إسلام ويب

شرح كتاب الإبانة - ذكر الأخبار التي دفعت إلى تأليف الكتابللشيخ : حسن أبو الأشبال الزهيري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لقد جرت عادة أهل العلم رحمهم الله تعالى بالتأليف والتصنيف في الرد على أهل الأهواء والبدع؛ لبيان وزيف باطلهم، وتحذير المسلمين منهم ومن باطلهم، وحتى لا يغتر بهم العامة فيقعون في أكاذيبهم وأباطيلهم.

    1.   

    التحذير من التلون في الدين

    الباب الثاني: وهو ذكر الأخبار والآثار التي دعت ابن بطة رحمه الله إلى جمع هذا الكتاب.

    قال: [أستوفق الله بصواب القول وصالح العمل]، أي: أطلب منه التوفيق والسداد، [وأسأله العصمة من الزلل، وأن يجعل ما يوفقنا له من ذلك واصلاً بنا إليه، ومزلفنا لديه، وأن يجعل ما علمنا حجة لنا وبركة علينا وعلى من عرفنا ومن قصدنا لحمل ذلك عنا، فإنا لله وبه وإليه راجعون، وهو حسبنا ونعم الوكيل].

    فهذا بلا شك أن الدافع لهذا الإمام إلى تصنيف هذا الكتاب: ظهور البدع، فقد أورد في هذا الباب أحاديث ظاهرها وجوب أن يتكلم العالم بما عنده من علم إذا ظهرت الفتن والبدع، لكن هذه الآثار غير صحيحة كما سيأتي.

    قال حذيفة لـأبي مسعود البدري ، وهو عقبة بن عمرو بن ثعلبة الأنصاري ، وليس بدرياً، فهو لم يحضر غزوة بدر، وإنما نسب بدرياً لأنه كان يسكن في مكان يسمى: بدر.

    [قال حذيفة لـأبي مسعود : إن الضلالة حق الضلالة أن تعرف ما كنت تنكر، وتنكر ما كنت تعرف، وإياك والتلون في الدين، فإن دين الله واحد].

    أي: أن الضلال الذي ليس بعده ضلال أن تقول عن الحق إنه باطل، وأن تقول عن الباطل إنه حق، وبعد أن كنت على الحق المبين تتنكب له وتقول: بل هو المنكر الذي ليس بعده منكر، فكثير من الناس يكون على أمر الاستقامة ثم يزيغ وينحرف، لأنه في أصله وأصل هدايته كان صاحب هوى، ثم اعلم أن الناس ينقمون عليه ضلاله وانحرافه عن الطريق الذي سار فيه أولاً، فهو يقول ويسابق: إن الذي كنت عليه لضلال مبين، وما أنا عليه الآن فإنه الحق المبين.

    فهذا تلون في دين الله عز وجل، والله عز وجل لا يخفى عليه شيء من أعمال خلقه ولا من نياتهم، ودين الله تبارك وتعالى واحد لا تلون فيه، والحق فيه واحد، ولذلك نحن نرى أناساً كثيرين بعد أن كانوا ينهجون نهج سلف الأمة رضي الله عنهم أجمعين، تنكبوا وصاروا إلى مذاهب وفرق شتى، زاعمين بأن ما هم عليه الآن هو خير مما كانوا عليه آنفاً.

    وإني لأعجب كل العجب من إنسان بعد أن يتعرف على البخاري ومسلم ، ومن قبلهما: الشافعي ومالك وابن حنبل ، وغيرهم من أهل العلم وسلف الأمة وأصحاب السنن والمصنفات والأجزاء، ثم بعد ذلك كله يتنكب الطريق الحق جرحاً وتعديلاً، ويسلك مسلكاً خلفياً شطحاً، ثم يزعم أن ما هو عليه الآن خير مما كان عليه!

    فكيف يتصور أن صاحب فكر حديث هو خير وأولى بالاتباع من هؤلاء الأعلام الذين ذكرتهم آنفاً؟!

    إما أنه كان سلفياً بجهل ولا يدري ما معنى السلفية أو ما معنى نهج الخلف وسوء الخلف، وإما أنه تظاهر باتباع السلف وفي حقيقة الأمر قلبه قد امتلأ هوى، فإن مضى وأتيحت له الفرصة ترك وتخلى عن مذهب السلف وانتهج نهج الخلف.

    قوله: (إن الضلالة حق الضلالة: أن تعرف ما كنت تنكر، وتنكر ما كنت تعرف، وإياك والتلون في الدين، فإن دين الله تعالى واحد).

    ولذلك فإن انحراف هؤلاء الذين ينحرفون عن الصراط المستقيم أمر حتمي لابد منه؛ حتى يتميز الحق من الباطل، والطيب من الخبيث، وحتى نعلم الصادق من المنحرف والمتلون، ومع ذلك فهو أمر لا يرضيني شخصياً، فإذا كان الإمام على الاستقامة ثم انحرف فهذا له دلالة عندي قد استخلصتها من عند السلف ومن خلال السلف، وهي: أنه لم يكن على المنهج أصيلاً، وإنما كان دخيلاً جاهلاً، أو صاحب هوى كما قلت، وتركه لهذا المذهب الناصع البياض السليم الصحيح، واختياره لمذهب الخلف ظاهرة سطحية، حتى يتميز الحق من الباطل، والطيب من الخبيث.

    [وقال عدي بن حاتم : إنكم لن تزالوا بخير ما لم تعرفوا ما كنتم تنكرون، وتنكروا ما كنتم تعرفون، وما دام عالمكم يتكلم بينكم غير خائف].

    أي: لا تزال الأمة بخير إذا كان عالمها يتكلم وهو مطمئن لا يخاف السلطان وبطشه، أما إذا خاف العالم أن يتكلم من السلطان وظلمه وقهره، فإن الأمة لاشك قادمة إلى الهاوية.

    [وقال الحكم بن عمير -وإن كان الحديث ضعيفاً جداً- وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (الأمر المفظع، والحمل المضلع، والشر الذي لا ينقطع: إظهار البدع)]، وهذا الحديث لا نعول عليه لنكارته.

    [قال ابن بطة رحمه الله: فنعوذ بالله من الحور بعد الكور، ومن الضلالة بعد الهدى، ومن الرجوع عن الحق والعلم إلى الجهالة والعمى].

    1.   

    لا أسوة في الشر

    [وعن ابن مسعود قال: إذا وقع الناس في الشر خيل لك في الناس أسوة في الشر]، أي: إذا استشرى الشر وانتشر حتى لم يكن في المجتمع غيره، تصور الناس أن الأسوة في هذا الشر، ولذلك إذا نقدت أي إنسان الآن في ضلالة هو عليها أو في بدعة هو عليها يقول: كل الناس هكذا، فهل يتصور أن هذه بدعة والناس يعملون بها، ومطبقون عليها منذ زمن بعيد؟ وهل يتصور أن يكون هذا هو الباطل، وأن ما تأتيهم به الآن هو الحق؟ نعم هذا متصور.

    ولذلك أنكر مجتمع قريش دعوة النبي صلى الله عليه وسلم أول ظهورها؛ لتصورهم أنهم على الحق المبين.

    قال: إذا وقع الناس في الشر فقل: لا أسوة لي في الشر، وإنه لا أسوة في الشر، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا أسوة في الشر)، وإن أجمع الناس وأطبقوا على استمرار الباطل ورد الحق، فإن هذا لا يجعل الباطل حقاً، ولا يجعل الحق باطلاً.

    [وعن عبد الله بن مسعود قال: ليوطنن المرء نفسه على أنه إن كفر من في الأرض جميعاً لم يكفر]؛ لأن كل واحد سيأتي ربه فرداً، ويسأل فرداً لا علاقة له بالناس، وأن الناس لا يدافعون عنه ولا يدفعون له بين يدي الله عز وجل.

    قال: [ولا يكونن أحدكم إمعة، قيل: وما الإمعة؟ قال: الذي يقول: أنا مع الناس]، أي: إن أحسنوا أحسنت، وإن أساءوا أسأت، ولكن وطنوا أنفسكم، إن أحسن الناس فأحسنوا، وإن أساءوا فلا تسيئوا، أي: وإن أساءوا فلا تتبعوا إساءتهم.

    قال: [إنه لا أسوة في الشر]، وإن أطبق الناس على عمل الشر، وقول الشر، واعتقاد الشر، فإنه لا علاقة لك بالناس، وإنما علاقتك بالحق المبين، الذين نزل من السماء على قلب رسولنا الأمين صلى الله عليه وسلم.

    1.   

    فضيلة التمسك بالدين في هذا الزمان

    [وعن أنس بن مالك قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (يأتي على الناس زمان الصابر منهم على دينه له أجر خمسين منكم)، حتى أعادها ثلاث مرات].

    وهذا الحديث ضعيف، وربما يكون فيه شيء من النكارة؛ لأن الواحد منا مهما عمل ومهما بلغ عمله، فإنه لا يمكن أن يؤدي معشار ما أداه واحد من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، ولذلك قال في الصحيح: (لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده! لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه).

    والحديث الصحيح الذي رواه ابن ماجة والترمذي [وعن أنس رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يأتي على الناس زمان الصابر منهم على دينه كالقابض على الجمر)].

    وهو حديث عظيم جداً، إن لم يكن يتناسب مع واقع المسلمين اليوم فهو على أي حال يكاد ينطبق على حالهم غداً؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (لا يأتي زمان إلا والذي بعده شر منه)، أي: لا يأتي عليكم زمان ولا يوم ولا عام ولا شهر ولا أسبوع إلا والذي بعده شر منه.

    فهذا الحديث فيه إيحاء بفضيلة من تمسك بدينه في هذا الزمان والأزمنة المتعاقبة التي تتلو هذا الزمان، وأن المتمسك القابض على دينه كالقابض على جمرة من نار، والذي يقبض على جمرة من نار يوشك أن تحرقه أو تحرق ثيابه فتخلص إلى جلده، وهكذا القابض على دينه في هذا الزمان، ويكفي أنهم الغرباء، والكثرة الكاثرة غالباً ليست الغريبة، وإنما الغريب هو القليل النادر، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (بدأ الإسلام غريباً)، أي: بدأ وظهر الإسلام في ثلة مؤمنة عظيمة، لكنها قليلة في وسط قوم وأمة تعج بالفساد والشرك وعبادة الأصنام والأوثان.

    ولذلك اتهموا النبي عليه الصلاة والسلام بأنه شاعر، وأنه مجنون، وأنه ساحر، وأنه تعلم هذا من كتب السابقين، وغير ذلك من الشبه، وإن شئت فقل: افتراءات وكذبات قد ورد الرد عليها في كتاب الله عز وجل، إذ إن الله تبارك وتعالى قد رد وذب عن نبيه أيما رد وذب، وهنا إثبات الغرابة في أول أمر الإسلام، ثم بعد ذلك تنقض عرى الإسلام عروة عروة حتى يترك الناس دينهم أو جل دينهم، فإذا قامت فئة فتمسكت بالدين ظاهراً وباطناً أصولاً وفروعاً؛ كانوا هم الغرباء؛ لأنهم يحيون في الناس سنناً قد ماتت عندهم، وفرائض قد أهملوها، ولذلك يقول عنهم المجتمع الكثير: إنهم غرباء، وإنهم شواذ، وإنهم فئة قليلة، لكنها تغلب فئة كثيرة بإذن الله.

    1.   

    بشارة النبي عليه الصلاة والسلام للغرباء في آخر الزمان

    [قال النبي عليه الصلاة والسلام: (بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء)]، هذه بشارة لأهل الالتزام الصابرين على دينهم صبر من أخذ بيديه جمرة فقبض عليها، [(قيل: يا رسول الله! ومن الغرباء؟ قال: الذين يصلحون عند فساد الناس).

    قال الشيخ ابن بطة: جعلنا الله وإياكم بكتاب الله عاملين، وبسنة نبينا صلى الله عليه وسلم متمسكين، وللأئمة الخلفاء الراشدين المهديين متبعين، ولآثار سلفنا وعلمائنا مقتفين، وبهدي شيوخنا الصالحين رحمة الله عليهم أجمعين مهتدين، فإن الله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه، قد جعل في كل زمان فترة من الرسل، ودروساً للأثر]، فجعل الله تبارك وتعالى بين كل نبيين فترة من الزمن، يقتفي فيها الآثار حتى يتميز الناس بمن كان متبعاً لآثار من مضى عمن انحرف عن طريق الأنبياء السابقين، وكل فترة بين نبيين تسمى بالفترة، وأهل الفترة إن ماتوا في هذا الزمان -أي: في مدة الفترة- فكانوا متبعين لآثار من مضى من الأنبياء، فإنهم من أهل الجنة، وهم المؤمنون حقاً، أما من ترك آثار الأنبياء السابقين ومات في الفترة فإنه يموت على الكفر.

    قال: [قد جعل الله في كل زمان فترة من الرسل، ودروساً للأثر، اقتفاء للآثار، أي: أن الله تعالى بلطفه بعباده، ورفقه بأهل عنايته، ومن سبقت له الرحمة في كتابه، لا يخلي كل زمان من بقايا من أهل العلم وحملة الحجة، يدعون من ضل إلى الهدى، ويذودونهم عن الردى -أي: يدفعونهم عن الردى- ويصبرون منهم على الأذى، فيحيون بكتاب الله الموتى، ويبصرون بعون الله أهل العمى، وبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الجهالة والغباء]، أي: والغباء.

    1.   

    حديث: (يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله)

    [وعن إبراهيم بن عبد الرحمن العذري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله)]، أي: يحمل هذا العلم من كل جيل ومن كل عصر عدوله.

    والإمام أبو حنيفة ذهب إلى أن كل من طلب العلم، ودعا إلى الله عز وجل فهو عدل؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم (يحمل هذا العلم)، أي: العلم الشرعي (من كل خلف عدوله)، يقومون بهذه المهام.

    قال [(ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين)].

    أما غيره من أهل العلم فإنهم لم يستفيدوا من هذا الحديث أن كل من حمل العلم عدل، فمن أهل العلم من هو من أفسق الناس وأفجر الناس، وليس بلازم أن كل من طلب العلم أو حمله يكون عدلاً ثقة، بل الواقع يؤيد أنه ليس كل من طلب العلم عدلاً، وإذا كان الأمر كذلك فهل يتصور أن أول من تسعر بهم جهنم العدول؟! وأنتم تعلمون الحديث: (إن أول من تعسر بهم جهنم ثلاثة: العالم)، أي: المرائي في علمه الذي طلبه لغير الله، وهذا يدل على أنه ليس كل من طلب العلم عدلاً، وأن من راءى في طلب العلم ليس من العدول، وأن من لم يعمل بعلمه ليس من العدول، وأن من باهى وفاخر وسمَّع وراءى بعلمه ليس من العدول، مع ما هو عليه من علم.

    لكن ترد على الأحناف في ادعائهم أن النبي عليه الصلاة والسلام عدل أهل العلم وحملة العلم وطلاب العلم، أن ذلك مشروط بثلاثة شروط قد وردت في نفس الدليل الذي اعتمد عليه الأحناف.

    قال: [(ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين)، أي: أن العالم العدل في كل زمان هو: من حمل العلم أولاً، أي: تعلم وعرف المسائل العلمية الشرعية بأدلتها من كتاب الله وسنة رسوله وإجماع أهل العلم، وعمل بذلك لله تبارك وتعالى رغبة ورهبة، فهذا هو العالم حقاً.

    أما كونه عمل بذلك للناس، فإن هذا العمل إما أن يكون لنفسه، أو يكون متعدياً إلى الغير في الدعوة إلى الله، وهو مع هذا في ليله ونهاره يهتم ويغتم بالرد على انتحال المبطلين، أي: من انتحل نحلة زاغ بها عن نحلة الإسلام، وعن هدي الإسلام، وعن طريق الإسلام، إذ إن الإسلام واحد، ودين الله تبارك وتعالى واحد، وسنة النبي عليه الصلاة والسلام واحدة، وهديه واحد معروف لدى السلف، فمن انحرف عن مذهب السلف تصدى له أهل العلم الذين حملوه لبيان الحق له، وإثبات الباطل الذي انتحله، فهذا بلا شك من علماء الإسلام.

    قال: (ينفون عنه: تحريف الغالين، وانتحال المبطلين)، والغالون: هم المتنطعون المتهوكون المتشدقون الذين يلوون أعناق النصوص، ويحرفون الكلم عن مواضعه، ويلوون ألسنتهم بالدليل كما تلوي الأبقار ألسنتها؛ تجليلاً للباطل الذي هم عليه، وتحريفاً للكلم عن مواضعه.

    والغالون جمع غال، وهو الذي يتنطع في دين الله عز وجل، إما بإدخال أشياء ليست في دين الله عز وجل عليه، أو بنقصان أشياء من الدين، فإن أدخل هذا المتنطع زيادة في دين الله عز وجل وجب الرد عليه بترك هذه الزيادة والرجوع إلى الأصل؛ لأنه ربما فهم كلام الله تعالى وكلام رسوله عليه الصلاة والسلام على غير ما فهمه سلف هذه الأمة، وكثير من أصحاب البدع إنما مردهم ومستندهم هو إلى الله ورسوله، وهل يتصور أن أهل البدع أثاروا البدعة وهم يعلمون ويوقنون بأنهم على الباطل المبين؟!

    لا يتصور ذلك إلا في الباطنية وفرق الشيعة، فإنهم يعلمون أنهم على الباطل المبين، وخاصة غلاتهم، أما أن الإنسان يقرأ في كتاب الله عز وجل، فتضربه آية في أم رأسه فيتوقف عندها ويبني عليها أقوالاً وأعمالاً دون أن يرجع إلى شراح كلام الله عز وجل وما يختص به، ودون أن يرجع إلى شراح سنة النبي عليه الصلاة والسلام، ويفهم فهماً لوحده لم يسبقه أحد من علماء الأمة، ثم يزعم بعد ذلك أن هذا هو دين الله عز وجل؛ فإنه لابد من الرد عليه وإثبات أنه ليس على شيء، وأن ما هو عليه ليس صحيحاً؛ لأن السلف هم أولى الناس بكلام الله عز وجل وكلام رسوله الكريم، وهم أبلغ الناس وأفصح العرب، ومع هذا لم يفهموا ما فهمه هذا الذي يقرأ في كتاب الله عز وجل.

    ولذلك يقول الشاعر:

    وكل يدعي وصلاً لليلى وليلى لا تقر لهم بذاكا

    أي: كل يدعي أنه محب لليلى، لكن القضية تكمن في محبة ليلى لهؤلاء أو لواحد منهم؛ لأنها ستحار حينئذ، فكل يقول: منهجي ودليلي هو الكتاب والسنة، وفي حقيقة الأمر ليس هذا هو الفيصل، إنما الفيصل كتاب الله تعالى وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام بفهم سلف الأمة، أما أهل البدع إذا خاصموا في قضية ما فإنهم يحتجون عليك بقال الله وقال رسوله، لكن الفيصل بينك وبينهم: أنك تفهم قول الله وقول رسوله من واقع فهم سلف الأمة، وهم يفهمون قال الله وقال رسوله من واقع أفهامهم وعقولهم.

    1.   

    منزلة العلماء وفضلهم على الناس

    حديث (لا يزال على هذا الأمر عصابة ...)

    قال: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يزال على هذا الأمر عصابة من الناس لا يضرهم من خالفهم حتى يأتيهم أمر الله)].

    أي: لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق قولاً وعملاً، لا يضرهم في ذلك من خالفهم حتى يأتي أمر الله -أي: الساعة- وهم ثابتون قائمون عاملون بقول الله تعالى وبقول رسوله الكريم، مظهرون لهذا الحق على مراد الله وعلى مراد رسوله مهما انتفش الباطل؛ لأن الباطل لا يدوم بل يزول سريعاً، أما الحق لما كان واحداً فهو ثابت، إذ إن له أهلاً يحفظونه في كل زمان ومكان، فيلزمون الوحي حتى يرث الله تعالى الأرض ومن عليها.

    حديث (لا تزال طائفة من أمتي ...)

    [وقال سعد بن أبي وقاص : قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الدين عزيزة إلى يوم القيامة)]، فوصفهم بأنهم ثلة قليلة -وهذه بشارة لك- وهذه الثلة ظاهرة على الحق، أي: أن معها الحق وتدعو إليه، وهو أعلى من الباطل، وأنها تكتسب العزة بتمسكها بهذا الدين، ولذلك قال: (عزيزة)، أما باطل هؤلاء فإنه لا يمكن أبداً أن يبقى في أهل الحق؛ لأن الحق حق، وأهل الباطل يعلمون أنك على الحق وإن سخروا بك واستهزءوا بك وحاربوك، بل ولو قتلوك فإنهم يعلمون يقيناً أنك على الحق المبين: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ [النمل:14].

    حديث (من جاءه الموت وهو يطلب العلم ...)

    وجاء في حديث مرفوع: [(من جاءه الموت وهو يطلب العلم يحيي به الإسلام لم يكن بينه وبين الأنبياء في الجنة إلا درجة)] هذا كلام مرفوع نصه، والنص ضعيف، ولا يقال من قبل الرأي؛ لأن هذا إخبار عن غيب، والإخبار عن الغيب لابد أن يكون من الثبوت والصحة بمكان، وليس الأمر هنا كذلك.

    [وقال وهب بن منبه : الفقيه العفيف الزاهد المتمسك بالسنة؛ أولئك أتباع الأنبياء في كل زمان].

    ومن كان بهذه الخصال وهذه الصفات فإنه يكون حقاً متبعاً لآثار من مضى، أما إذا تخلف عنه شيء من ذلك ففيه من الانحراف عن آثار أنبيائهم على قدر ما فيه من الخلل.

    [قال الشيخ ابن بطة : جعلنا الله وإياكم ممن أعز أمر الله فأعزه، وأبقى لله فكفاه، ولجأ إلى مولاه الكريم فتولاه].

    أثر سفيان (أفضل الناس منزلة ...)

    [وقال سفيان بن عيينة : أفضل الناس منزلة يوم القيامة من كان بين الله وبين خلقه].

    وقد جاء نحو هذا الكلام عن غيره، والذي بين الله وبين خلقه هم الأنبياء وورثتهم من العلماء، إذ إن العلماء هم ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر، ولذا فالعلماء هم في الدرجة الثانية بعد الأنبياء.

    وهم الواسطة بيننا وبين الله بعد موت نبينا عليه الصلاة والسلام، وهم المبينون والمفسرون والموضحون لكلام الله عز وجل، وهم الذي يأخذون بنواصي العباد إلى الله عز وجل، ولذلك هم أشرف الخلق عند الله عز وجل إذا كانوا عاملين بعلمهم.

    أثر ربيعة (الناس في حجور علمائهم ...)

    [وقال مالك بن أنس : سمعت ربيعة بن عبد الرحمن -وهو المعروف بـربيعة الرأي - يقول: الناس في حجور علمائهم كالصبيان في حجور آبائهم].

    أي: يسلمون لهم، فأنك لو أخذت طفلك الرضيع فوضعته في حجرك وألقيت في فمه سماً ابتلعه، ولو ألقيت في فمه لبناً رضع، وهكذا العلماء، فالناس في حجورهم وبين أيديهم كالصبية والغلمان الصغار بين أيدي آبائهم.

    بل أمر العلماء أخطر وأجل؛ لأن الأب غالباً يغذي الأبدان، أما العلماء فهم الذي يغذون الأرواح، ويغذون العقول ويفتحونها إما بالخير وإما بالشر، فإن كان بكتاب الله وسنة رسوله فهو خير، وإلا فلا خير في غير هذين المصدرين.

    أثر سلمة بن سعيد (العلماء سرج الأزمنة)

    [وقال سلمة بن سعيد: كان يقال: العلماء سرج الأزمنة].

    أي: نور الأزمنة.

    [فكل عالم مصباح زمانه، فيه يستضيء أهل عصره، وكان يقال: العلماء تنسخ مكائد الشيطان]، وهو كذلك، إذ إن العالم في قرية ما كالعين التي تنبع بالماء، بل هو أحسن وأجل؛ لأن هذه العين التي تنبع بالماء تغذي أبدانهم وزروعهم وغير ذلك، أما العالم فإنه يغذي العقول والأرواح، ويأخذ بنواصي العباد إلى ربهم تبارك وتعالى.

    وكذلك وجود العالم في قرية ما دليل على صلاحية هذه القرية، وعلى خيرية هذه القرية، وذهاب الناس في القرية إلى هذا العالم يستفتونه في أمور دينهم، دليل على خيرية هؤلاء، أما قرية بغير عالم فهي قرية تتخبط في ظلمات الغي والضلالة، وإن الواحد منهم إذا احتاج ليستفتي في مسألة ربما ركب المواصلات الطويلة حتى يجد عالما يفتيه في مسألته؛ لأن القرية ليس فيها عالم، وهي آثمة كلها؛ لأنهم لم يفرغوا من بينهم واحداً يطلب العلم، فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ [التوبة:122].

    وهنا يجب على كل طائفة من الناس أو قرية أو بلد إذا لم يكن فيها عالم أن يخصصوا رجلاً من أهل النباهة ليتعلم العلم في مكان يظهر فيه العلم، ثم يرجع إليهم عالماً يفتيهم في أمور دينهم وربما دنياهم.

    [قال الشيخ ابن بطة: جعلنا الله وإياكم ممن يحيي به الحق والسنن، ويموت به الباطل والبدع، ويستضيء بنور علمه أهل زمانه ويقوي قلوب المؤمنين من إخوانه.

    [وعن سلمان أنه قال: لا يزال الناس بخير ما بقي الأول حتى يعلم الآخر، فإذا هلك الأول قبل أن يعلم الآخر هلك الناس].

    بل مثل هذا الكلام ثابت من حديث النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: (البركة مع أكابركم، ولا يزال الناس بخير ما أخذوا العلم عن كبارهم، فإذا أخذوه عن صغارهم فقد هلكوا).

    وقال ابن المبارك عليه رحمة الله: ليس الصغير صغير السن، وإنما الصغار هم أهل البدع. أما صغير يؤدي إلى كبير؛ فليس بصغير على الحقيقة، إنما الصغير من انحرف عن الجادة وإن كان كبيراً في السن، والكبير من عرف الحق بأدلته، وعلم الناس وعمل بذلك، فهو الكبير وإن كان حديث السن، ومجلس عمر رضي الله عنه كان مكتظاً بالشباب والكهول، وكان عمر يقول للشباب: لا يحقرنكم حداثة أسنانكم على ألا تشيروا برأيكم.

    والنبي عليه الصلاة والسلام كما في حديث أبي سعيد الخدري قال: (ستفتح لكم الأرض، ويأتيكم غلمان يتعلمون العلم، فإذا جاءوكم فعلموهم، والطفوا بهم، ووسعوا لهم في المجالس)، ولذلك كان أبو سعيد إذا أتاه غلام أو غلامان قال: مرحباً بوصية النبي صلى الله عليه وسلم، أما ما نراه الآن على شاشات التلفزيون تحت باب الحفاظ على الدين من الداخلين فيه بغير مؤهل، فهذا باطل ومنكر من القول.

    العلم قال الله قال رسوله قال الصحابة ليس بالتمويه

    ما العلم نصبك للخلاف سفاهة بين الرسول وبين قول فقيه

    فالعلم يكمن في قال الله قال رسوله، سواء كان قائله أزهرياً أو غير أزهري، حتى ولو كان صاحب حرفة حدادة أو نجارة أو غيرها، والأنبياء صلوات ربي وسلامه عليهم والصحابة والأئمة، وعلماء المسلمين شرقاً وغرباً، لم يتخرجوا من الأزهر، بل جل من تخرج من الأزهر لا يصلح أن يكون داعية لنفسه قبل أن يكون داعية لله عز وجل يدعو الناس، مع إيماننا الجازم بأن الأزهر قد خرَّج رجالاً قل أن تجد في الخلق مثلهم في العلم والعمل والديانة والورع والنسك وغير ذلك، أما جل الأزهريين فإنهم لا يصلحون لأنفسهم قبل أن يصلحوا لغيرهم، وهذه خطوة أو حلقة في سلسلة طويلة مردها ومآلها: القضاء على كتاب الله وسنة رسوله الكريم.

    1.   

    الالتزام على منهج صحيح من أعظم النعم على العبد

    قال: [إن من نعمة الله على الشاب إذا تنسك أن يوافي صاحب سنة يحمله عليها]، ولذلك ورد عن كثير من السلف أنهم قالوا: لا ندري أي الاثنتين أعظم: أن من الله علينا بالإسلام، أو أن جعل لنا في الإسلام سنة؟ وهذا كلام جدير بأن يكتب بماء الذهب، وبلا شك فإن الإسلام أعظم وأجل، لكن هذا كلام خرج مخرج بيان أفضلية اتباع الحق، أو المبالغة في إثبات أن الحق أولى بأن يتبع.

    ولذلك فإن من أعظم نعم الله على الشاب أنه إذا التزم التزم على يد دعوة صحيحة سليمة لا شك فيها، وهنا أصحاب الأهواء يكثرون التدخل والجدل من جماعة إلى جماعة، ومن طائفة إلى طائفة، ومن فرقة إلى فرقة، بخلاف من وفق أولاً إلى طريق السلف رضي الله تبارك وتعالى عنهم، وهذا بخلاف الآخر، فقد مر على جماعة واثنتين وثلاث وأربع وعشر، وفي كل جماعة يدرس ولم يقتنع، فيتحول إلى جماعة أسوأ، منها حتى استقر به المقام على منهج السلف بعد أن بلغ من العمر أرذله.

    وعلى أي حال فمن الخير أن يختم له بالعمل الصالح وبمنهج سليم.

    قال: [من نعمة الله على الشاب والأعجمي إذا نسك أن يوافق لصاحب سنة يحملهما عليها؛ لأن الأعجمي يأخذ فيه ما سبق إليه]، وليس الأعجمي فقط فكذلك العربي، والأعجمي هو كل إنسان لا يحسن اللسان وإن كان عربياً، والعربي هو كل من يحسن العربية وإن كان أعجمياً.

    لذا فهو يريد أن يقول: إن العجم الذين لا يفهمون العربية، يتبعون في الغالب من يدعوهم إلى الإسلام، فإذا دعاهم الشيعة دخلوا في الإسلام على مذهب الشيعة، وإذا دعاهم الخوارج دخلوا في الإسلام على مذهب الخوارج، وأنا أقول: وهكذا العوام الذين لا علاقة لهم بدينهم ولا بالعلم الشرعي، فأول من يدعوهم إلى الالتزام يتبعونه، وأنتم ترون أن هذه الجماعات المترنحة على الساحة، إذا دعت إنساناً لا علاقة له أصلاً بالعلم الشرعي ولا بالدعوة، فإنما يكون مذهب هذا المدعو هو مذهب من دعاه، ويصعب جداً خلعه من هذا المذهب؛ لأنه يرى أن لهؤلاء الفضل عليه بعد أن كان غارقاً في أوحال المعصية، ولا شك أن هذا خير، لكن ليس هو الخير المحض، بل هو خير فيه شر.

    ولذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى: إن من لقي الله تبارك وتعالى ممن دعي إلى الإسلام على منهج الخوارج، خير له من أن يلقى الله تعالى كافراً كفراً بواحاً، وإن من لقي الله تبارك وتعالى من الروافض -أي: أسلم على مذهب الروافض- خير له من أن يلقى الله تعالى كافراً كفراً بواحاً. وهذا الكلام في غاية المتانة، وهو كلام محترم جداً، لكن ليس معنى ذلك أنه يدعو للرفض أو للخروج أو غير ذلك، وإنما نقول كما قال ابن تيمية وابن القيم وغيرهم من أهل العلم: إن من لقي الله تبارك وتعالى على بدعة أو معصية خير من أن يلقى الله تعالى كافراً كفراً بواحاً؛ لأن الكافر مخلد في النار بخلاف صاحب البدعة، فإن لم تكن مكفرة فإنه لا يخلد في النار، بل إذا دخلها خرج منها لا محالة.

    ولذلك يقول: إن من نعمة الله على الشاب إذا نسك أن يوافي صاحب سنة -أي: أن يصاحب صاحب سنة- يحمله عليها ويدعوه ويلهمه بها.

    [وقال عمرو بن قيس الملائي : إذا رأيت الشاب أول ما ينشأ مع أهل السنة والجماعة فارجه -أي: ارج خيره- وإذا رأيته مع أهل البدع فايئس منه، فإن الشاب على أول نشوئه]، حتى ولو تاب، فإنك لو أتيت إلى صاحب بدعة في هذا الوقت قد تاب منها، فتنظر إليه فتجده لا يزال واقفاً على أشياء كبيرة ظاهرة فيه.

    وأذكر أنه في سنة (1981م) كان هنا شخص من إيران يدرس في كلية دار العلوم، وهو شيعي رافضي، وكان صاحباً لي، فزارني في بيتي في المنصورة ذات يوم بعد أن ترك مذهب الرفض عاماً كاملاً، وتفقه عندي أكثر من عشرين يوماً، وكنا نتدرب على مصطلح الحديث، فقلت له: ماذا تقول في ثورة الكذاب الخميني ؟ قال: الخميني ليس بكذاب، إنما الكذاب أبو بكر وعمر ! وقال: لا يسب أحد الإمام الخميني ونتركه! فقلت له: ألم تدع مذهب الرفض؟ قال: نعم، لكن الذي تتكلم به غيبة على الخميني ، فقلت له: وأنت قابلت غيبة الخميني بالطعن في هذين الإمامين العظيمين؟

    قال: وهل إمامة أبي بكر وعمر محل اتفاق عند أهل السنة؟ قلت: نعم محل اتفاق عند أهل السنة، قال: لا، أهل السنة إمام إيران! فتأمل رجوعه، رجع إلى الحور بعد الكور، مرة أخرى لمجرد أنك طعنته في مشاعره، إذ إنه أول ما يسمع الخميني يقول لك: إلا هذا!

    ونترك العجم ونتكلم عن العرب: جماعة التكفير -وهم خوارج العصر- يجمعون أنفسهم إلى الآن بعد أن دخلوا السجون وخرجوا منها، وتجدهم جميعاً على قلب رجل واحد، وإذا دخل بينهم رجل لم يكن منهم حاولوا جاهدين خلعه كما يخلع أحدنا ضرسه؛ لأن ولاءهم لبعضهم وليس لغيرهم، وهكذا كل صاحب بدعة لا تزال البدعة تؤثر وتعمل في قلبه عملاً عظيماً وإن تظاهر بغير ذلك، ونحن لا ننفي قط أن من أهل البدع سابقاً من استقام على الجادة، وهو أفضل وخير مني عند الله عز وجل، لكنا نتكلم عن مدى تأثير البدعة في القلوب غالباً، وإلا فمن الناس من تاب وحسنت توبته، وكان أحسن مما كان بمئات المرات، ونحن نعرف منهم من ينحرف عند الضرورة، وكذلك نعرف منهم من يقدم دين الله تعالى على نفسه وأبنائه وامرأته، وعلى كل غال ورخيص في حياته، نعرف هذا ونعرف ذاك.

    لكن على أي حال، من نعم الله عز وجل عليك أن تنشأ على السنة، وأن تنشأ على المنهج الصحيح، أما أن تنشأ على البدعة فيصعب جداً بعد ذلك التخلص منها.

    [قال عمرو بن قيس : إن الشاب لينشأ، فإن آثر أن يجالس أهل العلم كاد أن يسلم، وإن مال إلى غيرهم كاد يعطب]، أي: إن الشاب في حين نشأته إذا مال إلى مجالس العلم وأهل العلم، وصحبة طلاب العلم، فهذا فيه خير عظيم جداً يرجى، وكاد أن يسلم في دينه، وإن مال إلى غير أهل العلم من أصحاب البدع، فاعلم أنه ديوث منهم، وهو إنسان عاطل.

    قال الشيخ ابن بطة: [فانظروا رحمكم الله من تصحبون وإلى من تجلسون، واعرفوا كل إنسان بخدنه، وكل أحد بصاحبه، أعاذنا الله وإياكم من صحبة المفتونين، ولا جعلنا وإياكم من إخوان العابثين، ولا من أقران الشياطين، وأستوهب الله لي ولكم عصمة من الضلال، وعافية من قبيح الفعال.

    1.   

    الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على كل قادر

    [وعن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (والله لأن يهدي الله بهداك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم)]، وهذا فيه أعظم حافز لدعوة الناس إلى الله عز وجل، حتى ولو كانت ثمرة الدعوة على مدار الأعوام العديدة واحداً، (لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تلقى أخاك بوجه طليق).

    ويقول النبي عليه الصلاة والسلام: (اتقوا النار ولو بشق تمرة).

    وذهب النبي عليه الصلاة والسلام ليزور طفلاً يهودياً في مرض موته ليدعوه، فلما ذهب إليه النبي عليه الصلاة والسلام دعاه إلى الحق، وإلى طريق الإسلام، فنظر الغلام إلى أبيه فقال أبوه: (يا غلام! أطع أبا القاسم، فنطق الغلام بالشهادتين، فخرج النبي عليه الصلاة والسلام ووجهه يتهلل ويقول: الحمد لله الذي أعتق بي رقبة من النار)، أي: رقبة واحدة.

    فالدعوة إلى الله عز وجل واجبة على كل قادر عليها، أما النتيجة فهي على الله عز وجل، وإن قلت ثمرتها فإنه لا حرج في ذلك، والسلف رضي الله عنهم كانوا يأتون بكلمات ثم لا ينتظرون النتائج وكانوا يفعلون ما أمروا به؛ لأنهم يعلمون أن ثمرة هذا الكلام وهذه الدعوة على الله عز وجل دون سواه.

    [وقال الحسن: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما أنفق عبد نفقة أفضل عند الله من نفقة قول)]، والعلم يزكو بالدعوة والعمل، وهذا كلام علي بن طالب وابن سيرين وابن المبارك وغيرهم من أهل العلم.

    قال: والعلم يزكو بالدعوة والعمل.

    أي: يزيد وينمو كلما دعوت إلى الله عز وجل، ولذلك الذي يدعو إلى الله عز وجل يتعلم أكثر ممن لا يدعو إلى الله عز وجل.

    ولذا لو أن شخصين يحضران مجالس العلم، أحدهما يدعو بما تعلم ويعمل به، والآخر يكتفي من العلم بالسماع والحفظ فقط، ولا يعمل به أو لا يدعو إليه، فيكاد هذا الذي لا يدعو أن ينسى ما تعلمه، بخلاف الذي يدعو فإنه يحتاج في كل دعوة أن يذكر وأن يتذكر وأن يراجع، وأن يدرس ما تعلمه، حتى يتمكن من تبليغه للناس، ودعوة الناس إليه وبه، فهذا أدعى لتثبيته في القلوب، ولذلك فزكاة العلم ونماؤه هي الدعوة إليه ومدارسته ومراجعته، وغير ذلك مما كان يفعله السلف.

    [وقال ابن مسعود : قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لم يكن نبي قط إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب، يتبعون أمره ويهتدون بسنته، ثم يأتي من بعد ذلك أمراء يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، يغيرون السنن، ويظهرون البدع، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن, وليس وراء ذلك من الإيمان مثقال حبة خردل)].

    ففي الحديث بين النبي عليه الصلاة والسلام أن أول هذه الأمة على الخير والبركة والرحمة، وأن حوارييه عليه الصلاة والسلام على الإيمان التام، وهم أصحابه الكرام الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه، لكن يأتي من بعدهم أمراء وسلاطين يقولون ما لا يعملون، ويعملون ما لا يؤمرون، يُظهرون البدع ويميتون السنن، يكيدون للإسلام ليل نهار، وينقضون عراه عروة عروة.

    ثم بين النبي عليه الصلاة والسلام أن على هؤلاء الحواريين ومن سلك نهجهم إلى قيام الساعة واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

    قوله: ( فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن )، أي: إذا كان هذا المنكر لا يزول إلا باليد فواجبٌ أن نزيله باليد، وإذا عجزوا عن التغيير باليد جاهدوهم باللسان والدعوة والبيان، وإذا عجزوا عن ذلك فلا أقل من أن ينكروا بقلوبهم، ويفارقوا مواطنهم ولو بالهجرة من بلاد المعصية إلى بلاد الإيمان، وليس وراء ذلك حبة خردل من إيمان، كما روي عند مسلم من حديث أبي سعيد في الإنكار على هؤلاء، قال: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)، أي: لا إيمان بعد ذلك، وفي رواية: (وليس وراء ذلك من الإيمان مثقال حبة خردل)؛ لأن تغيير المنكر بالقلب في مقدور كل إنسان، إذ لا سلطان لأحد على قلبك إلا لله عز وجل، فأنت بإمكانك أن يتمعر وجهك، وأن تهجر وتفارق مكان المعصية، فإن عجزت عن التغيير باليد أو باللسان، فلا أقل من أن تهجر مكان المعصية مخافة أن ينزل العقاب فيعم الجميع.

    [وقال أبو أسامة -وهو حماد بن أسامة -: جزى الله عنا خيراً من أعان الإسلام بشطر كلمة]، وجزى الله تعالى شراً من أعان على هدم الإسلام ولو بشطر كلمة.

    1.   

    الأسئلة

    ما يفعله من دخل المسجد أثناء الخطبة أو الدرس العلمي

    السؤال: إذا دخلت المسجد أثناء الدرس فهل أصلي أولاً أم أنصت إلى الدرس؟

    الجواب: إذا دخلت المسجد فصل ركعتين خفيفتين، ثم الحق بدرس العلم، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين)، ومجلس العلم إما أن يكون خطبة جمعة، أو درس علم، أو مادة شرعية، أو غير ذلك، وكل هذا لا ينفي أن تصلي ركعتين، ولذلك أتى عثمان بن عفان رضي الله عنه مسجد النبي عليه الصلاة والسلام في يوم جمعة والنبي عليه الصلاة والسلام يخطب، فجلس عثمان ولم يركع ركعتين، فأمره بعد أن جلس جلوساً خفيفاً أن يصلي ركعتين، وعثمان رضي الله عنه اعتقد أن الإنصات للخطبة أولى من صلاة ركعتين، وفي رواية: (صل ركعتين وتجوز فيهما)، أي: لك أن تصلي ركعتين خفيفتين.

    حكم توزيع الإنسان تركته على ورثته قبل وفاته

    السؤال: والدي قسم بيننا قبل وفاته بمدة، والآن بعد عام إخوتنا لم يعطونا حقنا، ويقولون لنا: بعد ثلاث سنوات، وأمي تشجعهم على ذلك، وأنا وأختي في أمس الحاجة إلى المال، ومنعتني من دخول بيت أبي لو أصررنا على طلبنا هذا، والآن هي معي في المسجد، ونريد من حضرتكم الإفادة، وجزاكم الله خيراً؟

    الجواب: على أي حال هذا كلام عظيم انتشر بين المسلمين.

    فأولاً: لا ينبغي للأب أن يوزع تركته على ورثته قبل موته؛ لأن الميراث ما سمي ميراثاً إلا لتوزيعه بعد الوفاة، أما قبل الوفاة فلا، وأنتم تعلمون أن الهبة أو العطية بين الأولاد ليس فيها للذكر مثل حظ الأنثيين، وإنما إذا أراد الأب أو الأم أن توزع على الأولاد ما تملكه أو ما يملكه، فيجب التوزيع بالتساوي، فإذا أعطى البنت ألفاً وجب عليه أن يعطي الولد ألفاً، وإذا أعطى الولد مائة ألف يعطي البنت مائة ألف؛ لأن هذه هبة وعطية، وحديث النعمان بن بشير عندما أتى أبوه إلى النبي عليه الصلاة والسلام ليستشهده على عطية أو نحلة نحلها أحد أولاده، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (أكل ولدك نحلت مثل هذا؟)، أي: أكل أولادك أعطيته مثلما أعطيت لهذا؟ (قال: لا يا رسول! قال: اذهب فأشهد على هذا غيري، فإني لا أشهد على جور).

    وهذا أمر منه عليه الصلاة والسلام يفيد التقريع والتوبيخ، لا جواز الإشهاد على هذا الجور، والشاهد من الحديث قوله: (أكل ولدك نحلته مثل هذا؟)، أي: أعطيته مثل ما أعطيت لهذا، قال: لا، فاعتبره النبي عليه الصلاة والسلام جوراً، لأن هذه هبة لا يصح أن تكون تركة؛ لأن توزيع الشيء في حياة المورث لا يسمى ميراثاً، وإنما يسمى هبة وعطية ونحلة ومنحة، كل هذا يلزم فيه التساوي، ولا تأخذ فيه البنت نصف ما يأخذ الولد.

    وأنا أنصح هذه الأم، وأنصح الأبناء الذكور أن يجمعوا الميراث كاملاً، أو يساووا التركة كاملة، ثم يقسموها من جديد: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ [النساء:11]، بعد أن تأخذ الأم من ميراث زوجها الثمن ما دام لها أولاد، ثم توزع بقية التركة بين الذكور والإناث للذكر مثل حظ الأنثيين.

    وأقول: هذا إذا كنتم تحبون وتحترمون هذا الرجل الذي قضى حياته في خدمتكم وتربيتكم، وتعب تعباً شديداً بالليل والنهار لأجل إسعادكم، فلا تكونوا أنتم أول من يشقيه ويعذبه في قبره، فإنه الآن يعذب في قبره والله تعالى يعلم ذلك؛ بسبب أنه جار في هذه الوصية، أو جار في هذا الميراث، فإما أن يكون هذا حدث منه جهلاً، وإما أن يكون حدث منه عناداً ومحبة لأبنائه الذكور على حساب البنات.

    وهذه الأم لا تأمن أن يصنع بها أولادها بعد موتها كما صنعت هي وأولادها بزوجها، فتشقى كذلك في قبرها، وهي ستموت وستعرض على الله عز وجل، ويكلمها كما يكلم أحدنا أخاه مشافهة ليس بينها وبين الله عز وجل ترجمان -ولله المثل الأعلى- ويسألها عن هذا الجور وعن هذا الظلم، فلا يكون لديها جواب صحيح سديد تجيب به عن نفسها، وإن شاء الله عذبها وإن شاء غفر لها ويدخلها الجنة، وهذا الكلام لكل واحد، فإن البنات مظلومات في هذا الزمان، فلا يعطين من التركة إلا القليل، ويظن الذكور أن الحق كل الحق لهم، مع أن هذا لا يصح؛ لأن العقيدة الصحيحة السليمة تقول: إن الباطل لابد من زواله، يمحق الله الربا مهما كثر، ويربي الصدقات وينميها ليعمل بالحلال.

    وهذه قصة لإحدى الأمهات دعتني لتوزيع التركة، فقال كبير القوم أو كبير الإخوة: يا شيخ! إذا كان عندك أن البنات ترث فلا نحتكم إليك في أول المجلس! فقلت: الأمر لكم، فرد جميع الرجال -إذا كانوا رجالاً، وإذا صح أنهم رجال-: أن البنات لا ترث من الأرض، وكانت هذه الأرض قطعة واحدة، والفدان الواحد بمائة وعشرين ألف جنيه، وعندهم فدان واحد بنوا عليه بيتاً عظيماً جداً بلغ إحدى عشرة غرفة، وعندهم مكان كبير يدرسون فيه المحاصيل، وبستان عظيم جداً فيه الكثير من الثمار وغير ذلك، ثم قالوا: ليس للبنت الواحدة إلا خمسمائة جنيه! أو ليس لهن كلهن إلا هذا! ونحن متفقون مع البنات على هذا، فسألت إحدى البنات فقالت: أنت ستقطع عيشتنا يا فلان! وإذا بها قد أغشي عليها حينما سمعت المبلغ المقسم من وراء الستار، وبعد جدال وأخذ ورد استمر حتى سمعنا أذان الفجر لم يصل أكثر من خمسمائة جنيه! فقلت: هذه المرة تتنازلن عن الخمسمائة جنيه وتحتسبن كامل حقكن عند الله عز وجل، وبينكن وبين إخوتكن الثلث الأخير من الليل.

    فتصور أن معظم الأمة بهذا الشكل، يتعاملون مع الدين بذكاء لمصلحتهم، أما عليهم فلا لا دين ولا مصلحة ولا علم، ولا من هذه الأشياء نهائياً.

    والعجيب أن البنات والصبيان حفظوا القرآن الكريم، وأنسى الله تبارك وتعالى القرآن كله أربعة من الرجال حتى صغار السن، وكان هذا قبل الميراث، لكن بقي واحد منهم على حفظ القرآن الكريم، وهو إنسان بصراحة، أما أحدهم وهو الكبير فقد كان صاحب متجر كبير جداً في شركة حكومية، وقد احتال عليه أحد التجار أن يأخذ رشوة في مقابل أن يسجل لهم مزاداً أو مناقصة أو شيئاً من هذا، وكان أبوه رجلاً من العلماء المشهود لهم بعلم الأديان، فأبى، وظل به هذا التاجر حتى قبل منه ذلك، لكن هذا التاجر قد سحب هذا المبلغ من البنك بأمر الشرطة، وكانت الشرطة تراقبه، وأراد أن ينتقم منه لأنه ضيع عليه الصفقة الأولى، فيحتال عليه في الصفقة الثانية. وفي خلال ثلاث سنوات انحرفت امرأته، وابتلي ولده بحادث سيارة أقعده تماماً، وهو إلى الآن مقعد بعد أن تخرج من الجامعة، يبول ويتغوط على نفسه، وهذا منذ سنوات، وأما الآخر فقد ضحكت عليه امرأته فأخذت جميع ما يملك وكتبته باسمها، ثم نبذته نبذ الكلاب، ولم يبق مع واحد منهم الآن شيئاً من المال، ولهذا تصور بعد الحرص على هذا المال لم يبق منه شيء! وتصور أنهم الآن فقراء!

    فالباطل مهما عظم فهو إلى زوال، والحلال مهما قل فهو إلى زيادة، وأسال الله تبارك وتعالى أن نعتبر بهذا.

    حكم صيام الزوجة عن زوجها المتوفى

    السؤال: توفي زوجها وعليه صيام رمضان، فهل تصومه عنه أو تفطر؟

    الجواب: لو صامت فهو أولى؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (من مات وعليه صيام فليصم عنه وليه)، أما المرأة التي لا تقوى على الصيام فلا بأس أن تفدي عنه كل يوم إطعام مسكين.

    ما يجب على الرجل إذا دخل على المرأة وهي تصلي

    السؤال: لو دخل رجل أجنبي على امرأة وهي تصلي، فهل تقطع صلاتها أم تكمل الصلاة؟

    الجواب: تكمل الصلاة، ويجب على من دخل عليها أن يغض بصره، وعلى المرأة أن تكمل صلاتها، وإذا كانت تلبس نقاباً فلها أن تنزله على رأسها.

    الحكم على حديث (سبحانك اللهم وبحمدك...)

    السؤال: يسأل عن حكم حديث كفارة المجلس: (سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك

    الجواب: حديث حسن.

    حكم قراءة سورة العصر عند الانصراف من المجلس

    السؤال: هل ثبت عند السلف قراءة سورة العصر عند الانصراف من المجلس؟

    الجواب: الإمام ابن كثير يرجح مثل ذلك، وكنت قد بحثت هذا الأثر الذي يقضي بقراءة سورة العصر، فلما وقف على ذلك شيخنا العلامة الشيخ محمد عمرو عبد اللطيف -وهو معروف بعلمه، إذ إنه بحر في سنن النبي عليه الصلاة والسلام- قال: أرجو أن تراجع الأثر في سورة العصر، ولا تتعجل فإنها إلى الثبوت أقرب.

    وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756041376