إسلام ويب

شرح أصول اعتقاد أهل السنة - ما جاء عن النبي في الحث على الاتباعللشيخ : حسن أبو الأشبال الزهيري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لقد حث الإسلام على اتباع الكتاب والسنة والاستمساك بهما، وبين أن المتبعين للكتاب والسنة هم الجماعة التي حث النبي صلى الله عليه وسلم على ملازمتها وعدم الخروج عنها، وبين صلى الله عليه وسلم صفات هذه الجماعة وأنها الطائفة المنصورة، وأنها السواد الأعظم من بين الفرق الأخرى، ومن تركها فهو على شفير الهلكة، وإنما يستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير، فبئست البضاعة بضاعته.

    1.   

    سياق ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحث على اتباع الجماعة والسواد الأعظم

    إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.

    أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. وبعد:

    فمع باب جديد من أبواب أصول الاعتقاد: وهو فيما يخص ما روي عن النبي عليه الصلاة والسلام في الحث على اتباع الجماعة والسواد الأعظم، وذم تكلف الرأي والرغبة عن السنة، والوعيد في مفارقة الجماعة.

    وهو باب عظيم جداً يحث على اتباع الجماعة، وأثبت أنهم هم السواد الأعظم، ولعلنا قد تطرقنا إلى بيان ذلك في دروس قد مضت، وهو إثبات أن المسلمين قد تفرقوا إلى شيع وأحزاب وفرق وجماعات، وقلنا في شرح حديث افتراق الأمة: أن أهل السنة والجماعة هم أعظم فرقة، وإلا فمن فرق المسلمين: الخوارج، فلو أردنا الآن أن نقول: أي الفرقتين أعظم وأكثر سواداً: أهل السنة أو الخوارج في مصر؟ لقلنا: أهل السنة. ولو أردنا أن نطبق هذا على كل بلد من بلدان المسلمين لكان أهل السنة والجماعة أكثر وأعظم من غيرهم في أي بلد من البلدان.

    فأهل السنة والجماعة بفضل من الله تعالى ورحمة هم السواد الأعظم في كل بقعة من بقاع الأرض التي نطقت بتوحيد الله عز وجل.

    فالنبي عليه الصلاة والسلام يحث على اتباع الجماعة والتمسك بها، والاعتصام بحبلها المتين، وهم السواد الأعظم.

    وقد وردت أحاديث، بل قد وردت آيات فيها الوعيد الشديد والتهديد الأكيد لمن ترك السواد الأعظم وترك الجماعة، وأثبتت هذه الأدلة: أن من ترك الجماعة قيد شبر فمات مات ميتة جاهلية، وإليك هذه النصوص:

    النهي عن التبتل والاختصاء والغلو في الدين

    قال: [ أخبرنا حميد أنه سمع أنس بن مالك رضي الله عنه يقول: إن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم لله، فمن رغب عن سنتي فليس مني) ]، فهذه سمة من سمات السواد الأعظم وهم أهل السنة والجماعة، أنهم معتدلون في التمسك بالسنة فلا يغالون فيها ولا يجافون عنها. وهذا الحديث له مناسبة: لما ذهب ثلاثة نفر إلى بيت من بيوت النبي عليه الصلاة والسلام فسألوا عن عبادته، فلما أخبرتهم عائشة رضي الله عنها بعبادة النبي عليه الصلاة والسلام كأنهم تقالوها، قالوا: هذه عبادة قليلة، والنبي عليه الصلاة والسلام ليس مثلنا، فهو رجل قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فيعبد أو لا يعبد، قد أخذ الوعد من الله عز وجل ألا يعذبه بل يدخله الجنة، وأما نحن فإننا نحتاج إلى عبادة بل وإلى مشقة في العبادة حتى نحظى بشيء مما حظي به النبي عليه الصلاة والسلام، قالوا: لابد أن نكلف أنفسنا أعظم من ذلك من الأعمال والعبادة والصلاح والتقوى والطاعة وغير ذلك، فأما أحدهما فقال: (إني لا أتزوج النساء قط. وأما الثاني فقال: فإني لا أنام على فراش قط. والثالث قال: وأنا أصوم الدهر ولا أفطر) وظل كل واحد منهم يتزهد زهداً لم يؤمر به، حتى ذهب بعضهم واستأذن من النبي عليه الصلاة والسلام وهو عثمان بن مظعون رضي الله عنه في الاختصاء، حتى لا يكون له رغبة في النساء، وينقطع للتبتل؛ أي: ينقطع للعبادة.

    قال: [ قال: أنس رضي الله عنه: (استأذن عثمان بن مظعون النبي عليه الصلاة والسلام في الاختصاء ولو أذن له لاختصينا) ]، ولكنه عليه الصلاة والسلام لم يأذن.

    لماذا طلب عثمان بن مظعون هذا؟ لأجل أن ينقطع للعبادة فلا يكون له رغبة في النساء، فالمرأة التي تسل مبايضها لا ترغب في الرجال، والرجل الذي يختصي لا يرغب في النساء قط، وإنما حمل عثمان بن مظعون على مثل هذا الطلب أنه أراد أن ينقطع للتبتل، والتبتل هو الانقطاع للعبادة، ولكن النبي عليه الصلاة والسلام لم يأذن له بذلك؛ لأن الدين الإسلامي وسط بين الروحانية وبين المادية، فلابد للبدن من حاجة ولابد للروح والقلب من حاجة، ولذلك رد النبي عليه الصلاة والسلام على عثمان بن مظعون هذا الطلب.

    فهؤلاء القوم لما أتوا إلى بيت من بيوت النبي عليه الصلاة والسلام وطلبوا منه ذلك الطلب أو سألوا عن عبادته فتقالوها، خرج عليهم النبي عليه الصلاة والسلام. قال: (ألستم القوم الذين قلتم: كيت وكيت. قالوا: بلى يا رسول الله! قال: أما إني أخشاكم لله وأتقاكم له). ومن الذي يشك أن أفضل الخلق على الإطلاق هو النبي عليه الصلاة والسلام؟ وما حاز على هذه الأفضلية إلا بتقواه وطاعته لله عز وجل. (أما إني أخشاكم لله وأتقاكم لله وأعلمكم بالله). وفي رواية البخاري ، ومسلم : (أما إني أتقاكم لله وأعلمكم بالله) أي: من جهة العلم والعمل، فهو من حيث العلم بالله فهو أعلم الخلق، ومن حيث التقوى هو أتقى الناس علماً وعملاً. قال: (ولكني أصوم وأفطر، وأتزوج النساء، وأنام وأصلي؛ فمن رغب عن سنتي) أي: زهداً فيها حباً في غيرها (فليس مني). أي: قد اتخذ سنة غير سنتي، واهتدى بهدي غير هدي، ولاشك أن هذا ضلال وانحراف.

    فلابد من التمسك بسنة النبي عليه الصلاة والسلام على المراد الذي أراده النبي عليه الصلاة والسلام، ولابد من التمسك بكتاب الله على مراد الله عز وجل، وليس على مراد أحد، وليس على مراد عالم من العلماء فضلاً عن عامي من عامة الناس، فلابد من التمسك بكتاب الله على مراد الله، ومن التمسك بالسنة على مراد صاحبها عليه الصلاة والسلام، فلا يجتهد أحد اجتهاداً مخلاً بالآداب والأخلاق والسلوكيات التي أمرنا بها النبي عليه الصلاة والسلام، وهذا الحديث أيضاً ورد عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما.

    النهي عن الخروج على ولي الأمر وشق عصا الطاعة

    قال: [ عن أبي هريرة رضي الله عنه عنه قال: (من خرج من الطاعة وفارق الجماعة مات ميتة جاهلية) ]. ولاشك أن هذا الحديث له قصة طويلة جداً، خاصة لمن قرأ كتاب إمام الحرمين الإمام الجويني، (غياث الأمم) فسيجد أن هذا الحديث في هذا الزمان له مشكلة عظيمة جداً.

    الحديث يقول: (من خرج من الطاعة وفارق الجماعة) أي جماعة هي؟ المقصود بها: جماعة المسلمين التي تقع تحت راية الخليفة والسلطان. والخليفة الشرعي أين هو؟ لابد من خلافة راشدة على منهاج النبوة حتى نقول: إن من خرج عن هذا فمات مات ميتة جاهلية. بعض الجماعات الموجودة على الساحة كل يدعي أن هذا الحديث يخصها، وأحياناً يعلنون ذلك، وأحياناً بطرف خفي على استحياء، وأحياناً يتبجحون به، ولا شك أن هذا التصريح تصريح خاطئ، فكل جماعة من الجماعات العاملة على الساحة ما هي إلا وحدة من وحدات المسلمين التي تهتم بجانب أو بجانبين أو بمسألة أو بمسألتين من المسائل التي أمر الله تعالى بها ورسوله، ومنهم من يخطئ ومنهم من يصيب، ومنهم من يطرأ إليه الخطأ ومنهم من يطرأ إليه الصواب، لكن هل هي الجماعة التي يجب على كل واحد منا أن يتبعها وإلا لو مات من غير بيعة لفلان أو علان مات ميتة جاهلية؟ الجواب: لا.

    أنت لا يلزمك قط أن تبايع، وإني أعتقد أن من بايع أي إمام أو أي عالم أو أي جماعة في هذا العصر من هذه الجماعات فإن بيعته بدعية وليست شرعية. لماذا؟ أولاً: البيعة لا تكون إلا للخليفة العام الذي اجتمع المسلمون عليه، متمثلاً في مجلس الحل والعقد الشرعي الذي حكم البلاد شرقاً وغرباً بأن يعينوا أميراً للمسلمين عامة كما حدث في سقيفة بني ساعدة في تولية أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فكان هو الخليفة المعتمد والخليفة الشرعي الرسمي الذي بعد ذلك ولى الولاة، ونصب الأمراء، ثم أطلقهم في الأمصار والولايات، وكل واحد من هؤلاء تحت إمرته هو رضي الله عنه، فإن البيعة لا تكون إلا على هذا النحو.

    أما هذه البيعات فإنها كلها بيعات لا يقرها الله تعالى ولا يقرها الرسول ولا أحد من أهل العلم الذين لهم بصر نافذ وحافظة قوية، فإن الحديث من خرج من طاعة الخليفة أو طاعة الوالي والأمير والسلطان الذي ولاه وأمره وسلطه الخليفة الأعظم وهو خليفة المسلمين، فلو كان الأمر كذلك وحدث خروج على هذا الرجل فإن من مات على هذا النحو فميتته جاهلية، وأما من خالف ذلك فليس موته بجاهلية قط، فقوله: (من خرج من الطاعة وفارق الجماعة) التي يترأسها الخليفة الشرعي كما قلنا فميتته جاهلية.

    قال: [ قال: (ومن خرج على أمتي -وهي الجماعة أيضاً- يضرب برها وفاجرها -يقتل فيها البر والفاجر- لا يتحاشى من مؤمنها ولا يفي لذي عهدها فليس مني) ]. أي: لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً [التوبة:10]، إذا رفع المؤمن لواء الإيمان والتوحيد قاتله لأجل إيمانه كرهاً في الإيمان وحباً في النفاق والكفر. فإنه لو كان كذلك لكان جاهلياً خارجاً عن ملة الإسلام. ثم يقول: [ (ولا يفي لذي عهدها) ]. انظر إلى عظمة الإيمان، فإن الله تبارك وتعالى يلزمنا أن نفي بالعهود حتى وإن كانت مع غير المسلمين، ولا يلزم الوفاء بالعهد إذا نكث وخان أصحاب العهد عهدهم، فالنبي عليه الصلاة والسلام قد أمهل اليهود في المدينة وأقرهم في سكن المدينة على شروط: ألا يؤذوا مؤمناً وألا يخونوا وألا يغدروا وغير ذلك من الشروط.

    ولكنهم سرعان ما خانوا وتكشفوا على عورات نساء المؤمنين، فما كان من النبي عليه الصلاة والسلام إلا أن أخرجهم وأجلاهم عنها؛ لأن الذي خان أولاً هم اليهود، فإنهم إذا خانوا العهد فلا عهد لهم، وهنا قال النبي عليه الصلاة والسلام: [ (ومن خرج على أمتي يضرب برها وفاجرها لا يتحاشى مؤمنها -أي: لا يرقب فيه إلاً ولا ذمة- ولا يفي بعهدها فليس مني، ومن مات تحت راية عمية يغضب للعصبية أو يقاتل للعصبية فميتته جاهلية) ]. ولذلك سئل النبي عليه الصلاة والسلام: (الرجل منا يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل..) كيت وكيت وكيت وصاروا يعددون له أمور العصبية الجاهلية. قالوا: أي ذلك في سبيل الله يا رسول الله؟! فلم يذكر أن واحدة من هذه في سبيل الله، وإنما قال: (من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله).

    هذه الوحيدة التي تجعلك على الجادة والاستقامة، أما إذا قاتلت لأجل أبيك أو لأجل أمك عصبية أو حمية جاهلية، أو قاتلت لأجل عشيرتك، أو لشيء غير مأذون فيه من جهة الشرع أو غير ذلك فإن هذا ليس أبداً من دين الله عز وجل، ومن مات في قتال على هذا النحو فميتته جاهلية.

    وقد صح أن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: (من جاء إلى أمتي وهم جميع -أي: وهم مجتمعون- يريد أن يفرق بينهم فاقتلوه كائناً من كان). يعني: إذا كان للمسلمين خليفة وإماماً يقتدى به محل رضا، وظهر خليفة آخر وطلب البيعة لنفسه، وقال: أنا أحق بالبيعة من فلان فهذا بلا شك من شأنه أن يحدث فتنة عظيمة يكاد الصف الإسلامي جميعه أن يهلك فيها، فالنبي عليه الصلاة والسلام حسم هذه القضية، وقال: (من أتاكم وأنتم جميع يريد أن يفرق كلمتكم فاقتلوه كائناً من كان) حتى ولو كان مؤمناً، حتى لو كان مسلماً، وليس هذا القتل على سبيل الحد. أي: على سبيل الردة أو تكفيره، وإنما هو قتل للحفاظ على بقية المؤمنين، يقتل رجل واحد في مقابل أن تحقن دماء أمة بأسرها؛ لأنه خرج. يقول: أنا مؤمن بل على رأس أهل الإيمان أريد البيعة لنفسي؛ لأن الأمور لا تصلح وأن الأمة لا تستقيم إلا على يدي، فلا شك أن هذه الدعوى إنما هي دعوى إيمانية، فالرجل لم يسب الله ولم يسب الرسول ولم يسب الشرع، وإنما ظهر بما ظهر به لأجل راية: لا إله إلا الله.

    لكن هذه الدعوى دعوة غير سليمة وغير مستقيمة وإن صدرت من أهل الإيمان، وكم من رجل قاتل الأمير فقتله الأمير ليس من باب أنه كفر ولكن من باب درء فتنته، فربما يقتل المسلم لأجل الحفاظ على بقية المسلمين، وأحكام الشرع لا يصح القياس عليها هنا، فإذا أخذ العدو ثلة من أهل الإيمان ولم يتميز عنهم، ولا يمكن التغلب على العدو إلا بإعمال القتل فيهم جميعاً وبينهم مسلمون، فهنا يجوز أن يعمل معسكر الإيمان القتل في أهل الكفر وبينهم مسلمون؛ وذلك للحفاظ على حياض الإسلام والدفع عنه.

    فكذلك إذا خرج الرجل بدعوى لا تكفره، أو ربما يكون فيها جاهلاً أو سكران فإنه لا يقتل بها، ولكن لما وجدنا له أتباعاً وفتنة وشرخاً وصدعاً لجدار الإسلام في قلوب أبنائه يقتل هذا الرجل، وأنتم تعلمون أن خالد بن عبد الله القسري رحمه الله قتل الجعد في يوم عيد. قال خالد بن عبد الله القسري بعد أن فرغ من خطبة العيد: ضحوا أيها الناس تقبل الله منا ومنكم فإني مضحٍ بـالجعد بن درهم فنزل فذبحه في أصل المنبر.

    وأهل العلم قد اختلفوا في ذلك، منهم من كفر الجعد وقال: حجة القسري في قتله أنه كفر. ولكن جمهور أهل السنة على أن الجعد لم يكفر، نعم. دعواه التي خرج بها كفر، ولكنه هو لم يكفر، ولكن جميع الأمة اجتمعت على تصويب خالد بن عبد الله القسري في قتله للجعد . قالوا: يقتل ولو كان مسلماً للذهاب بفتنته وحماية المسلمين مما يقول؛ لأنه قال قولاً خطيراً، قال: إن الله تعالى لم ينزل إلى السماء الدنيا ولا ينزل، ولم يكلم موسى تكليماً، وقال كلاماً عظيماً في القدر. فقوله هنا عليه الصلاة والسلام: (من جاء إلى أمتي وهم جميع-أي: وهم مجتمعون على إمام واحد- يريد أن يفرق بينهم فاقتلوه كائناً من كان) فهل هذا القتل يستلزم كفر الذي خرج؟ الجواب: لا يستلزم.

    حكم قتل المسلم

    السؤال الثاني: هل يجوز قتل المسلم؟ نعم. يجوز إذا أتى من الأعمال ما يستوجب قتله؛ ولذلك النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه).

    فالأصل في دم المسلم أنه حرام، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول كما في البخاري : (لا يزال الرجل في فسحة من دينه -يعني: في سعة من دينه- ما لم يصب دماً حراماً). أي: ما لم يقتل نفساً بغير حقها.

    وهذا يدل على أن المسلم إذا قتل نفساً بغير حقها ضاقت عليه الحلقة جداً، فلعله لا تقبل له توبة، ومذهب ابن عباس: أن من قتل مؤمناً متعمداً لا تقبل توبته قط. هذا قول الله تعالى، ولكن قد ورد في الحديث أن: (دم المسلم لا يحل إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والتارك لدينه المفارق للجماعة).

    فلو أن شخصاً خرج على الإمام بالشروط المذكورة آنفاً يقول: والله إمامتك هذه لا تعجبني وأنا خارج من طاعتك، ولن أتبعك. فلا شك أن هذا الرجل لو قال هذه الكلمة له أحكام عظيمة جداً، فإن كان كلامه هذا لا صدى له عند عامة الأمة ولا خطورة في ذلك على كلمة المسلمين؛ وجلس هذا الخارج في بيته؛ فإنه لا شيء عليه، ولكن لو مات على هذا النحو فميتته جاهلية. أما لو قال للإمام: والله أنا خارج عليك وما لي علاقة بك، وأنت إمامتك غير شرعية، وتبعه في ذلك أقوام وتحيزوا وتميزوا، وصاروا في مكان والأمة في مكان، وجب على الإمام أن يقاتلهم قتال من خرج عن الجماعة.

    وأنت إذا نظرت إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه في قتاله لمن خرج عليه لعرفت ذلك، فإنه لما تميزوا وصاروا في مكان وعلي في مكان قاتلهم؛ لأنهم خرجوا عن الإمرة الشرعية لـعلي بن أبي طالب ، فوجب عليه قتالهم؛ فقاتلهم، وفي الوقت نفسه لما سئل عنهم: هل هم كفار؟ قال: لا. إنما هم من الكفر قد فروا، فقالوا له: فماذا هم إذاً؟ قال: هم إخواننا بالأمس بغوا علينا اليوم.

    فسماهم بغاة ولم يسميهم كفاراً، ومع هذا قاتلهم فقتل منهم وقتلوا منه، والله تبارك وتعالى يقول: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا [الحجرات:9]. أي: هناك بغي وظلم وعدوان، ومع هذا لم يسلب المولى عز وجل عنها اسم الإيمان أو صفة الإيمان، فالطائفة قد تخرج على الإمام فتكون باغية مع إيمانها، ويجوز للإمام أن يقاتلهم وأن يريق دماءهم مع أنهم مؤمنون، فليس بلازم أن يقاتل الرجل لخروجه عن الملة، بل يقاتل وهو في داخل الملة إذا استوجب ذلك.

    الأمر بلزوم الجماعة وبيان خطر الشذوذ عنها

    قال: [ عن أسامة بن شريك قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يد الله على الجماعة، فإذا شذ الشاذ منهم اختطفته الشياطين كما يختطف الذئب الشاة من الغنم) ]. وفي الحديث: (إنما يأكل الذئب من الغنم القاصية). يعني: البعيدة، والغنم مجتمعة عادة وراعيها معها لا يمكن للذئب أبداً أن يخترق هذا القطيع، أما إذا كانت الشاة شاردة شاذة وابتعدت عن أخواتها من الغنم فلابد أن يهجم عليها الذئب، فكذلك الرجل إذا كان مع الجماعة فإنه محفوظ بحفظ الله تبارك وتعالى لهذه الجماعة؛ لأن هذه الجماعة ما اجتمعت إلا اجتماعاً شرعياً حقيقياً على كتاب الله وعلى سنة رسوله؛ لأن معنى أهل السنة والجماعة: أنهم متمسكون بالأثر، وقد اجتمعوا على ذلك، فلا تطلق الجماعة إلا الجماعة الشرعية، على قوم اجتمعوا على كتاب الله وعلى سنة رسوله، والنبي عليه الصلاة والسلام قد وعد وعداً أكيداً أنه قد ترك فينا ما إن تمسكنا به لن نضل أبداً: كتاب الله وسنة الرسول عليه الصلاة والسلام.

    فإذا كان الأمر كذلك وتمسك المسلمون بكتاب ربهم وسنة نبيهم واجتمعوا على ذلك فأنى للشيطان أن يخترق هذه الجماعة فضلاً عن غير الشيطان من شياطين الإنس؟ فقوله هنا عليه الصلاة والسلام: (يد الله على الجماعة).

    بعض الناس وللأسف الشديد في هذا الزمان من أهل السنة ومن الداعين إلى التمسك بالأثر زلت قدمه في هذا الحديث، وقال: اليد هنا بمعنى: القوة. وقال: أنا لا أستطيع أبداً في هذه الصفة على جهة الخصوص أن أعقل أن اليد يراد بها اليد، ثم ذكر نفس التأويل ونفس التفكير في قوله: يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [الفتح:10]، فقال: أنا لا أعتبر أبداً اليد هنا بمعنى اليد الحقيقية الثابتة لله عز وجل، وإنما اليد هنا بمعنى: القوة، فلما حدثناه في ذلك -لأنه إمام من أئمة السنة- قال: كيف لي بأن أفهم أن اليد هنا بمعنى اليد الثابتة لله عز وجل؟ وكيف تكون يد الله على الجماعة، وإذا كانت هي اليد الثابتة لله فكيف تكون يد الله فوق أيديهم؟ قال: إن ذلك يلزم منه المماسة ولله المثل الأعلى، فقال: يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [الفتح:10]، يعني: هكذا. فوضع اليسرى على اليمنى أو العكس. قال: واللغة تخص بالفوقية أن تستلزم المماسة. قلت: لا. يد الله فوق أيديهم ويد الله على الجماعة لا تستلزم المماسة. ثم سألته أين السماء؟ قال: فوق. أين الأرض؟ قال: نحن عليها. قلت: ألست تقول: إن السماء فوق الأرض؟ قال: بلى. قلت: هل يلزم من ذلك أن تمس السماء الأرض؟ قال: لا. قلت: إذاً: هكذا. السماء فوق الأرض لا يلزم منها مماسة السماء للأرض.

    فكذلك يد الله تبارك وتعالى فوق أيدينا، وهذا يدل على علو المولى تبارك وتعالى وفوقيته، فعلى أية حال هو وعد أن ينظر في الأمر وأظن أن عنده الوقت الكافي؛ لأن هذا الأمر مر عليه عامان وزيادة.

    وقوله: (يد الله على الجماعة) هي إثبات ليد الله تبارك وتعالى الحقيقية، ولا ينفي ذلك: أن نفهم منها ما يلزم من ذلك وهو حفظ الله تبارك وتعالى لهذه الجماعة وعنايته بها ونصره وتأييده وغير ذلك، ومع ذلك لا ننفي المعنى الأصلي وهو أن يد الله تبارك وتعالى فوق الجماعة.

    قال: (فإذا شذ الشاذ) أي: فإذا انحرف عن هذه الجماعة وتركها ونحا نحواً غير نحوها وذهب مذهباً غير مذهبها اختطفته الشياطين كما يختطف الذئب الشاة من الغنم.

    التحذير من اتباع سنن اليهود والنصارى

    وفي حديث عبد الله بن عمر وغيره: [ (ليأتين على أمتي ما أتى على بني إسرائيل حذو النعل بالنعل حتى لو كان فيهم من يأتي أمه علانية لكان في أمتي من يفعل ذلك) ].

    ولاشك أن بني إسرائيل كان فيهم ذلك، كان الرجل يأتي أمه ويأتي ابنته، وإن هذه الأمة قد ظهر فيها ذلك حقيقة، ففي هذه البلاد وغيرها من الناس من يأتي أمه ويأتي ابنته ويأتي جميع المحارم من باب أولى. إن الذي يجرؤ على أن يأتي أمه يجرؤ على أن يأتي عمته وخالته وبقية المحارم، فإن هذه الأمة قد تبعت بني إسرائيل حذو القذة بالقذة وحذو النعل بالنعل؛ ولذلك النبي عليه الصلاة والسلام يقول: [ (لتتبعن سنن من كان قبلكم -أي: هديهم- حذو القذة بالقذة، حتى إذا دخلوا جحر ضب دخلتموه، قالوا: اليهود والنصارى يا رسول الله؟! قال: فمن؟) ] يعني: إن لم أكن أعني وأقصد هؤلاء فمن أعني؟ يعني: أنتم تتبعون اليهود والنصارى في كل شيء في أخلاقهم وسلوكياتهم، بل وفي بعض عقائدهم.

    ولا شك أن هذا قد حدث في الأمة ووقع فيها أيضاً، أنا أقول: إن الأمة الآن على غير المنهاج الصحيح، وربما أنا أبالغ -لأنه لا نبي بعد النبي عليه الصلاة والسلام- إن قلت: إن الأمة تحتاج إلى أنبياء يبعثون من جديد؛ حتى ترد إلى دينها الأصلي وإلى ما كان عليه النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه، إن الأمة الآن تحتاج في كل حي إلى عشرات ومئات من الدعاة في الوقت الذي تكمم فيه أفواه الدعاة، وكأن الأمة أريد بها أن تنسلخ من دينها انسلاخاً كلياً؛ فتكون كاليهود والنصارى، في الوقت الذي نرى فيه القساوسة والرهبان يمرحون ويلعبون ويسرحون ويقولون ما يشاءون، أليس هذا الوضع جدير بأن يقف كل منا وقفة مع نفسه ويتقي الله تبارك وتعالى ربه، ويرجع إلى دينه، ويرد نفسه إليه رداً جميلاً، ويدعو إلى الله تبارك وتعالى بالليل والنهار، وإذا كان صاحب درس أو صاحب خطبة لا يكتفي أبداً بهذا، فإن الكلام كثير، والوعظ منتشر في هذه الأيام، ولكنه لا يثمر ثمرته المستمرة، فإنه بعد أن يخرج الموعوظ من المسجد كأنه لم يسمع وعظاً ولم ينتفع به قط، وكأنه أراد أن يقول للواعظ: هذه بضاعتكم ردت إليكم، لا حاجة لنا فيها لا نحن منكم ولا أنتم منا.

    إن الأمة بينها وبين دعاتها هوة عظيمة؛ لأن الأمة قد رضيت بغير أخلاق النبي عليه الصلاة والسلام فكيف ترجع؟!

    إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بافتراق الأمة إلى فرق وأحزاب

    قال: [ (إن بني إسرائيل افترقوا على اثنتين وسبعين فرقة ويزيدون عليها ملة) ]. وفي حديث آخر: (وأمتي على ثلاث وسبعين ملة، كلها في النار إلا واحدة. فقالوا: يا رسول الله! وما هي؟ قال: الذي أنا عليه وأصحابي).

    بعض الناس يتصور أن هذه الفرق كافرة، وأن هذه الفرق مخلدة في النار، وهذا فهم خاطئ؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام لم يحكم عليها بالكفر والخروج من الملة، ولذلك أثبت في أول الحديث أن هذه الفرق من الأمة، فقال عليه الصلاة والسلام: (كل أمتي). وقال: (وستفترق هذه الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار). فكيف تكون هذه الفرقة من الأمة وهي في النار؟ الجواب: صاحب المعصية وصاحب الكبيرة يدخل النار، ومع هذا لا يخلد فيها، وإنما إذا استحق جزاءه عذب في النار ثم خرج منها فدخل الجنة.

    ولا سبيل إلى ضبط نصوص الوعد والوعيد إلا على هذا؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة) من قال: لا إله إلا الله محمد رسول الله، وصام وصلى وزكى وحج وأمر بالمعروف ونهى عن منكر ليس كمن يشهد أن لا إله إلا الله ولكنه لا يعرف المعروف ولا يعرف المنكر فيقع في المنكر وينهى عن المعروف. بل من الفرق الإسلامية أو من الفرق التي انتمت وانتسبت إلى الإسلام فرق كثيرة جداً تفرعت عن الفرق الأصلية، ذكرها ابن الجوزي في كتاب (فرق الأمة)، وذكرها ابن تيمية في كتاب (الفتاوى) وغيرها من الكتب التي تكلمت عن الفرق، قال: ومن الفرق الإسلامية فرق تفرعت عن الفرق الرئيسية. هي ثلاث وسبعون، تفرقت عنها فرق خارجة عن ملة الإسلام لم تسلم قط، فهذه الفرق لا تعد من الفرق الإسلامية؛ لأن الفرق الإسلامية لم يحكم عليها النبي عليه الصلاة والسلام بالكفر، وإنما حكم عليها بالضلال والانحراف الذي استحق الوعيد، فكلها في النار، ولم يقل عليه الصلاة والسلام: كلها في النار خالدة مخلدة فيها أبداً، وإنما قال: (كلها في النار إلا واحدة)، فلا يلزم من دخول المرء النار الخلود فيها أبداً، وإنما دخول النار والخلود فيها بمعنى: المكث الطويل لا الأبدية.

    ولذلك أنت لو راجعت نصوص القرآن الكريم ونصوص السنة المطهرة لوجدت أن لفظ: (خالداً مخلداً فيها أبداً) لم يرد إلا في حق الكفار الأصليين، أما المسلم المنحرف العاصي الذي أتى الكبائر وانحرف عن المنهج فلا تجد إلا خالداً مخلداً، ومعنى (خالد) أي: ماكث مكثاً طويلاً، لكنه في نهاية الأمر لابد أن يخرج من النار ويدخل الجنة؛ لأنه قال في يوم: لا إله إلا الله. ولابد من هذا التأويل حتى تستقيم النصوص ولا يحصل فيها تعارض ولا تناقض.

    قال: [ قال أنس : قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن بني إسرائيل افترقت على إحدى وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة. فقيل: يا رسول الله وما هذه الواحدة؟ -ما هذه الفرقة؟- فقبض يده وقال: الجماعة. فاعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا) ].

    قال: [ عن عوف بن مالك قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، فواحدة في الجنة وسبعون في النار) ] يعني: واحدة في الجنة: وهم الذين تبعوا موسى عليه السلام وعملوا بشرعه واهتدوا بهديه واستنوا بسنته قبل مجيء عيسى عليه الصلاة والسلام. قال: [ (وسبعون في النار، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، فواحدة في الجنة وإحدى وسبعون في النار، والذي نفسي بيده لتفترقن أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، فواحدة في الجنة واثنتان وسبعون في النار. قيل: يا رسول الله! من هم؟ قال: الجماعة) ].

    قال: [ عن أبي عامر عبد الله بن لحي قال: حججنا مع معاوية فلما قدمنا مكة صلينا صلاة الظهر في مكة، قام فقال: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن أهل الكتاب افترقوا على اثنتين وسبعين فرقة، وإن هذه الأمة ستفترق ثلاثاً وسبعين ملة -يعني: الأهواء والنحل- كلها في النار إلا واحدة، وهي الجماعة) ]، ثم قال: [ (إنه سيخرج في أمتي قوم يتجارى بهم كما يتجارى الكلب بصاحبه، فلا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله) ].

    قوله: (وإن هذه الأمة يتجارى بها) أي: يتمادى بها كما يتمادى الكلب بصاحبه، والكلِب بكسر اللام: داء يصيب الكلب، نقول: هذا الكلب مسعور. أو نقول: هذا الكلب غير مسعور. يعني: كلب طبيعي يألف ويؤلف.

    وهناك كلب لا يستطيع حتى صاحبه أن يقترب منه؛ لأن كل من اقترب منه عضه. ومعنى (الكلب المسعور): أنه أصيب بداء في بدنه هذا الداء يسمى الكِلب؛ ولذلك من الأخطاء الشائعة أن يقال: مستشفى الكلب، يعني: يستشفى فيها من عض الكلاب. والصحيح: مستشفى الكلِب. أي: المستشفى الذي يعالج به مرض الكلِب، وليس مستشفى الكلْب.

    فالكلِب داء يصيب الكلب، هذا الداء إذا أصاب الكلب في أي مكان يسري في بدنه سريان الشيطان في الدم، لا يتوقف حتى يعم البدن كله، فالنبي عليه الصلاة والسلام يخبرنا أن الأمة سيصيبها داء يدخل في كل مفصل منها. قال: (إنه سيخرج في أمتي قوم يتجارى بهم -أي: الداء والمرض- كما يتجارى الكلِب بصاحبه، فلا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله).

    بيان أن الأمة لا تجتمع على ضلالة والحث على ملازمة السواد الأعظم

    قال: [ قال أنس بن مالك : قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن أمتي لا تجتمع على الضلالة) ]، والأمة هنا المقصود بها: الجماعة. قال: [ (فإذا رأيتم الاختلاف فعليكم بالسواد الأعظم) ]. هذا الحديث قد صح من حديث عبد الله بن عمر قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا يجمع الله هذه الأمة على ضلالة أبداً. قال: يد الله على الجماعة، واتبعوا السواد الأعظم، فإنه من شذ شذ في النار).

    بيان استمرار طائفة من الأمة على الحق

    نحن نسمع كثيراً من الشباب يقول: أين الحق؟ نحن لا ندري من نتبع، ولا نعرف الحق أين هو. فنقول: هذا لتفريطك أنت وتقصيرك، فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك). انظروا إلى هذا الحديث العظيم جداً. قال النبي عليه الصلاة والسلام فيه: (لا تزال) فاللفظ مضارع يفيد الاستمرار في الحاضر والمستقبل؛ ولذلك من أعظم سمات أهل السنة والجماعة أنها أصيلة وحاضرة ومستمرة. أي: أنهم أصحاب جذور أصيلة، وفي كل واقع هم السواد الأعظم، كما أن الله قد ضمن لهم البقاء إلى قيام الساعة.

    وجماعة أهل السنة جماعة صاحبة أصول ثابتة، وكم جماعات لم تدم إلا سنوات، فقد تسأل عن جماعة: متى أنشئت؟ فيقال لك: قبل عشرين سنة أو ثلاثين سنة، ثم ما تلبث هذه الجماعة حتى تنتهي، وهذا يدل على أنها كانت خاوية وخربة، ولا قيمة لمنهجها؛ لأن قيمة المنهج أن يبدأ قبل الهجرة النبوية، فهذا منهج جذوره ثابتة نزلت من السماء، لم تكن هذه الجذور استنتاجاً عقلياً لواحد من أصحاب القرن الماضي.

    إذاً: منهج أهل السنة والجماعة هو المنهج الأصيل الذي أرسى قواعده النبي صلى الله عليه وسلم، وأي منهج بعده لا عبرة له ولا قيمة.

    إن هذا المنهج الرباني في كل عصر وزمن ومصر له رجال، وهو السواد الأعظم، ولابد أن يكون كذلك، ومن قال بغير ذلك فقد اعتقد بغير ما أمره النبي عليه الصلاة والسلام؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى يأتي أمر الله -أي: الساعة- وهم على ذلك). و(ذلك) اسم إشارة للظهور. يعني: هم ظاهرون في كل عصر ومصر على نفس النهج الأول الذي أرسى قواعده النبي عليه الصلاة والسلام حتى قيام الساعة.

    أعطوني منهجاً من المناهج الموجودة الآن أو قبل الآن ستستمر في الأيام المقبلة، ويشهد لها واحد من أهل السنة والجماعة.

    من خلال ذلك نعلم أن كل هذه المناهج هي نتائج عقلية واجتهادات، منها المقبول ومنها المردود، لكن المقبول الذي يجب قبوله ويحرم رده هو المنهج الأول الذي أسسه النبي عليه الصلاة والسلام، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يجمع الله هذه الأمة على ضلالة أبداً -فالأمة المقصود بها: الجماعة- فإذا رأيتم اختلافاً فعليكم بالسواد الأعظم).

    تجديد دين أمة محمد على رأس كل مائة عام وتكليف هذه الأمة بالدعوة إلى الله

    إن أبا الحسن الأشعري عليه رحمة الله لما تاب من أشعريته ورجع عنها وصعد المنبر قال: إني أختلع من معتقدي كما يختلع هذا السيف من غمده وأنا على مذهب أحمد بن حنبل. فلماذا لم يقل: على مذهب النبي صلى الله عليه وسلم؟ الجواب: لأن مذهب أحمد بن حنبل كان أظهر المذاهب في ذلك الوقت، ومذهب أحمد بن حنبل من الألف إلى الياء مستقى من سنة النبي عليه الصلاة والسلام، فلما وقعت الفتنة العظيمة لـأحمد بن حنبل وثبته الله فيها كتب الله له الظهور والذيوع والنصر والتأييد، فقال كل من يريد أن يظهر دينه وعقيدته: أنا مع أحمد بن حنبل رحمه الله ورضي عنه، فهنا الأمة لا تجتمع على ضلالة قط في العقيدة، إذ لابد أن تكون الحجة ظاهرة لله عز وجل، فخفاء حجة الله تبارك وتعالى في وقت أو في بلد من البلدان مشكلة كبيرة، وبلية عظيمة جداً، ومصادم لجميع النصوص.

    فلابد أن تعتقد أن حجة الله تبارك وتعالى ظاهرة، وما من وقت وما من مكان إلا ويسخر المولى عز وجل عبداً من عباده لإظهار السنة وإحياء الدين ولو على رأس كل مائة عام، فهذا وعد من النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الله تبارك وتعالى يبعث على رأس كل مائة عام من يجدد لهذه الأمة أمر دينها) فالأمة لن تستمر في الضلالة، ولن تبقى في الجهل يغيب عنها الدين ويغيب عنها العقيدة والسلوك والأخلاق ومنهج النبي عليه الصلاة والسلام.

    فعلى رأس كل مائة عام يبعث الله تبارك وتعالى رجلاً يحيي هذا الدين بجميع أوصافه وأركانه وشمائله ومناقبه في قلوب العامة والخاصة، فإذا كادت الأمة تنسى بعث الله تبارك وتعالى على رأس كل مائة عام من يذكرها ومن يعيدها، بالإضافة إلى أن الله تبارك وتعالى كلف هذه الأمة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على خلاف الأمم السابقة، فكان كل نبي يبعث لقومه خاصة ولا يكلف واحداً من أمته بالدعوة إلى دينه وشريعته، لكن ذلك واجب في حق النبي صلى الله عليه وسلم، فإن الله تبارك وتعالى كلفنا بأن نحمل دعوة نبينا عليه الصلاة والسلام حملاً صحيحاً، فقال الله عز وجل: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران:110]. يعني: أنت أيضاً مخرج للناس مبعوث، ومهمتك مثل مهمة النبي عليه الصلاة والسلام، قال تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ [آل عمران:110]، وليس هناك أي أمة سبقت في هذا سواء يهودية أو نصرانية، ولم يكلف واحد من أمة من الأمم السابقة بأن يدعو بدعوة نبيها، وأما نحن فإننا مكلفون جميعاً بأن ندعو الناس إلى الله تبارك وتعالى، وأن نخرج الناس من ظلمات الجهل والكفر والعماية والجهالة والعصبية وغير ذلك إلى الله تبارك وتعالى.. إلى النور، لكن لابد أن يكون ذلك بعلم، أما بغير علم فلا فإن من دعا بغير علم كان ضرره أكثر من نفعه، وكان فساده أكثر من صلاحه، ولذلك يقول المولى تبارك وتعالى على لسان نبيه: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ [يوسف:108] على علم وعلى فقه وورع وعمل بما تعلمت.

    1.   

    حرص الصحابة رضي الله عنهم على التمسك بالجماعة ونبذ الفرقة والاختلاف

    وصية عبد الله بن مسعود للناس بالطاعة والجماعة

    قال: [ قال ابن مسعود رضي الله عنه وهو يخطب: يا أيها الناس! عليكم بالطاعة والجماعة -أي: تمسكوا بالطاعة وتمسكوا بالجماعة- فإنهما السبيل الأصيل إلى حبل الله الذي أمر به، وأن ما تكرهون في الجماعة خير مما تحبون في الفرقة، وأن ما تكرهون في اجتماعكم أحب إلى الله تعالى من تفرقكم ].

    هؤلاء أناس رباهم النبي عليه الصلاة والسلام، فكانوا يفهمون الأمر كله؛ ولذلك نحن نتعبد بهذا الكلام الله تبارك وتعالى إلى أن نموت، فهذا دين رغم أنه من كلام عبد الله بن مسعود . يقول: يا أيها الناس! عليكم بالطاعة. يحث على طاعة الله عز وجل وطاعة رسوله. ثم يقول: وعليكم بالجماعة -أي: تمسكوا بها. قال: فإنهما السبيل- يعني: هما الطريق وكل طريق غير هذا فإنه ليس بطريق- فإنهما السبيل الأصيل إلى حبل الله الذي أمر به. قال: وأن ما تكرهون في الجماعة خير مما تحبون في الفرقة.

    يعني: أحياناً الواحد مع إخوانه الدعاة يخالفهم في الرأي، فإذا كان هذا الاختلاف عن دليل واضح ظاهر فلا ينبغي مخالفته، فإنه على الحق المبين، والآخرين على غير ذلك؛ لأنه معه الدليل، أما إذا كان الاختلاف في الاجتهاد والفهم فيكون الحق مع الجماعة.

    وأنتم تعلمون أن قصر الصلاة في منى وفي مكة في موسم الحج مسنون لكل من كان حاجاً سواء كان من أهل مكة أو من غيرها، ولا تزال الأمة سلفاً وخلفاً يقصرون الصلاة في موسم الحج، ولما جاء عثمان بن عفان رضي الله عنه أتم الصلاة في منى وخالفه عبد الله بن مسعود ، وكان عبد الله بن مسعود في ذلك الوقت إمام الكوفة، فأتى حاجاً في زمن عثمان ، فصلى خلفه في مسجد الخيف الظهر أربعاً والعصر أربعاً، فلما استفتي في ذلك: يا أبا عبد الرحمن . أليس من السنة أن نصلي قصراً؟ قال: بلى. السنة أنك تصلي قصراً. فقيل له: فلم صليت خلف عثمان أربعاً؟ قال: الاختلاف شر. فلو كنت أنا مكان عبد الله بن مسعود سأقف في زاوية من زوايا مسجد الخيف وأحضر كرسياً وأجلس عليه وأقول: أيها الناس! هلموا إلي أنتم تعملون أن الأمر كيت وكيت وكيت، والنبي صلى الله عليه وسلم قصر، وأبو بكر قصر، وعمر قصر، وإن الرجل الذي قصرتم وراءه مبتدع، وأرجو ألا يصلي أحد خلفه! فلو كان عبد الله بن مسعود عمل ذلك، فإنها ستكون فتنة عظيمة جداً في موسم الحج، وربما انشغل الناس بها وتركوا الفريضة. فانظروا إلى حكمة ابن مسعود رضي الله عنه.

    إن عبد الله بن مسعود ترك النصوص الصريحة الصحيحة وتابع عثمان بن عفان ؛ وذلك لأن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، ومن أعظم أغراض الشريعة أنها أتت للحفاظ على المال والحفاظ على العرض والحفاظ على البدن، فلو أننا لم نأخذ برأي عثمان بن عفان في هذا الظرف فإنه سيحصل إهلاك وإفساد لكل ما أتت به الشريعة من المال والعيال والدماء والأرواح.

    وبينما كان ابن مسعود في المدينة مع عثمان بن عفان ؛ رجع عثمان إلى رأيه وسارت الأمور على ما يرام.

    إذا كان النبي عليه الصلاة والسلام سن لنا أربع ركعات أو سن لنا ركعتين فما المشكلة في ذلك؟ خاصة أن مذهب جماهير أهل العلم أن قصر الصلاة ليس بواجب بل هو مسنون إلا ما كان من أبي حنيفة فإنه قال: القصر واجب، فلما نأخذ بمذهب الجمهور فإنه والله العصمة والنجاة، فوالله ما رأينا في مذهب الجمهور قط إلا العصمة حتى في الفروع، والحمد لله تبارك وتعالى. جميع أئمة الدين مجمعون على العقيدة إلا ما كان من البعض في بعض مسائل الخلاف، وهي مسائل معلومة معدودة نتعرض لها بإذن الله تبارك وتعالى، والخلاف فيها لا يبدع به المخالف.

    مثال ذلك: رؤية النبي عليه الصلاة والسلام لله عز وجل في ليلة الإسراء والمعراج، فالسلف أنفسهم اختلفوا فيها، فمنهم من قال: رأى محمد ربه، ومنهم من قال: إنه رأى نوره سبحانه وتعالى.

    فلو قلت: إن محمداً رأى ربه، أو قلت: إنه لم ير ربه فإن لك فيها سلفاً من الصحابة رضي الله عنهم كـابن عباس رضي الله عنهما، وعائشة وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم، فلو اعتقدت أنه قد رآه أو اعتقدت أنه لم يره فإنك لا تبدع بذلك.

    إذاً: المسألة التي اختلف فيها أهل العلم لا يبدع فيها المخالف، ولكن تنجو يا أخي المسلم! باتباع السواد الأعظم، باتباع جماهير علماء الأمة في الاعتقاد وفي الفروع؛ فإن اتباعهم عصمة ونجاة.

    وصية حذيفة وأبي مسعود البدري بلزوم الجماعة

    قال: [ عن سعد بن حذيفة قال: سمعت أبا عبد الله -أباه حذيفة بن اليمان - يقول: والله ما فارق رجل الجماعة شبراً وكان يشير بإصبعيه عند فخذه إلا فارق الجماعة ]. أي: إلا فارق الأمة وخالفها.

    قال: [ قال المسيب بن رافع: سمعت أبا مسعود حين خرج فنزل في طريق القادسية فقلنا: اعهد إلينا. فإن الناس قد وقعوا في الفتنة فإنا لا ندري أنلقاك بعد اليوم أم لا؟ -أي: لعلك تموت في هذه الواقعة- فقال: اتقوا الله واصبروا ].

    والله سبحانه وتعالى يقول: وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ [آل عمران:120]. فهذا هو السلاح الذي يقهر العدو.

    إن أعظم ما يريح العدو أن ترد عليه، وإن أكثر ما يجعله يستشيط غضباً وحنقاً وبغضاً ألا ترد عليه، فأعظم إهانة لعدوك ألا ترد عليه، وهو من الصبر الذي تعبد به الله تبارك وتعالى.

    [ قالوا: اعهد إلينا! فإن الناس قد وقعوا في الفتنة، فإنا لا ندري أنلقاك بعد اليوم أم لا؟ فقال: اتقوا الله واصبروا حتى يستريح بر أو يستراح من فاجر ].

    ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (مستريح ومستراح منه. قالوا: يا رسول الله! ما مستريح وما مستراح منه؟ قال: إن العبد المؤمن إذا مات استراح من الدنيا وتعبها ونصبها، وإن العبد الفاجر إذا مات استراح منه البلاد والعباد والشجر والدواب) حتى الأرض التي يمشي عليها تستريح منه.

    إن الناس لما يتعرضون للفتنة من الفتن لا يصبرون، فتراهم يشكون وكأنهم يتسخطون على الله عز وجل وعلى أقداره، ويتمنون أن لو يتمكنون فينتقمون ممن أساء إليهم، ألا تعلم يا عبد الله! أن ما عند الله خير وأبقى، وأن عذاب الله تبارك وتعالى أعظم من عذابك؟ فسلط لسانك في الثلث الأخير من الليل، اجعل بينك وبين عدوك الثلث الأخير من الليل، وكِّل ربك في هذه الحرب الضروس أن ينتقم لأهل الإيمان ولأهل التوحيد، أما أن تجعل الانتقام إليك أنت فإنك قد أوكلت الأمر إلى نفسك، وأنت ضعيف وهزيل لا تملك نفعاً ولا ضراً.

    قال: [ (اتقوا الله واصبروا حتى يستريح بر أو يستراح من فاجر، وعليكم بالجماعة، فإن الله لا يجمع أمته على الضلالة) ].

    إن العبد ينسلخ من دينه واحدة بواحدة ويظن أن الذي ينسلخ منه هو شيء يسير -وقد يكون كذلك في أول الأمر- ولكن مآله إلى أن ينسلخ من أصل اعتقاده، فتراه يتعرض لضرر أو لمكروه فيبدأ يحلق لحيته، فيجره حلق اللحية إلى معاص كثيرة، ثم يبدأ ينسلخ من الجماعة، وربما -قبل هذا- ينتقل من مسجد السنة إلى مسجد البدعة؛ فيفقد طعم الصلاة وحلاوتها ومذاقها ويفقد فيها الخشوع، ثم يشعر بالضجر والضيق ويقول: صلاتي في بيتي خير من صلاتي في هذا المكان، فيصلي في بيته عند كل أذان، ثم يبدأ يتأخر قليلاً قليلاً حتى يصلي الظهر مع العصر، والعصر مع المغرب، ثم ينام عن الفرض فيصلي الفرضين والثلاثة فروض والأربعة فروض بعد نومه واحدة تلو واحدة، ثم يترك السنن، ثم يترك قيام الليل، وهكذا يبدأ ينسلخ واحدة فواحدة؛ لأنه سلم زمام أمره إلى الشيطان من أول الأمر، فإنه لا يدل على خير وإنما يدل على كل شر.

    ولكن الأفضل لو اتقى الله وصبر ووضع يده في يد إخوانه فإن الله تبارك وتعالى يثبته؛ لأن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، فإن رأى من المرء صدقاً وإخلاصاً وصبراً ثبته وأيده، وإن رأى منه إعراضاً أوكله إلى نفسه، ومن أوكل إلى نفسه هلك.

    قال: [ قال أبو وائل : عن أبي مسعود البدري قال: خرج معه أصحابه يشيعونه حتى بلغ القادسية، فلما ذهبوا يفارقونه قالوا: رحمك الله! إنك قد رأيت خيراً وشهدت خيراً -يعني: أنت أدركت الخير كله مع النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه الكرام الكبار- حدثنا بحديث عسى الله أن ينفعنا به. قال: أجل ]. يعني: سأحدثكم وأنتم قد طلبتم مطلباً عظيماً. [ قال: رأيت خيراً وشهدت خيراً، وقد خشيت أن أكون أخرت لهذا الزمان لشر يراد بي، فاتقوا الله وعليكم بالجماعة فإن الله لن يجمع أمة محمد على ضلالة، واصبروا حتى يستريح بر أو يستراح من فاجر ].

    قال: [ قال حذيفة عند الموت: رب أيام أتاني فيها الموت وأنا كاره له، فأما اليوم فقد خالطت أشياء لا أدري على ما أنا منها. قال: وأوصى أبا مسعود فقال: عليك بما تعرف ولا تتلون في دين الله عز وجل ]. أي: لا تتقلب كل يوم تكون في مكان، كل يوم تكون في معصية؛ لأن من شأن الطاعة أنها تسلم إلى طاعة أخرى، ومن شأن المعصية أنها تفضي إلى معصية أخرى، وكلما تفرط في شيء صغير يجرك هذا التفريط إلى شيء آخر، فإذا كنت في صلاة سلمتك هذه الصلاة إلى صيام، والصيام إلى زكاة، والزكاة إلى أمر بالمعروف، والأمر بالمعروف إلى العمل به، والعمل به إلى النهي عن المنكر، والنهي إلى الانتهاء عنه، فأنت في صراع مع نفسك، فكلما كنت في طاعة فكرت في غيرها فأسلمتك إليها، وإذا كنت في معصية أسلمتك إلى ما بعدها، فكما أن الطاعة تجر إلى مثلها، فكذلك المعصية تجر إلى مثلها.

    1.   

    ذكر بعض صفات الطائفة المنصورة

    قال: [ عن عمير بن هانىء : أن معاوية بن أبي سفيان خطبهم فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تزال من أمتي أمة قائمة) ]. و(من) تفيد التبعيض. يعني: لا يزال بعض هذه الأمة. (قائمة بأمر الله، لا يضرهم خلاف من خالفهم ولا من خذلهم حتى يأتي أمر الله فهم على ذلك). وإذا كنت على حق فلا بد أن يكون في اعتقادك أن المخالف لك لا يضرك ولا يؤثر فيك، فكونك تعتقد أن الحق معك ولكن هذا الحق متأثر بالمناوئين والمخالفين فهذه بلية عظيمة، إذ إن الله تبارك وتعالى جعل لك ألف سبيل لتبليغ دينه.

    إن الدعوة إلى الله لا تكون في المسجد فقط، فمن الممكن أن هذه الدروس التي تلقى أمام المئات لا يستفيد واحد بكلمة منها، ومن الممكن بحديث واحد لرجل في بيته ينتفع به انتفاعاً عظيماً، وهناك من يأتي إلى المسجد مائة عام ولا ينفعه هذا المسجد. أي: لا يتعلم منه، فإن الدعوة الفردية أحياناً تكون أبلغ وأكثر تأثيراً وأعمق في قلب المدعو من الدعوة الجماعية، وشخص منا يكون جالساً في وسط الناس أول شيء يضعه في ذهنه أن هذا الرجل الذي يتكلم يكلم هؤلاء الناس، وينسى أنه يكلمه هو، لكن لما أكون أنا وأنت في بيت ما يصير الكلام مباشراً لك أنت، وأنا لا أعني به أحداً غيرك؛ والله تبارك وتعالى ينفع بالدعوة في كل زمان ومكان، في الشارع في المقاهي في الأسواق في الخمارات والحانات، ينفع الله تبارك وتعالى بها أقواماً.

    قال: [ قال المغيرة : قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا يزال ناس من أمتي ظاهرين على الناس حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون) هذا الحديث عن البخاري ومسلم ].

    وكذلك ورد من حديث عمران بن الحصين : (لا يزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى يقاتل آخرهم الدجال). وفي حديث يزيد : (ظاهرين على من ناوأهم). يعني: من حاربهم وخالفهم، (حتى يأتي أمر الله وينزل عيسى بن مريم). يعني: هذه الجماعة جماعة مباركة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

    قال: [ عن سعد بن أبي وقاص قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا يزال طائفة من أمتي ظاهرين على الدين عزيزة إلى يوم القيامة) ]. وهذه زيادة تدل على أن أهل السنة هم الذين في عزة؛ لأنهم قد استمدوا عزتهم من العزيز تبارك وتعالى.

    فبتمسكك بالكتاب والسنة تستمد عزتك من عزة العزيز تبارك وتعالى، وغيرك الذي ناوأك وخالفك لا عزة له، فإنه ذليل وإن كان في الظاهر أنه عزيز، فهو في الحقيقة من أذل القوم وأحقرهم، ولا خلاق له ولا نصيب لا في الدنيا ولا في الآخرة؛ لأنه لا عزيز له يستمد منه العزة، وأما أنت فإنك تستمد عزتك من عزة الله، وقوتك من قوة الله، ونصرك بتأييد الله، أما هو فإنه لا ناصر له ولا مؤيد له ولا عز له.

    قال: [ عن معاوية بن قرة قال: سمعت أبي يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يزال ناس من أمتي منصورين) ] وهذه أيضاً إحدى السمات أنهم المنصورون حتى وإن كانوا يداسون بالأقدام والنعال، حتى وإن كانت بيوتهم اصطبلات، فهم المنصورون وهم الأعزة. قال: [ (لا يزال ناس من أمتي منصورين، لا يضرهم من خذلهم حتى تقوم الساعة) ].

    و جابر بن عبد الله يقول: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء) هذا الحديث ثبت من غير طريق جاء في رواية أبي هريرة وغيره (فطوبى للغرباء) قيل: هي شجرة في الجنة عظيمة لا يأكل منها إلا الغرباء.

    وهذا الحديث له فقه طويل وقصة عظيمة جداً ينبغي طرحها في محاضرة خاصة ولعل ذلك يكون في درس الجمعة القادم بإذن الله تبارك وتعالى.

    أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

    1.   

    الأسئلة

    بيان أن المعاصي والكبائر لا تخرج أصحابها عن اعتقاد أهل السنة

    السؤال: يسأل البعض عن العصاة من أهل الفسق والفجور، هل هم من عصاة أهل السنة؛ لأنهم لا يختلفون معهم في العقيدة، أم هم خارجون عن هذه الفرقة؟

    الجواب: إن أصحاب الكبائر إذا لم يخالفوا أهل السنة في أصول معتقدهم فإنهم من أهل السنة مع ارتكابهم لهذه الكبائر والمعاصي؛ لأن الكبائر لا تخرج الرجل عن حد اعتقاده إلا إذا صرح بأنه يعتقد بغير معتقد أهل السنة والجماعة.

    فلو أن رجلاً من أهل السنة والجماعة وقع في كبيرة من الكبائر هل يخرج من الفرقة الناجية؟ الجواب: لا. فالنبي عليه الصلاة والسلام أقام الحد على أناس قد زنوا وسرقوا ومع هذا لم يحكم عليهم بأنهم قد خرجوا من هذه الفرقة، بل صلى عليهم لما ماتوا ودفنهم ودعا لهم، وقال عن ماعز الأسلمي : (إني لأراه الآن يسبح في أنهار الجنة) مع أنه زان. وقال عن الغامدية : (قد تابت توبة لو تابها سبعون من أهل المدينة لوسعتهم) أو (لو تابها صاحب مكس لتاب الله عليه). فإن أصحاب الكبائر لا يكفرون بها ولا يخرجون بكبائرهم عن معتقد أهل السنة والجماعة.

    حكم صلاة الجمعة على المسافر

    السؤال: ما الدليل على أن المسافر ليس عليه جمعة؟

    الجواب: يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (ليس على المسافر جمعة).

    حكم الغسل على المرأة إذا أرادت أن تصلي الجمعة

    السؤال: هل يسن للمرأة الغسل إذا ذهبت إلى الجمعة؟

    الجواب: نعم. يسن للمرأة إذا ذهبت إلى الجمعة أن تغتسل إلا ما كان من ابن حزم رحمه الله تعالى، إذ إنه حمل أحاديث غسل الجمعة على من أدرك اليوم لا من أدرك الصلاة، وقد انفرد الإمام بهذا الفهم دون بقية فهم الأمة، فقهاء الملة قالوا بحديث النبي عليه الصلاة والسلام: (غسل الجمعة واجب على كل محتلم) يعني: على كل من بلغ سن الحلم. قالوا: هذا الغسل يسن في حق من وجبت في حقه صلاة الجمعة وأتى إلى المسجد.

    ابن حزم قال: الحديث لا يقصد به إتيان المسجد والصلاة، ولكن كل من أتى عليه يوم الجمعة وهو حي وجب في حقه الغسل؛ لأن الغسل عنده واجب وليس مسنوناً، ولاشك أنه قد خالف في ذلك جماهير العلماء: أن المقصود بالغسل: إتيان الصلاة، وأنه مسنون وليس واجباً؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (من اغتسل يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن لم يغتسل فلا حرج عليه)، وفي رواية: (ومن لم يغتسل فيجزئه الوضوء) يعني: يكفيه الوضوء.

    حكم أخذ مصحف موقوف على المسجد إلى البيت للقراءة فيه

    السؤال: هل يجوز لي أن آخذ مصحفاً من المسجد وهو وقف لله تعالى إلى البيت لأقرأ فيه؟

    الجواب: لا يجوز؛ لأن الوقف على شرط الواقف، فتصور لو أن كل واحد أجاز لنفسه أن يأخذ مصحفاً من المسجد إلى البيت ليقرأ فيه لما بقي في المسجد مصحف واحد، ولما وجد الذي يدخل المسجد مصحفاً يقرأ فيه؛ فلا يجوز صرف الوقف لغير الباب الذي أوقفه عليه صاحبه إلا بشرطين: الشرط الأول: إذن الواقف الأصلي. والشرط الثاني: إذا استغني عن هذا الوقف تحت أي ظرف من ظروف الاستغناء.

    مثال ذلك: مسجد كل ما فيه موقوف عليه: إذاعة وفرش وكتب ومصاحف وغيرها، لكن المسجد هذا نحن نريد أن نهدمه، فالأشياء الموقوفة عليه لا يحق لنا أن نبيعها ونضع نقودها في جيوبنا؛ لأنها ليست من حقنا؛ لأن هذا المال وقف لله عز وجل.

    إذاً: ينتقل إلى مسجد آخر، فإنه ليس هناك مانع عند الواقف أن ينتقل هذا الشيء إلى مسجد آخر، إذ إن هذا الشيء الموقوف على هذا المسجد لا حاجة للمسجد فيه في الوقت الذي يحتاج إليه المسجد المجاور، فيجوز نقله إليه.

    الحكم على بعض الأحاديث المشهورة عند الناس

    حديث: (سلمان منا أهل البيت) موقوف على علي بن أبي طالب ، ضعيف مرفوع.

    وحديث: (رحم الله امرءاً عرف قدر نفسه)، هو كلام الناس وليس حديثاً.

    وحديث: (ولا يلدغ المؤمن من جحر مرتين)، حديث صحيح. وحديث (أن النبي عليه الصلاة والسلام ألقى عباءته على فاطمة وعلي والحسن والحسين رضي الله عنهم وقال: هؤلاء هم أهل بيتي) حديث صحيح. والأمر يحتاج إلى ضبط وليس هذا وقته.

    أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756489429