قوله تعالى: لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ [الفتح:17]، عندما نزلت آيات توبيخ الذين تخلفوا عن حضور صلح الحديبية وعمرة الحديبية، كان فيمن تخلف مرضى وعميان وعرج، فقال هؤلاء: يا ربنا كيف بنا ونحن لم نتخلف إلا لعجزنا وحبسنا المرض، فنزل قول الله تعالى يعذر هؤلاء ويقبل عذرهم ولا يجازيهم إلا بالخير حسب قلوبهم: إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا [الأنفال:70]، وقال: لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ [الفتح:17]، والأعرج هو من مرضت إحدى رجليه فأصبح يعرج مشياً، ولا يصلح لقتال ولا لجري ولا لعدو، وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ [الفتح:17] بأي مرض من الأمراض بحيث يطرحه فراشاً، ففي مدة مرضه هو معذور إلى أن يشفى ويعود للعافية.
وأما إذا كان مرضه مرضاً مزمناً ملازماً فهو معذور كذلك عن حضور القتال، بل هو في الأصل لا يصلح للقتال، وإن كان يصلح للرأي وللتدبير، وللإدارة وللفكر، كما يقال في الأمثال: من لا يصلح قربة يصلح دلواً، فمن لا يصلح لحمل السلاح وللجري على الخيل والركائب وسوق الدبابات والطائرات، يصلح للفكر وللإدارة بما يعين المجاهدين والمقاتلين.
ومعنى قوله تعالى: لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ [الفتح:17] هذا عام، أي: لا حرج عليه، فلا يشدد عليه، ولا يكلف فيما ليس هو في قدرته وطاقته.
قال تعالى: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا [الفتح:17]، يذكر تعالى عن هؤلاء فيما هم عاجزون عنه أنهم لا يطالبون بذلك لمرضهم ولعماهم ولعرجهم، ولكن الطاعة لله ولرسول الله صلى الله عليه وسلم لا بد منها، ولم يأمرهم الله ورسوله إلا بما يستطيعونه، فإن عجزوا عن حمل السلاح فلا يعجزون عن الإعداد للحرب بالفكر والإدارة.
وقوله تعالى: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [الفتح:17] أي: يطيع الله في كتابه ويطيع رسوله في سنته وفي الأمر والنهي، يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ [الفتح:17] أي: يجازيه الله بدخول الجنات ذات الأنهار الجارية، والمياه الدافقة من كل نوع؛ أنهار من عسل مصفى، وأنهار من خمر لذة للشاربين، وأنهار من ماء كأنه سلسبيل، وأنهار تجري من كل جانب، حصباؤها اللؤلؤ، وطينتها المسك.
وقوله تعالى: وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا [الفتح:17].
أي: والذي يعرض ويعصي ويخالف يعذبه الله عذاباً أليماً بالغضب عليه في دار الدنيا، وبلعنته في الآخرة يوم القيامة، وبتعذيبه عذاباً مهيناً مؤلماً موجعاً، كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ [النساء:56].
قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: (كل من حضر بيعة الرضوان مغفور له)، ثم قال لهم: (أنتم خير من على وجه الأرض)، هذا ما قاله الله جل جلاله وحياً لرسوله صلى الله عليه وسلم، وصرح به في هذه السورة الكريمة فقال: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ [الفتح:18]، ولذلك سميت هذه البيعة بيعة الرضوان، أي: بيعة رضا الله ورضا رسول الله، وبيعة المغفرة والرحمة وسكنى الجنة، وقصة الشجرة والبيعة ذكرناها في سبب نزول السورة: وهي أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يتبادل الرسل والسفراء مع أهل مكة، فأرسل عثمان بن عفان ليبلغ قريشاً أن النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين لم يأتوا لقتال، ولا لحرب، ولا لانتهاك حرمة، وإنما جاءوا معتمرين محرمين، فلم يحملوا معهم إلا السيوف في قرابها وغمدها.
والذي يريد الحرب لا يقتصر على ذلك، إنما يأتي بالخيل وبالدروع وبالنبال وبالحراب وبالسهام، وبأنواع أسلحة الحرب والقتال آنذاك، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يحملوا إلا السيوف؛ احتياطاً للطوارئ، والسيوف موضوعة في أغمادها وليست مسلولة.
فقالوا لـعثمان: طف أنت، قال: لن أطوف حتى يطوف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم غامزاً في عثمان أنه طاف بالبيت، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (لو أقام دهراً لم يطف حتى يطوف رسول الله صلى الله عليه وسلم)، هكذا كان عثمان، يرفض الطواف ما لم يطف رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم حبسوه وشاع أن عثمان قتل.
وإذا بالنبي عليه الصلاة والسلام ينادي مناديه: أيها القوم! من المهاجرين والأنصار والأعراب ومن تبعنا لهذه العمرة، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة في أرض الحديبية، فتحلقوا حوله، فأتوا إليه وهو مستظل بظلال تلك الشجرة، فقال: بايعوني، فبايعوه على الموت، وهو عدم الفرار، ومعنى بايعوه: أي: باعوا أنفسهم طاعة لله، ثم طاعة لقتال أهل مكة إن كانوا قد قتلوا عثمان حقاً، فلن يغادروا المنطقة ما لم يؤدبوهم ويقاتلوهم جَزَاءً وِفَاقًا [النبأ:26]، ولكن النبي عليه الصلاة والسلام وكأنه كان مطمئن النفس أنهم لم يقتلوه، فكل تقدم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ووضع يده في يده المبايعين له بذلك، وإذا بالنبي عليه الصلاة والسلام يضع يمناه في يسراه والعكس؛ نيابة عن عثمان ، وقال: (هذه بيعة
ومن بايع النبي صلى الله عليه وسلم نيابة عن عثمان وحضرها فله أجرها وثوابها ومغفرتها، وفضل المبايعين فيها، فبايع جميع الصحابة إلا الجد بن قيس ، فقال عنه النبي عليه الصلاة والسلام: (كلكم مغفور له إلا صحاب الجمل الأحمر)، فأخذ الأصحاب يبحثون عن صحاب الجمل الأحمر وإذا بهم يجدون أعرابياً يمسك بيده جملاً أحمر، فقالوا له: ويلك يا أعرابي تقدم بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما بي في البيعة من حاجة؟ إنما افتقدت بعيري وراحلتي فجئت أبحث عنها ووجدتها هنا.
فتبين أنه لم يكن مسلماً، ولم يحضر ضمن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما جاء مفتقداً لراحلته الضائعة ووجدها ضمن رواحل الأصحاب، ولذلك استثنى من المغفرة صلى الله عليه وسلم صاحب الجمل الأحمر.
وهذه الشجرة قال قوم: إن عمر قطعها، وقال أقوام -وهو الصحيح-: فقدت ولم تعرف؛ فربما جاءها أعرابي يريد حطباً وخشباً فاحتطبها وأزالها أو حصل لها ما حصل.
قوله تعالى: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ [الفتح:18] أي: رضي الله عن بيعتهم، وهو أيضاً ما قاله ربنا: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ [التوبة:111].
فهذه البيعة التي أعاد الله ذكرها في سورة الفتح هي البيعة التي بايعها الأصحاب أهل صلح الحديبية المهاجرون والأنصار الذين حضروا لعمرة الحديبية، يقول الله عنهم: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ [الفتح:18] أي: رضي عنهم ورضي فعلهم وقبل بيعتهم، وقال أكثر من هذا: إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [الفتح:10]، فاعتبر الله جل جلاله يد النبي التي كانت فوق أيديهم بيعة للقتال، وموتاً في سبيل الله، وعدم الفرار من المعركة، اعتبرها نائبة عنه جل جلاله وعز مقامه، فبيعة رسول الله هي بيعة لله.
وهذا كقوله تعالى: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ [النساء:80]، والرسول عليه الصلاة والسلام ما جاء لنفسه ولا لأمرها ولا لعبادتها حاشا لله، وإنما جاء رسولاً آمراً وناهياً عن الله، ولذلك فإن أبا بكر عندما حضر الوفاة النبوية وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجىً في غرفة زوجته عائشة ، فقبل جبينه الطاهر وقال له: طبت حياً وميتاً يا رسول الله! ثم صعد المنبر فوجد في درجته الأولى عمر قائماً شاهراً سيفه ويقول: من قال: إن محمداً قد مات قتلته بسيفي هذا، فجاء أبو بكر وأقعده وصعد إلى أعلى درجة في المنبر، وقال: من كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، ومن كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ثم تلا قوله تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ [آل عمران:144].
فالله أرسل محمداً نائباً عنه ومفوضاً في أرضه، يدعو الناس لتوحيده ولعبادته، وللتخلق بمحاسن الأخلاق، ويدعوهم للبعد عن الشرك والرياء والسمعة في العبادة.
ولذلك كانت بيعته بيعة لله، وطاعته طاعة لله، وامتثال أمره امتثالاً لأمر الله، واجتناب نهيه اجتناباً لنهي الله وهكذا، قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [الفتح:10].
لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ [الفتح:18] هذه الشجرة سجلت وخلدت في كتاب الله، فشرفت وأصبح ذكرها قرآناً يتلى، لأن النبي عليه الصلاة والسلام بايع أصحابه تحتها، فسجلت قصتها وخلدت.
السكينة: هي الطمأنينة والوقار، وقال أصحاب الرقائق والآداب: هي شيء يشمل على ثلاثة معان: النور، والقوة، والروح، وما تكاد السكينة يكرم بها أحد إلا ووجد يقيناً في نفسه، وسكينة في أعضائه، وقبولاً لأمر ربه ورضاً بما قسم له، فلا يكون قلقاً ولا مضطرباً، ويصبح أمام أمر الله وما صنع الله به من خير أو غيره في موضع سكينة، وهكذا باستمرار مادام ممتعاً بنزول السكينة على قلبه.
ولذلك قال أصحاب الرقائق والآداب: لا تنزل السكينة إلا على قلب نبي أو ولي.
وقوله تعالى: فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا [الفتح:18] .
أي: أنزل الله السكينة على المؤمنين فاطمأنت الجوارح، وقد كانوا قلقين من معاهدة الحديبية ومن موادها ومن أحكامها، فلم يفهموا لها معنى ولا مغزى، ولكن بعد نزول السورة الكريمة ونزول السكينة عليهم اطمأنت جوارحهم، وزال قلقهم واضطرابهم، وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا [الفتح:18] كان الفتح القريب هو: معاهدة الحديبية، والفتح البعيد هو: فتح مكة والطائف والروم وفارس والقسطنطينية والبربر، وكل فتح فتحه الله بعد ذلك.
ولكن البداية كانت في هذا الفتح المبين والعظيم: صلح الحديبية، الذي نزل فيه قوله تعالى: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا [الفتح:1] ، وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا [الفتح:3]، فكان صلح الحديبية فتحاً عظيماً ونصراً عزيزاً، وتتابع النصر بعد ذلك هيناً ليناً بلا مشقة ولا تعب ولا ما يزعج أو يقلق، وهكذا دام الأمر بينهم.
في صلح الحديبية لم تكن هناك مغانم ملموسة ولكن كانت مغانم معنوية: من النصر المؤزر، والمغفرة من الله، والرضا منه على هؤلاء، ولكن الله وعدهم فيما بعد الحديبية بمغانم كثيرة يأخذونها، قال تعالى: وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا [الفتح:19] ، وبداية المغانم والأرباح والمكاسب كانت في حرب خيبر، فمعاهدة الحديبية كانت في شهر ذي القعدة من السنة السادسة من الهجرة، وكانت غزوة يهود خيبر في شهر محرم من السنة السابعة للهجرة، وكانت هي المغانم القريبة.
وخص نبي الله امتثالاً لأمر الله في هذه الآية مغانم خيبر من حضر معاهدة الحديبية، ولم يعط من تلك المغانم أحداً ممن لم يحضرها، وكان ذلك عطاء من الله، وتعويضاً لهؤلاء حيث تركوا زراعتهم وتجارتهم وجاءوا زمناً، وحبسوا أنفسهم زمناً عند الحديبية؛ طاعة لله، وامتثالاً لأمر رسول الله، ورغبة في الجهاد والقتال، فجازاهم الله بالمغانم الحسية كما جازاهم بالمغانم المعنوية، فتملكوا مغانم أرض خيبر، وكانت شيئاً عظيماً، كانت أرضاً وعقاراً وإبلاً وخيلاً وذهباً وفضة وكانت وكانت.
وهذه الغنائم هي ما طمع فيها أولئك المخلفون من الأعراب، وقالوا لهم عندما انطلقوا إلى حرب خيبر: ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ [الفتح:15]، فمنعهم رسول الله بأمر الله عن أن يحضروا، ولا أن يأخذوا من الغنائم قليلاً ولا كثيراً، ووعدهم أنهم إذا دعوا لقتال قوم أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ [الفتح:16] أي: يقاتلونهم إلى أن يسلموا أو يستسلموا، فإن استجابوا وأطاعوا غفر الله ذنبهم، وكفر عنهم سيئاتهم إن أخلصوا العمل لله، وإذا أعرضوا كما أعرضوا من قبل ضوعف لهم العذاب الأليم الموجع.
وقوله تعالى: وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا [الفتح:19] هذا الغنائم كانت خاصة لمن حضر صلح الحديبية من المهاجرين والأنصار والبدو، ووصفها الله بالكثرة، وهي: مغانم خيبر وما جاء بعدها من غزوات اليهود وحرب فارس والروم.
وقوله تعالى: وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا [الفتح:19] العزيز: الذي لا يمانع ولا يغالب، فكل من سواه ذليل بين يديه وتحت قهره، فهو القاهر لعباده، الحكيم في أعماله، فلا يضع الأمور إلا بالحكمة في الدنيا والآخرة.
فقوله تعالى: فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ [الفتح:20] أي: جعل لكم من الغنائم المعجلة المسبقة المقدمة غنائم خيبر.
وقوله تعالى: وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ [الفتح:20] كانت رعاية الله وعنايته برسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين معجزة، فقد خرج إلى مكة يريد الدخول عليهم إلى عقر دارهم في قلة، فقال البدو والأعراب: ذهب محمد وأصحابه للهلاك، فظنوا ظن السوء، وعليهم كانت دائرة السوء، فقد ذهب صلى الله عليه وسلم راضياً مرضياً، ورجع منصوراً مظفراً مفتوحاً عليه متمماً الله نعمته عليه، وترك اليهود في المدينة وكان من الممكن جداً أن ينتهزوا غياب رسول الله عن المدينة فيهجموا عليها هجمة واحدة، فيقتلوا البقية الباقية من المسلمين، وينتهكوا الحرم، ويحاربوا عاصمة الإسلام الأولى، ومنزل الوحي الثاني، وقد فعلوا ذلك ورسول الله في المدينة بين أظهرهم في غزوة الأحزاب، حيث جمعوا عليه قريشاً وغطفان وأهل نجد وقبائل جزيرة العرب.
ثم حاولوا أن يحاربوه من خلفه، ويحاربه الكفار من أمامه، فصنعوا صنيعهم، ولكن الله جل جلاله نصره عليهم نصراً عزيزاً مؤزراً، أفلا ينصره الله وهو خارج المدينة بعشرات الأميال؟! فلم يفعلوا ذلك وهابوا رسول الله وهابوا قوة الجيش النبوي هيبة قلبية زرعها الله في قلوبهم، فخافوا ووجلوا.
وامتن الله على نبيه وعلى المؤمنين بأنكم عندما خرجتم لمعاهدة الحديبية كف الله عنكم أيدي أعدائكم من يهود المدينة، ومن كفار المدينة المنافقين، فلم يقاتلوكم ولم يحاولوا ذلك.
وقوله تعالى: وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا [الفتح:20] أي: لتكون معجزة على قدر الله بين المؤمنين، فاليهود على قوتهم وهم يساكنون رسول الله في المدينة عقر داره، وتركها لما خرج هو وأصحابه إلى الحديبية، فلم يقاتلوه ولم يغدروا به ولم يهجموا على من هناك، فخوفهم أرهبهم فقد هابوا المسلمين، وكبروا في أعينهم، وعجزوا في أنفسهم أن يناجزوهم حتى ولو هم غائبون.
فكف أيدي الكفار واليهود عن حربكم وقتالكم وغدركم آية وعلامة ومعجزة بينة على قدرة الله، وذلك برعاية الله لكم ونصرته.
وقوله تعالى: وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا [الفتح:20] أي: ليزيدكم هداية على هداية وفتحاً على فتح، وإيقاناً على إيقان، ويثيبكم نصراً على نصر.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر