل الآخرة، ولعذاب الله أشد وأنكى، فسلط الله الحكومات تأخذ من الضرائب ما يتجاوز الأربعين أو الخمسين أو الستين في المائة بلا كرامة وبلا أجر ولا ثواب، وسلط الشيوعيين فأخذوا المال كله، ولم يتركوا لأحد إلا ما قل، جزاء وفاقاً، لمنعهم الزكاة وخروجهم عن أمر الله، امتنعوا أن يعطوا القليل؛ فسلط الله عليهم من يأخذ الكثير الكثير، بل ومن يأخذ الكل.
قوله: فَيُحْفِكُمْ [محمد:37] الإحفاء: الإلحاح في السؤال.
وقد علم الله حقيقة خلقه فلم يطلب منهم جميع مالهم.
قوله: فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ [محمد:37] أي: يكون ذلك سبباً لخروج الأضغان وإظهارها.
والأضغان جمع ضغن: وهو الحقد والعداوة.
وقد امتنعت طائفة من أداء الزكاة بعد موت النبي عليه الصلاة والسلام، وقالت: الزكاة أخت الجزية، وكنا نعطيها لرسول الله، أما لأحد بعده فلا، ولكن الخليفة الأول رضوان الله عليه وجد أن ركناً من أركان الإسلام الخمسة سيعطل، ويوشك أن تعطل بقية الأركان، وإذا به يعزم ويشد الرواحل ويرسل الصحابة كبارهم وصغارهم تحت قيادة خالد بن الوليد سيف الله، وقاتل الممتنعين من الزكاة، فانتصر، ونصر الله دينه، ومات من مات منهم على جريمته ومخالفته، وتاب من تاب الله عليه وعاد للطاعة والإيمان بالأركان كلها والعمل بها جميعاً.
قوله: هَاأَنْتُمْ [محمد:38] الله لم يطلب الكل، ومع ذلك خاطبهم بـ(ها) التنبيه: هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [محمد:38].
أي: يا هؤلاء أيها المؤمنون دعاكم الله ورسوله لتنفقوا في سبيل الله، والنفقة: هي الزكاة الواجبة، وهي النفقة الواجبة على الأهل والأولاد، وهي الاستجابة للسائل والمحروم، يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (للسائل حق ولو جاء على فرس) لو صدق السائل ما أفلح المسئول إن امتنع عن الاستجابة في العطاء.
قوله: فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ [محمد:38] أي: دعيتم فمنكم من بخل ولم يؤد الزكاة، فإن كان هذا وقت نزول الآية فما بالك في عصرنا الذي يكاد المسلمون أن يعطلوا هذه الفريضة، وهذا الركن من أداء الزكاة، ولو أن أهل مدينة وقرية أدوا الزكاة الواجبة كما فرضها الله لما وجد في تلك القرية والمدينة فقير ولا محتاج.
والمجتمع المسلم لا يكون فيه فقير إن أدى الناس زكاتهم الواجبة، ففي الحديث النبوي يقول عليه الصلاة والسلام:(إن الله فرض في أموال الأغنياء ما يكفي فقراءهم، فإن جاعوا أو عروا فبمنع الأغنياء، وحق على الله أن يحاسبهم ويعاقبهم على ذلك) أي: على امتناعهم من كفاية الفقير والمحتاج.
ولذا يجب منع التسول، التسول يقوم به الأجانب، ولو كان الأغنياء يؤدون واجباتهم وزكاتهم المفروضة لما وجد متسول، فواحد يموت في التخمة، ويكاد يأكل الذهب والفضة ويتمرغ في الحرير والدمقس والديباج، وآخر يموت جوعاً وهو على مرمى حجر منه؛ لا ينتفع بماله إلا ضال مضل، ولا تصرف أمواله إلا في الفساد والفاحشة، وفي البنوك الربوية، وفي الرشوة، وفي المناسبات من الأفراح والحفلات والعزائم التي لا تكون لله، ولا ليأكل منها الفقير المحتاج، ولا تكون إلا مباهاة وضياعاً لأموال الفقراء والمساكين.
يقول ربنا: هؤلاء الذين بخلوا بأداء زكاة أموالهم هم في الحقيقة إنما يبخلون على أنفسهم؛ لأنهم سيضرونها، وسيحاسبون على منع الزكاة، وسيعاقبون، وكما قلت وأقول دوماً: العقاب كان من جنس العمل في الدنيا قبل الآخرة، سلط الله الحكومات فأخذت الضرائب التي لم ينزل الله بها من سلطان، أخذت خمسين في المائة وستين وسبعين، وسلط الله الشيوعية -وتكاد تعم ثلثي سكان الأرض- فأخذت المال كله، وأفقرت الغني، وما أغنت الفقير قط، وما كان ذلك إلا جزاءً وفاقاً لمنع الأغنياء حقوق الفقراء والمحاويج والسائلين والمحرومين، ولعذاب الله يوم القيامة أشد وأنكى.
قوله: وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ [محمد:38] أي: سيكون بخله في الحسنات التي سينالها، في الأجر والثواب الذي أعده الله للمطيعين السميعين، الذين أدوا زكاة مالهم طائعة بها أنفسهم، دون إكراه ولا رياء ولا سمعة.
أي: عندما يسألكم الله بعض أموالكم لتصرف على محاويجكم، وفقرائكم، ومجاوريكم، وأقاربكم، لا يطلبها لنفسه، فهو الغني جل جلاله، هو الغني عن الخلق ذاتاً، وأنتم الفقراء ذاتاً، نحن الفقراء إلى الله، فقراء في الحياة، في المال، في العافية، في الأعمال، فقراء في كل شيء، خلقنا يوم خلقنا من بطون أمهاتنا لا نملك شيئاً، ثم أخذ يعطينا؛ ولذلك أمر وقال: وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ [النور:33] هو مال الله وليس مال أحد، أعطوهم من المال الذي جعله الله وديعة في أيديكم، ستهلكون يوماً وستبقى تلك الأموال، ويأخذها من لا يرحمكم فيصرفها في الباطل وفي الحرام.
وَإِنْ تَتَوَلَّوْا [محمد:38] أي: إن تعرضوا عن الله، وعن طاعة الله، يبدل الله بكم قوماً آخرين، ويصيب الأمة التي امتنعت والشعب الذي امتنع بكارثة وبلاء، ويصيبهم بمرض يفنيهم، ويعوضهم بالأولاد والأسباط، أو يعوضهم بشعوب أخرى، أين الشعوب التي كانت من قبل؟ فإنها بادت وهلكت بأعمالها الخيرة والشريرة، والله ينذرنا، وقد وقعت هذه النذارة؛ حين خالف الآباء والأجداد فسلط الله عليهم من لم يرحمهم من اليهود والنصارى، عدنا فقلنا: يا رب! وضرعنا إليه وبكينا فجاءنا بالاستقلال فأخرج الأعداء عن بلادنا، وإذا بنا بعد ذلك نكفر النعمة، فعصينا الله في نعمته فسلط علينا أذل خلقه وأقبحهم وألعنهم.
وَإِنْ تَتَوَلَّوْا [محمد:38] أي: إن تعرضوا عن طاعة الله وتولوها ظهوركم وأدباركم.
يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ [محمد:38] أي: يأتي بدلكم بأقوام غيركم.
قوله: ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ [محمد:38] أي: لا يكونوا في مثل معصيتكم ومخالفتكم وكفركم، وخروجكم عن أمر الله.
وقال الصحابة: من هؤلاء الذين يبدل الله بهم العرب؟ تساءلوا بهذا عندما كان الصحابة والتابعون -أي: العرب- سكان الأرض؛ لكن نحن الذين جئنا بعدهم رأينا، وقرأنا، وسجل التاريخ أن الله أبدل المسلمين العرب بالروم، أبدلهم بالأمريكان، أبدلهم بالكفرة، أبدلهم بكل ظالم طاغ عقوبة لهم.
أبدل العرب جميعاً بآل عثمان حكموا ديار الإسلام سبعمائة عام أحسن منهم من أحسن، وأساء آخراً منهم من أساء، ولكنهم على العموم كانوا دولة مسلمة، وكانوا شعباً مسلماً، إلى أن سلطت عليهم اليهود والمجوسية فأعادتهم للكفر، وهم الآن بدءوا يعودون للإيمان.
يقول أبو هريرة : (تلا رسول الله هذه الآية: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ [محمد:38] فقالوا: يا رسول الله! من هؤلاء القوم الذين إن تولينا استبدلهم الله بنا؟! وكان بجانبه سلمان الفارسي فوضع يده على كتف سلمان وقال عليه الصلاة والسلام: لو كان الدين في الثريا لناله رجال من فارس).
وهكذا أصبحت فارس أرض إسلام وشعباً مسلماً، فكان منهم رجال الحديث والتفسير، فأعظم إمام في التفسير الرجل الفارسي الأصل محمد بن جرير الطبري ، فهو يعتبر أبا المفسرين، وكتابه مرجع المفسرين، وأعظم محدث جمع الصحيح الإمام البخاري ، وهو فارسي، وأعظم إمام في لغة العرب جمع أطرافها، وكان كتابه الإمام والمرجع في لغة العرب هو سيبويه ، وهم محسوبون بالآلاف ليس بالمئات ولا بالعشرات.
ونكتفي بهذا ونكون قد ختمنا سورة القتال سورة محمد صلى الله عليه وسلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر