إسلام ويب

العلماء هم الدعاةللشيخ : ناصر بن عبد الكريم العقل

  •  التفريغ النصي الكامل
  • انتشر في هذا العصر عند كثير من الناس مفهوم وظاهرة تتضمن التفريق والفصل بين العلماء والدعاة، وهذه الظاهرة خطأ؛ لأن الأصل في الكتاب والسنة وما اتفق عليه جمهور سلف هذه الأمة أن العلماء هم الدعاة، وأن غيرهم تبع لهم، وقد كان لظهور هذه الظاهرة أسباب عدة، ولها حلول يمكن أن تتبناها جماعة المسلمين المتمثلة في علمائها.

    1.   

    مسائل التفريق بين العلماء والدعاة والعلم والدعوة.. وغير ذلك

    إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

    أما بعد:

    فإن الحديث عن الدعاة وعن العلماء أمر ضروري خاصة حينما انتشر مفهوم عند الناس في هذا العصر، ألا وهو مفهوم التفريق بين العالم والداعي، وبين العلم والدعوة، وبين الفقه في الدين والفقه في الدعوة، وما نتج عن هذا المفهوم من ظواهر خطيرة على الدين، وعلى السلوك والأفكار والمفاهيم.

    ومنشأ هذا الموضوع في ذهني أن كثيراً من الدعاة والحركات الإسلامية المعاصرة، والدعوات التي تتصدر للدعوة في العالم الإسلامي نشأ عندها هذا الفصل، وهذا الانفصال بين الداعي إلى الله سبحانه وتعالى، أو بين الممارس للدعوة إلى الله، أو بين المحترف للدعوة إلى الله وبين العالم والشيخ، أو بين العلماء وطلاب العلم، لذا فلابد من الحديث عن هذا الأمر على وجه النصح لا على وجه النقد، وسأتحدث عن بعض المسائل في هذا الموضوع؛ لأن الموضوع متشعب وطويل وهو ذو شجون.

    تعريف العلماء والدعاة والدعوة

    المسألة الأولى: التعريفات المتعلقة بعنوان المحاضرة: (العلماء هم الدعاة).

    فالعلماء: هم العلماء بالشرع العالمون به، والمتفقهون في الدين، والعاملون بعلمهم على هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلف الأمة، والداعون إلى الله على هدى وبصيرة.

    وعلى هذا فالعلماء بحسب هذا التعريف هم الدعاة بداهة؛ لأنهم هم ورثة الأنبياء، والأنبياء هم الدعاة، وأجدر من يتصدر للدعوة بعد الأنبياء -وقد انقضت النبوة وانتهت- هم العلماء؛ لأنهم ورثة الأنبياء، والعلماء هم حجة الله في أرضه على الخلق، والحجة لا تقوم إلا على لسان داعية وعالم وقدوة، وعلى هذا فهم أجدر الناس بالدعوة.

    والعلماء هم أهل الحل والعقد، وهم المؤتمنون على مصالح الأمة العظمى، وعلى دينها وعلى أمنها، ومن باب أولى أن يكونوا هم المؤتمنين على الدعوة.

    والعلماء هم أهل الشورى، وإذا كانوا يستشارون في جميع مصالح الأمة وفي دينها ودنياها، فمن باب أولى أن يكونوا هم أهل الشورى في الدعوة وقيادتها.

    والعلماء هم أئمة الدين، والإمامة في الدين فضل عظيم وشرف ومنزلة رفيعة، والإمامة في الدين تقتضي بالضرورة الإمامة في الدعوة، وما الدين إلا الدعوة وما الدعوة إلا الدين.

    والعلماء هم أهل الذكر، وعلى هذا فهم أهل الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، والعلماء أفضل الخلق، وأفضل الخلق هو الداعي إلى الله، والداعي إلى الله هو أفضل الخلق.

    والعلماء هم أزكى الناس وأخشاهم لله، وإذا كانوا كذلك فهم أجدر بأن يدعو إلى الله على هذه الصفات، وهم الأجدر بأن يكونوا هم القواد والرواد للدعوة.

    والعلماء هم الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر، وما غاية الدعوة إلا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

    إذاً: فالعلماء هم الدعاة، وهذا على وجه العموم، وهم أهل لهذه الخصال على وجه العموم، ولا يلزم أن تتوافر هذه الخصال في كل عالم، فالكمال لا يكون إلا لله سبحانه، لكنهم في الجملة، أي: العلماء، هم أهل لهذه الخصال بجملتها.

    والعلماء لا يمكن أن تخلو أرض منهم، وهذا دفع لدعوى قد يدعيها بعض الجهلة ممن ينتسبون للدعوات بأنه لا يوجد علماء قدوة، أو أن العلماء الذين يقتدى بهم مفقودون، أو نحو من هذه الدعاوى التي لا تجوز شرعاً، بل هي مخالفة للواقع ولصريح النصوص، فالله سبحانه وتعالى قد تكفل بحفظ هذا الدين، وتكفل ببقاء طائفة من هذه الأمة ظاهرة منصورة، وأمرها بين، وهذا لا يمكن أن يتأتى إلا بأهل الحجة وهم العلماء، والصفات التي قد ذكرتها تتوافر في مجموعهم في كل زمان وفي كل مكان، وكل وقت وكل مكان بحسبه.

    أما بالنسبة للدعاة وقد عرفنا أن العلماء هم الدعاة، لكن تنزلاً للمصطلحات والألفاظ، فإنا نقول: الدعاة هم الداعون إلى الله على سبيل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى بصيرة وفقه في الدين، وأول من تتوافر فيهم هذه الصفات هم العلماء؛ لأن الله عز وجل أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي [يوسف:108]، ولا شك أن أتباع الأنبياء بالأولى هم العلماء.

    والدعوة: هي السعي لنشر دين الله عقيدة وشريعة وأخلاقاً وبذل الوسع في ذلك، ويتحقق هدف الدعوة إلى الله بالعلم والعمل والقدوة، وبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإصلاح، وهذه الأركان -على الأصح- أكثر ما تتوافر في العلماء، وهنا قد يرد سؤال عند بعض الناس:

    هل الدعوة مقصورة على العلماء؟ أو نقول بلفظ آخر: لا يدعو إلى الله إلا عالم؟!

    فالجواب: لا؛ لأن أي مسلم قد عرف شيئاً من الدين وتبصر به لزمه أن يدعو إليه بعد هذا التبصر وفقه المسألة، وهذا هو الذي تتوجه إليه النصوص الشرعية، وعليه عمل السلف.

    أما قيادة الدعوة وريادتها وتوجيهها فلابد أن تكون من العلماء وفي العلماء، فيتصدرون الدعوات في كل أمر ذي بال، وعليه لابد أن نجعلهم هم القادة، وهم المرجع، وهم الموجهين في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، ولا يكفي أن يكونوا مجرد مستشارين عند الحاجة كما يفعل كثير من الدعاة.

    كذلك قد يرد سؤال آخر أو استدراك آخر ألا وهو: العلماء لم يرفعوا راية للدعوة.

    فأقول: هذا الإشكال إن صح فهو يحتاج إلى تعديل، وهو أن الأصل في أهل العلم أن يسعى إليهم؛ ولا يسعوا إلى الناس، والأصل في أهل العلم أن يكون لهم سمت، وأن يكون لهم حق على الأمة، وأن يلتف حولهم عامة الناس أو خاصة طلاب العلم، كما أن الأصل ألا يرفعوا فوق رءوسهم رايات أو شعارات، ثم يطلبون الانتماء إليهم.. ونحو ذلك مما هو من لوازم بعض الدعوات المعاصرة مع الأسف؛ لأن رفع الرايات والشعارات للدعوات من قبل من لهم شأن في الأمة ليس هو من سمت السلف، بمعنى: إخضاع العلم للدعاية أو للشعارات أو الانتماءات هذا لم يكن من سمت السلف، بل هو من خصال أهل الأهواء والفرق.

    بيان كون العلماء هم الدعاة أصل في الكتاب والسنة

    المسألة الثانية: لابد من البيان بأن الأصل في الكتاب والسنة وما اتفق عليه جمهور سلف هذه الأمة -وهو هديهم- أن العلماء هم الدعاة، وأن الدعاة هم العلماء، وأن غيرهم تبع لهم، وكما أسلفت: فكل طالب علم وكل مسلم عليه أن يدعو إلى الله بقدر وسعه، وعلى بصيرة في الأمر الذي يدعو إليه، لكن كل ذلك مشروط بالتبعية لأهل العلم؛ لأنهم هم قادة الأمة، وهم أهل الحل والعقد فيها، وهم جماعتها.

    تركز مفهوم الفصل بين العلماء والدعاة في أذهان بعض المسلمين وفي الواقع

    المسألة الثالثة: التفصيل في هذه الظاهرة التي أشرت إليها، أعني: الفصل بين العلماء والدعاة، أو بين العلم والدعوة، أو بين طلب العلم الشرعي والدعوة، وهذا الفصل للأسف قد تركز في أذهان كثير من المسلمين لأسباب كثيرة سأذكر شيئاً منها فيما بعد.

    وهذا المفهوم تركز ليس في الأذهان فقط، بل حتى في الواقع، أي: فيما تعيشه الدعوات، وما يعيشه الدعاة في كثير من بلاد العالم الإسلامي، وكما أسلفت بأن من سمات أهل البدع: التفريق بين الداعي والعالم؛ لأنهم كانوا يتخذون رءوساً جهالاً.

    والداعية عندهم -أي: عند أهل الأهواء والبدع- من يخضع لأهوائهم ويلتزم بها، ويقول بمقولاتهم وينشرها وينتصر لها.

    ونجد هذا الأمر جلياً في الفرق الأولى كالخوارج، فإن دعاتهم ليسوا هم العلماء، لا فيهم ولا في غيرهم، وكذلك الرافضة فإن دعاتهم جهالهم، والمعتزلة والقدرية وأهل الكلام وسائر الفرق هم الذين يفصلون بين الدعوة وبين الفقه في الدين؛ لأنهم قوم يقل فيهم الفقه في الدين، وأكثر زعمائهم ودعاتهم إنما يمتازون بالولاء للافتراق الذي هم فيه، والولاء للمقولات التي هم عليها، ولا يفقهون من الدين إلا القليل، بل ومنهم من لا يفقه شيئاً.

    وأغلب دعاة هذه الفرق الذين نشروها في الأقاليم في البلاد الإسلامية قديماً من الجهلة، ومن العوام الذين لهم أهداف من أغراض أو عصبيات.. أو غيرها.

    أسباب ظهور ظاهرة الفصل بين العلماء والدعاة

    المسألة الرابعة: أن هذه الظاهرة مع الأسف هي سمة قد بدأت تظهر في كثير من الدعوات المعاصرة، وفي كثير من الحركات الإسلامية، وفيما يلي نذكر بعض أسبابها:

    أولاً: أننا لابد أن نحمل هموم جميع المسلمين في كل بقاع الأرض، وهذا واجب شرعي على كل داعية وعالم، لا أن نحمل هم المسلمين في إقليم واحد، بل في جميع بقاع الأرض؛ لأن الأصل في المسلمين أنهم أمة واحدة، ومن مقتضى النصح والإشفاق عليهم بيان ما فيهم من خير وتشجيعهم عليه، وبيان ما فيهم من أخطاء وتنبيههم ونصحهم بالعدول عنها.

    ومن هذا المنطلق سأتوقف كثيراً عند ذكر بعض ظواهر الخطأ في بعض الحركات الإسلامية المعاصرة خارج هذه البلاد.

    ثانياً: أن هذه الظاهرة -أعني: الفصل بين العلماء والدعاة- قد بدأت تبرز عند بعض الشباب عندنا، وبعض المثقفين والمفكرين لسبب أو لآخر، ومن هنا كان لابد من الكلام عن أوضاع الدعوات المعاصرة بمجملها في جميع العالم الإسلامي، وليس في بلد واحد.

    ولذا نجد أن هذه الظاهرة قد تأصلت حتى في أعمال الدعاة وحركاتهم ومواقفهم وأعمالهم ومناهجهم، فصاروا يفصلون بين العالم والشيخ، وبين العالم والداعية، وأدى هذا الفصل إلى عواقب وخيمة سأذكر شيئاً منها.

    وأصبح الداعية عندهم هو من ينشط في الدعوة؛ لتحقيق مراد أصحابها، أو لتحقيق أهدافها، أو يواليها ويرفع شعارها، ويجمع الناس حوله على هذا الشعار، فهذا هو الداعية عند كثير من الدعوات المعاصرة بصرف النظر عن علمه وفقهه، بل الغالب أنه يكون من قليلي الفقه وقليلي العلم الشرعي، والمشايخ بمفهوم هؤلاء القاصرين ليسوا بدعاة، ولا يصلحون بأن يسهموا في الدعوة، أو أن يدخلوا في إطارها أو في نطاقها؛ لأن فيهم وفيهم!

    العواقب الوخيمة من جراء الفصل بين العلماء والدعاة

    المسألة الخامسة: بسبب هذا الفصل ظهرت أمور أشير إلى شيء منها، هذه الأمور نراها جلية في كثير من الدعوات الإسلامية المعاصرة:

    أولاً: اتخاذهم رءوساً جهالاً أغلبهم لا يفقهون من الدين إلا ما يحلو لهم، وغاية ما يملك بعضهم من العلم إنما هو مجرد أفكار وثقافات أشتات، بل زاد كثير منهم مجرد العواطف والحركة، حتى كاد يكون مصطلح الداعية عندهم من ليس بعالم، وأن العالم ليس بداعية، وأحياناً يقولون: فلان داعية، يعني: ليس بعالم، وفلان شيخ من المشايخ، يعني: ليس بداعية!

    ثانياً: قلة وجود العلماء والمشايخ المتفقهين في الدين، والمتضلعين في العلوم الشرعية في أكثر الدعوات المعاصرة، مع أن وجود أهل العلم المتفقهين في الدين هو شرط من شروط الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، وخاصة الدعوات الكبرى التي ينضوي تحت لوائها مجموعات وفئام من الناس، فهذه لا ينبغي أن يفقد فيها العالم، أو يكون العالم فيها مغمور، أو لا يتصدر الدعوة.

    ثالثاً: قصور النظرة في فهم قدر ومنزلة العلماء والمشايخ عند كثير من أتباع هذه الدعوات، ومن هنا وجد من بعضهم اتهام للعلماء بالقصور أو التقصير أو قلة الوعي، أو أي نوع من أنواع التنقيص؛ لتبرير عدم صلة الدعاة بالعلماء، بل إن بعض الدعاة يرفع نفسه ودعوته على حساب الكلام في أعراض العلماء، وهذا الأمر وإن كان مؤلماً لكن لابد من ذكره، ولابد من السعي لعلاجه.

    رابعاً: توريط بعض شباب الأمة بالانتماء للشعارات والقيادات الدعوية أكثر من الانتماء لأهل السنة والجماعة، ولأهل العلم من المشايخ والعلماء.

    خامساً: فصل الشباب عن أئمتهم ومشايخهم وعلمائهم، وحجبهم عن النظرة الشرعية الشمولية للدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، وعن غاياتها ومناهجها، وعن النظرة إلى أئمة السنة قديماً وحديثاً، بل إن بعض الدعوات تربي شبابها على جوانب من مناهج السلف؛ لتخدم أهدافها أو تخدم الجماعة وشعاراتها، وتغفل الجوانب الأخرى من السنة والعلم، وهذه من أساليب أهل الأهواء وأهل البدع، فيأخذون من الأئمة ومن العلماء ما يحلو لهم من قول أو فعل ويتركون الباقي، وهذا خلل في النظرة وخلل في المنهج.

    سادساً: نتج عن هذا الفصل بين الدعاة والعلماء كثرة الشعارات والأهواء والانتماءات والافتراقات والعصبيات لجماعات أو لأشخاص، مع العلم أن الأمة لا يجمعها على السنة والخير إلا علماؤها، ومهما بالغت الفرق أو مهما بالغت الجماعات والدعاة في أي مكان وفي أي زمان للسعي إلى جمع المسلمين دون الاسترشاد بأهل العلم، ودون أن يجعلوا هم القادة وهم الموجهين وهم المرشدين للدعوات فإن الشمل لن يجتمع.

    سابعاً: نتج عن هذا العزل بين العلماء والدعاة أن نشأ في الدعوات المعاصرة أو بعض الدعوات -لئلا نظلم الذين هم على استقامة- مناهج وأفكار وكتب ومؤلفات معزولة عن السنن، وعن العلوم الشرعية بشموليتها، بل وحتى بتفصيلاتها، وصارت كل طائفة تأخذ من العلوم الشرعية ما يناسب أوضاعها، وهذا أسلوب من الأساليب الخاطئة التي تخالف منهج السلف، بل حتى نشأ في الدعوة في بلاد العالم الإسلامي علم يشبه علم الكلام لدى الجماعات في ارتباطه بالأهواء والأشخاص لا بالسنن والأئمة.

    كما برزت في الآونة الأخيرة نتيجة لهذا الفصل بين الدعاة والعلماء دعوات كبرى، قوامها وركائزها رءوس ليسوا بعلماء، وتعتمد على أفكار وحركات محدثة تخالف هدي الإسلام، وعلى عواطف لا تضبطها القواعد الشرعية ولا المصالح المعتبرة.

    ثامناً: نتج أيضاً عن هذا الفصل التقصير في طلب العلم الشرعي على أصوله ومناهجه السليمة الصحيحة، بل نتج عن ذلك الحيلولة بين أتباع الدعوات وبين تحصيل العلم عن المشايخ، حتى إن كثيراً ما ترد إشكالات وشكاوى من بعض الشباب في شتى العالم الإسلامي، يشكون فيها من صرف بعض الدعاة لأتباعهم عن العلماء بذرائع شتى، بل إن بعضهم -كما علمت وتأكدت من هذا- قد يعاقب الشاب الذي ينتمي إليه بسبب لماذا جلس يطلب العلم الشرعي على الشيخ فلان؟!

    ونتيجة لذلك حصل الخلل، فقد فهم بعض الدعاة -هداهم الله- بسبب العزلة بينهم وبين المشايخ: أن المشايخ أعداء للدعوة، وسبب ذلك أن في دعواتهم أمراضاً ومصائب لا يرضاها العلماء، وقد ينتقدونها، فمن هنا تعللوا بصرف شبابهم عن المشايخ وعن أهل العلم والفقه في الدين، وهذا مسلك خطير ينبغي ألا يستمر، بل يجب مناصحة هؤلاء الدعاة وبيان الحق لهم.

    تاسعاً: في بعض الدعوات التي تسلك هذا المسلك ظهرت فئام من الجماعات والدعاة والشباب في البلاد الإسلامية عددها ليس بالقليل، شيوخهم بعضهم على قلة في الفقه وضعف في العلم، أو شيوخهم كتبهم، فيرشحون ما يريدون من كتب فكرية وثقافية، وأغلب ما تعتمد عليه هذه الجماعات الكتب الفكرية والثقافية أكثر من الكتب الشرعية، وقادتهم مع الأسف جهالهم، وأحكامهم أهواؤهم، مما أدى ذلك إلى الخلط والخبط عند بعض هؤلاء في العقائد وفي الأحكام، بل وفي المواقف وفي قضايا الأمة الكبرى، وفي التصرفات الطائشة التي تحدث من بعضهم، وفي صدور الأحكام المتعجلة.. ونحو ذلك من المظاهر التي نراها في فئة من الشباب، وإن كانت فئة -بحمد لله- قليلة، لكن القليل في مثل هذه الأمور يجب ألا يستهان به، بل ينبغي علاجه، فإنه إذا كثر فقد يصعب أو يستحيل علاجه.

    كلمة إنصاف

    المسألة السادسة: كلمة إنصاف، وسأتكلم فيها عن نوعين من الدعاة:

    النوع الأول: طلاب العلم الشرعي، فنحن في هذه البلاد أشهد أني أرى عليهم علامات الرشد، والالتفاف حول العلماء، والاسترشاد بهم والتلقي عنهم، وهذه ظاهرة سارة وهي الأصل، وينبغي أن نشجع الشباب عليها وسائر طلاب العلم.

    كما أني أرى من المظاهر السارة للشباب: استقامة العقيدة، واستقامة السلوك، والحرص على تلقي العلم الشرعي بمناهجه وأساليبه الصحيحة من مصادره الأصلية، كتب السلف المستمدة من الكتاب والسنة، وعلى أهله وهم العلماء أئمة الدين، والمشايخ الذين هم القدوة، وهذه ظاهرة تبشر بخير، لكن مع ذلك هناك بعض الظواهر التي أشرت إليها، والتي هي أحياناً قد تكون من النتائج الطبيعية للإقبال الكبير، وبحمد الله فإن غرس الله قد ظهر، وريح الإيمان قد هبت، وإقبال الشباب منقطع النظير، حتى يكاد يكون أكبر من أن يتحكم به بالإرشاد والتوجيه.

    وهذا أمر يجب أن نفرح به وأن نستبشر به، وهو علامة خير وبركة، ولله في ذلك حكمة هو يعلمها، ولا يمكن أن يكون هذا الإقبال على الخير مجرد ظاهرة اجتماعية، أو مجرد ردة فعل لأوضاع سيئة كما يقال، بل الأمر أكبر من ذلك، فالأمر هو من مراد الله، ومن سننه التي لا تتبدل ولا تتخلف، فقد بلغ السيل الزبى، وقد طغى الزبد، ولابد أن يذهب الزبد جفاء، ولا يمكن ذهابه إلا بجهود بشر، والبشر الذين يصطفيهم الله لابد أن يكونوا على علم وفقه في الدين، وأظن أن الله سبحانه وتعالى اصطفى هذا الجيل الخيِّر ليقوم بدور عظيم طالما تخلف عنه المسلمون في نصرة الإسلام ونصرة الحق، وهذا قدر الله وأمره، وهي سنة الله ولا راد لسنته، لكن مع ذلك لابد من علاج بعض الظواهر التي تنشأ بشكل طبيعي من هذا الاتجاه العارم إلى الخير، وإلى طلب العلم الشرعي في هذه البلاد.

    وقبل أن أخرج من هذه النقطة أحب أن أنوه عن أمر آخر، وهو أنه بحمد الله يوجد في هذا البلد من المشايخ الذين هم على السنة والاستقامة من فيهم الخير والبركة، كما يوجد من طلاب العلم والدعاة الذين يجمعون بين العلم والدعوة العدد الوافر الذي به -إن شاء الله- ستسترشد وتستنير الدعوات.

    النوع الثاني: الدعوات في الخارج، فأنا حينما تكلمت عن بعض الظواهر الماضية فإن كلامي فيه شيء من العموم، لذا قصدت أن أبدأ به، مع أنه كان من الأولى أن أنصف وأن أقول أو أذكر الجوانب الإيجابية والخيرة في الدعوات التي هي في سائر العالم الإسلامي قبل ذلك؛ لكن نظراً لأن الموضوع متعلق بظاهرة الفصل بين العلماء والدعاة، كان لابد من إشعاركم بهذه الظاهرة أولاً، ثم أعود فأقوم بتقدير جهد الدعوات المعاصرة بشموليتها وبعمومها.

    وعليه فالدعوات المعاصرة في شتى العالم الإسلامي وفي غير الإسلامي التي تحمل لواء الدعوة فيها خير كثير، رغم ما يعتريها من نواقص ومن خلل، وإذا قارناها بأحوال المسلمين فإنها أصلح من أحوال عامة المسلمين، ورجالها ودعاتها وشبابها لاشك أنهم قاموا بواجب قصر فيه غيرهم، ويكفيهم أنهم احتسبوا الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى ورفعوا رايتها، وتعاطفوا من أجل الإسلام، وانتصروا للإسلام في قضاياه الداخلية والخارجية كل بقدر جهده وبأسلوبه.

    وهذا فضل لهم لابد أن يذكر ويشكر، ثم إن الدعوات المعاصرة أيضاً ليست كلها وقعت فيما ذكرت، بل البعض منها، وإلا ففيها من هو على السنة والاستقامة في السلوك والعمل والنهج الصحيح، وفيها ممن يتلقى عن العلماء، وأظنكم تعفوني من الأمثلة؛ لأن الأمر في مثل هذه المحاضرة لابد أن يأخذ صيغة العموم، وكذلك أن هذا لا يتناسب مع ذكر الأسماء والشعارات.

    أقول: إن بعض الدعوات في سائر العالم الإسلامي وفي غيره التي تحمل لواء الإسلام بعضها على خير وبركة، وفيها القدوة والأسوة، لكنها ليست هي الكثيرة، بل الأكثر من أصحاب الشعارات والدعوات الكبرى هم من ذكرت ممن فيهم أخطاء، وما هم فيه من أخطاء يستوجب التحذير منها أولاً، وثانياً: يستوجب النصح لهم والإرشاد والبيان، وأحسبهم -إن شاء الله- ممن يريد الحق ويسعى إليه؛ لأنهم ما رفعوا لواء الدعوة -وهذا ما ينبغي أن نظنه- إلا حسبة لله، وإلا أيضاً بحثاً عن الحق، فمن هنا أتعشم فيهم وفيكم الخير، كذلك أن يكونوا من رواد الحق وأن يقبلوا النصيحة.

    1.   

    الحل لظاهرة الفصل بين العلماء والدعاة

    المسألة الأخيرة: هي الإشارة إلى الحل، وإن كان الحل في نظري لا يمكن أن يقول به مثلي، لكن لابد من الإسهام ولو بمجرد رأي قابل للنقاش، ثم إن الحل ينبغي أن تتبناه جماعة المسلمين المتمثلة في علمائها.

    وأرى أن ترفع مثل هذه المشكلات المتعلقة بالدعوات والدعاة بعرض واف ومفصل لأهل العلم من العلماء، بأفرادهم وبمؤسساتهم وبهيئاتهم في كل بلد بحسبه، ولا مانع أن جميع أحوال العالم الإسلامي تعرض على علماء بلد معين إذا رؤي أنهم هم الأمثل، وأن منهجهم هو الأسلم، لكن مع ذلك لابد -وقد طرح الموضوع- أن نسهم جميعاً في بيان بعض وجوه الحلول وإن كانت قابلة للنقاش، فأرى أن من الحل لمثل هذه الظاهرة، أعني: ظاهرة الفصل بين العلماء والدعاة، أو بين العلم والدعوة ما يلي:

    أولاً: ضرورة اهتمام العلماء وطلاب العلم بهذا الأمر دراسة ومعالجة، فيتفرغ طائفة من المشايخ وأهل العلم والفقه في الدين لذلك، وتعكف على الحلول للنصح بها لهؤلاء الذين وقعوا فيها، ومن ذلك: تأليف الكتب والرسائل، والإسهام في وسائل الإعلام المشروعة.. وغير ذلك.

    ثانياً: أرى أنه لابد من أن يتنقل العلماء وطلاب العلم في البلاد الإسلامية؛ ليرشدوا الناس والدعاة، وإن كان هذا هو خلاف الأصل؛ لأن الأصل أن العلماء يسعى إليهم ويسافر من أجلهم ويؤخذ العلم عنهم، ولا يأتون هم إلى الناس، لكن أقول: لا مانع في هذا الظرف وفي هذا العصر الذي نعيشه أن تسافر طائفة من العلماء إلى شتى أقاليم المسلمين، بل وحتى إلى غير البلاد الإسلامية التي يوجد بها مسلمون ويوجد فيها دعوة إلى الله.

    لابد أن تتحمل طائفة من العلماء السفر والذهاب إلى أولئك لتعليمهم الفقه الشرعي، ولإرشادهم فيما يجب أن يسترشدوا به في أمور دينهم ودنياهم، خاصة في أمور الدعوة؛ لأن ظروف المسلمين الآن لا تسمح بسفر الدعاة والعامة من بلد إلى بلد إلا بصعوبة بالغة، وبأخطار ومشقات لا يتحملها أغلب الناس، وقد صُنِعتْ للمسلمين حدود فصلت بينهم، وجعلت التنقل بين البلدان الإسلامية يحتاج إلى إجراءات أصعب من السفر إلى بلاد الكفار، وهذا أمر واقع ومشاهد، وحسبنا الله ونعم الوكيل.

    ثالثاً: يجب على جميع منتسبي الدعوات وخاصة الدعاة منهم الذين يتصدرون للدعوة أن يتفقهوا في الدين على أهله، وبطرقه الشرعية الصحيحة، وأن يكون هذا من مناهج الدعوات نفسها، بأن تكثر من الدروس الشرعية، وحلق الذكر وحلق العلم.

    رابعاً: ضرورة المناصحة المباشرة من كل من يرى خطأ في هذه الدعوات، ومن ذلك ما أشرت إليه مسبقاً، بل حتى المناصحة بالمراسلة؛ لأنه لا ينبغي للمسلم أن يرى هذه الأخطاء فيسكت عليها، والدعاة وعامة المسلمين لهم حق على كل من يرى خطأ منهم، وخاصة هذه الأخطاء الخطيرة التي ربما قد تؤدي إلى الانحراف والافتراق، وهي فتنة على الجميع إذا تُركت، فلابد من المناصحة المباشرة لقادة الدعوة أولاً ثم لمنسوبي الدعوات.

    والمناصحة لابد أن تكون بالأسلوب الشرعي الذي يحقق المصلحة، وأقصد بهذا أن بعض وجوه المناصحة القائمة الآن لا أرى أنها تجدي ولا تفيد، بل ربما تؤدي إلى تمادي بعض الناس في الأخطاء؛ لأن أكثر وسائل النصح من المؤلفات والكتب التي تكتب في نقد بعض الدعوات والدعاة من بعض طلاب العلم فيها شيء من التهجم والقسوة والتجريح واللمز والسب أحياناً، بل والحكم باللوازم، وهذا لا أظنه أسلوباً إصلاحياً، فالأسلوب الإصلاحي: هو أن تتغاضى عما يثير في الخصم العناد أو التمادي في باطله، وتسلك المسالك التي هي مسالك الإشفاق والنصيحة وحب الخير وحب الاستقامة للآخرين، وهذا هو المنهج الذي يجب أن يسلك في تقويم الدعوات جميعاً وخاصة في هذا الوقت.

    والمناصحة لابد أن تتركز على النقد الهادف المنصف المشفق الناصح، وأن يصحبها شيء من البيان بإقامة الدليل والحجة، دون إشارة إلى الخطأ أو اللمز أو السب أو التجريح أو التخطئة.. أو غير ذلك؛ لأننا يجب أن نفرق بين أمرين:

    الأول: أسلوب المناصحة وتصحيح الأخطاء.

    والثاني: أسلوب البيان عند الحاجة إليه، وعليه فإذا أردنا أن نبين فلا مانع في ذكر أخطاء الدعوات، لكن بشرط ألا نشخص ولا نسمي، وإنما على القاعدة الشرعية التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعلها، وهي: (ما بال أقوام).

    وأسلوب المناصحة الشرعي يجب أن يكون بعيداً عن التهجم والقدح والتجريح، أو الإلزام بما لا يلزم، أو حتى الإلزام بالخطأ وإن كان واضحاً صريحاً.

    خامساً: ينبغي على الدعاة والمشايخ وأهل العلم أن يعززوا من دور المؤسسات والمنظمات والمراكز الإسلامية النزيهة، كندوة الشباب العالمي والإسلامي، فإن فيها خيراً كثيراً، ولو أنها دعمت وسخرت لها بعض طاقات أهل العلم لتحقق من خلالها -إن شاء الله- نفع كثير؛ لأن لها صلة بكثير من المراكز والدعوات، وعندها من الإمكانات والوسائل ما لا يوجد عند أفراد الدعاة.

    سادساً: لابد من تصحيح المفاهيم بكل وسيلة، بالكتاب، وبالكلمة، وبالمناصحة الفردية، والمناصحة الشخصية، وبوسائل الإعلام، وبالأشرطة، وبكل وسيلة نملكها، وتصحيح المفاهيم ينبغي أن يبنى على الأسس الشرعية التي تهدف إلى الإصلاح، وأن نتفادى فيها كل ما يحول بيننا وبين إصلاح الآخرين من إخواننا المسلمين.

    وينبغي أيضاً أن تبنى على العدل في القول، والإنصاف في الحكم، وأن تبنى على الأصل، وهو أن الأصل في المسلمين الخير، والأصل فيهم الصلاح، والأصل فيهم حسن القصد، ثم بعد ذلك لابد من التوجيه إلى الخطأ والنصح فيه.

    هذا وأسأل الله لي ولكم ولجميع المسلمين التوفيق لما فيه الخير، وأن يبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل الطاعة، ويذل فيه أهل المعصية، ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر، كما نسأله تعالى أن يهيئ لجميع المسلمين من أمرهم رشداً، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    1.   

    الأسئلة

    أهمية الارتباط بين الدعوة والعلم والعلماء والدعاة

    السؤال: نجد أن كثيراً من العلماء أو ممن يسمون بذلك يداهنون الباطل وأهله، ولا يحرصون على إنكار المنكر وتغييره، بعكس من ينتسبون إلى الدعوة فإن أحدهم يجد في نفسه الغيرة والحماس ويهب للدعوة دون علم، ثم ينكر على العلماء ما هم فيه فيتركهم وينفصل عنهم، فما رأيكم في ذلك؟

    الجواب: هذا الكلام فيه إجمال أوافق على بعضه، ولا أوافق على البعض الآخر، فأنا أقول: قد يوجد ممن ينسب إلى العلم من هو مقصر، وقد يوجد ممن ينسب إلى العلم من يرتبط بهيئات أو جهات تسيء إلى سمعته، لكن ليس هذا هو الأصل والغالب، وإن كان هو الغالب فلا يعني هذا أنه لا يوجد من العلماء طائفة ليست على هذه الشكل، بل في كل بلد من بلاد المسلمين -بحسبها- يوجد علماء ليسوا على هذه الشاكلة.

    وإنما موازين بعض الدعوات مختلة؛ لأنهم وضعوا لأنفسهم مناهج وقواعد وأصولاً وقوموا الناس على ضوء هذه المناهج والقواعد والأصول، فما كان يتناسب أو يعايش هذه القواعد والأصول التي هم عليها، رضوا عنه وأثنوا عليه، ومن لم يتناسب قالوا فيه قولاً أو هجروه أو عزلوه.

    بل إن من الدعوات الكبرى المشهورة من إذا ظهر فيها عالم متبحر في العلم انعزل عن قيادتها وبقي على هامشها، والمسألة فيها نظر، ولاشك أن في غالب بلاد المسلمين من العلماء من هجرهم الدعاة، وهجرتهم الدعوات بغير حق، ثم لو افترضنا هذا جدلاً فهل سعت الدعوات إلى تعليم النابهين فيها إلى أن يتبحروا في العلوم الشرعية، ويكونون أئمة في الدين فيقودونها إلى الخير والسنة؟ الغالب لا، بل العكس هو الصحيح، وعلى ذلك شواهد وبراهين.

    وقد تكون للعلماء منزلة هامشية كأن يستشارون في بعض الأمور، أو يسرع أو يفزع إليهم عندما يكون للدعوات غرض، ويتركون في حالات أخرى، وهذه ازدواجية لا تجوز؛ لأن العلماء هم القادة في الحالات الضرورية، والحالات غير الضرورية، عندما يوافقون وعندما يخالفون.

    فإن وافقوا الدعوات فهذا هو الأصل، وإن خالفوها فالدعوات في الأصل هي المتهمة، وينبغي أن تحرر الأمور شرعاً بين الدعاة وبين العلماء.

    بيان من يتصدرون للدعوة

    السؤال: لقد قلت: إنه ليس هناك فرق في الأصل بين الدعاة والعلماء، فكيف نجمع بين هذا وإرسال الرسول صلى الله عليه وسلم لبعض الصحابة وهم لا يفقهون من الإسلام إلا القليل؟

    الجواب: إن هدي الرسول صلى الله عليه وسلم هو القدوة وهو المثل، وكان دعاة رسول الله صلى الله عليه وسلم على نوعين:

    دعاة يذهبون لغرض معين، كإبلاغ رسالة أو كلمة أو كلمتين، فهذا يتحرى فيهم من يناسب هذه المهمة من الشجاعة والقدرة والجرأة والإقدام وقوة الكلمة، ولو كان شبه عامي، وإن كان هذا لا يقال في الصحابة، ودعاة يذهبون لتعليم الناس الدين، كما بعث إلى اليمن والبحرين وإلى شمال الجزيرة وجنوبها وغربها، وهؤلاء لا يكونون إلا علماء، وهكذا ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يبعث في تعليم الناس دينهم وتصدر الدعوة في الأقاليم الجديدة إلا العلماء الأمثل في العلم.

    وكان الخلفاء الراشدون على هذا النهج، أبو بكر وعمر وعثمان وعلي كانوا يبعثون إلى الأقاليم علماء الصحابة، وكانوا يجعلون الرجل المناسب في المكان المناسب، فيما يتعلق بقيادة الجيوش وما يتعلق بالأمور الإدارية الجزئية قد يرسلون من لا يكون عالماً بالمعنى الكامل في ذلك الوقت، لكنهم لا يرسلون للدعوة إلى الله ولتعليم الناس الدين ولتفقيههم في الشرع إلا العلماء، ولم يتصدر الدعوة في القرون الثلاثة الفاضلة من أهل السنة والجماعة إلا العلماء بإطلاق، بل لم يتصدرها إلا أئمة الدين، وهذه قاعدة مطردة في أئمة السلف ومن كان على نهج السلف إلى يومنا هذا، ومن أخل بهذه القاعدة فهو مخل بنهج السلف وبسبيل المؤمنين.

    فلينظر في أمره، وليتأنى وليدرس وضعه، وليحرر المسألة شرعاً، ولا تأخذنا العواطف، أو تأخذنا العزة للانتصار لدعوة ما أو لمنهج ما، ما كان في منهج السلف قديماً وحديثاً يتصدر الدعوة إلا العلماء، لكن هل معنى هذا ألا يدعو إلا عالم؟

    لا، فمن أعطاه الله بصيرة في أمر من أمور الدين وجب أن يدعو ويعلم، لكن القيادة والريادة والشورى والمرجع في الدعوة هم العلماء، وهم الذين على الصدارة، وليسوا مجرد أيضاً مستشارين، بل ينبغي أن يكونوا هم قادة الدعوة بكل معاني الكلمة الشرعية.

    وهذا ما أريده، وما أشار إليه السائل جزاه الله خيراً، وقد ذكرنا بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم وسنة أئمة الدين، وهو أنه لا يدعو إلى الدين ويتصدر الدعوة إلا عالم، فلذلك كان الفارق بين نهج السلف ونهج أهل البدع، فأهل البدع دعاتهم جهال والسلف دعاتهم العلماء، وهذا نهج لا يتخلف إلا نادراً في حالات لا تخرجنا عن القاعدة الأصلية.

    عدم الفرق بين التبليغ والدعوة

    السؤال: هل هناك فرق بين التبليغ والدعوة؟ وإذا كان هناك فرق فكيف؟

    الجواب: الدعوة هي التبليغ، والدعوة هي البلاغ، ومع الأسف فقد قصر مفهوم الدعوة عند كثير من الناس، ولعله تتاح فرصة أخرى للحديث عن الدعوة.

    تصحيح بعض المفاهيم عند بعض الشباب عن العلماء

    السؤال: للأسف أننا نجد هناك علماء ليسوا دعاة فعلاً، وإن كانوا دعاة فإلى تخدير الشباب، وأمثال هؤلاء وكثير منهم من هو قابع في الشقة وتحت المكيفات، ولا يدخلون مع الشباب إلى مجال الدعوة، ومن أمثال هؤلاء أيضاً من همه فقط انتقاد الدعاة في كل جزئية كما هو الحال في حكم التمثيل.. فما رأيك؟

    الجواب: هذا نمط من الأخطاء الواقعة، وهذا هو الذي أردت الإشارة إليه: وجود مفاهيم بهذا الشكل، المفاهيم التي في هذا السؤال هي نموذج أحسن مما قلته في تصوير الواقع، ولا أقصد السائل، فالسائل ربما يقصد أنه يتكلم على لسان الغير.

    فأولاً: هل عندنا علماء بمعنى الكلمة ليسوا دعاة؟ يبدو لي أن السائل يفهم من الدعوة الركض في الشوارع، وأسلوب الأحداث من الشباب الذي يناسبهم ويناسب سنهم، والمشايخ لهم سمتهم ويؤتى إليهم، والعالم العامل بعلمه هو داعية وإن قبع في مسجده وبيته، وهذا هو المفهوم الصحيح، وارجعوا إلى نهج السلف، فالعالم العامل بالعلم هو داعية بكونه قدوة في علمه ومظهره، حتى لو قبع في بيته، ويسع بعض العلماء الذين لا يستسيغون بعض الأساليب التي لا تناسب مواهبهم أو لا تناسب وضعهم الاجتماعي، أو لا تناسب سمتهم -هم معذورون- ألا يخرجوا من بيوتهم ومساجدهم.

    ولهم في ذلك تأول صحيح، والناس والعلماء لا يلزم أن يكونوا على نهج واحد، وعلى قالب واحد، وعلى وصف واحد، فقد تأثرنا نحن بهذا العصر بالشكليات والأرقام والمعلبات، فنريد أن يكون كل العلماء على شكل وعلى ماركة واحدة! وهذا غير ممكن.

    والعلماء منهم من يستطيع أن يخرج ومنهم من لا يستطيع، ومنهم من له سمت معين به يستطيع أن يمارس بعض الأساليب التي يراها الشباب، ومنهم من لا يسعه ذلك ولا يستطيعه، ولا يضره ذلك في أمانته وعلمه ودعوته، فالعالم عالم له احترامه، ويجب على هذا الشاب الذي رأى من هؤلاء العلماء هذه الظاهرة أن يذهب إليهم ليصحح مفهومه هذا.

    ثانياً: قوله: الدعوة إلى تخدير الشباب. هذه فيها نظرة، لكن منشؤها أن بعض الشباب عنده من التعجل وسرعة الانفعال بحيث يريد من العالم أن يركض معه حيث ركض، وأن يستجيب له متى ما رفع راية أو شعاراً، ومتى ما حصلت حادثة أو قامت قضية يريد للعالم أن يذهب معه، لا؛ لأن بعض العلماء له نظر في مفهوم الحكمة، وفي درء المفاسد وجلب المصالح، وفي اعتبار المصالح الكبرى ودرء الفتن.. وغيرها، والحكمة لا تناسب صاحب الأفق الضيق من الشباب أو المتعجلين، حتى قال بعضهم: قتلتنا الحكمة، فمن قتلته الحكمة فليس هو بخير؛ إن الحكمة لا تقتل أحداً، و(الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها)، وأقصد بهذا أن بعض المشايخ وبعض العلماء له منهج تروٍ في معالجة الأحداث والقضايا والمسائل، ويسعه ذلك كما يسع غيره من العلماء الذين لهم نهج آخر، وتغير المناهج فيه مصلحة للأمة ما دام على السنة والشرع، ولا أظن من علمائنا من يسعى إلى تخدير الشباب، وقائل هذه المقولة يجب أن يستغفر ربه، وليعد إلى رشده وليستنير رأيه في العلم والعلماء.

    والقبوع في الشقة قد يكون ممدوح له؛ لأنك لا تدري ما ظروف الشيخ، فلعله عاكف على علم، أو نفع للمسلمين لعل الله يدفع به من البلاء ما لا يدفع بك أنت، فلا ينبغي الاستهانة بالعلماء، فعلمهم خير كله، ودعاؤهم خير كله، وعبادتهم خير كلها، ولعل الله يدرأ بهم من المفاسد ويجلب بهم من المصالح الخير الكثير، ما داموا على العلم والفقه في الدين، حتى لو لم يتحركوا على ما يريد الشباب أو على ما نريده.

    وأما مسألة انتقاد الدعاة فيجب أن نفرح بانتقاد العلماء للدعاة، وقد أشار إليها السائل، ووالله إن هذه في نظري ظاهرة صحية؛ لأن هذا يعني أنهم أدركوا بعض الأخطاء عند الشباب، ويجب على الشباب إذا سمعوا نقداً من عالم أن يقفوا عنده وليتأنوا، فإن كان في تصوره شيء مما يحتاج إلى توضيح فليوضح، مع أني أرى أن الأصل في المشايخ أنهم لا يحكمون إلا بعلم؛ لأنه ربما قد يكون رأيهم في فئات من الشباب، وليس في كل الشباب وهذا هو الصحيح، فكون العالم ينتقد كل جزئية كما هو الحال في حكم التمثيل فهذه مسألة يسع فيها الخلاف، والتمثيل قابل للنقاش شرعاً، وكونه وسيلة من وسائل الشباب للدعوة إلى الله فهو وسيلة عاطفية قد تنفع فتكون مشروعة، وقد يكون عليها محاذير فتكون غير مشروعة.

    والمسألة تحتاج إلى رأي أهل العلم، وأهل العلم مختلفون في مسألة حكم التمثيل، واختلافهم مبني على إدراكهم لنصوص الشرع وقواعد الشرع وأصول الدعوة وأساليبها الصحيحة الشرعية، ويسعهم أن يختلفوا في ذلك، ويسعنا أن نتقبل هذا، وينبغي أن نأخذ هذه الأمور برحابة صدر، وكم فرحنا عندما تكلم المشايخ في هذه الأمور التي يمارسها الشباب، وهذا فتح من الله سبحانه وتعالى، ودليل على أن المشايخ هم الذين سيرشدون الشباب إلى الصحيح، ويرشدون الشباب إلى الخير.

    الحكمة في النصيحة للعلماء والدعاة

    السؤال: تقويم الدعاة وجعلهم في سلالم مما جعل الشباب ينفرون من البعض ويتقربون إلى البعض، وهناك أقول: لا مانع من المناصحة لكن بحكمة وعلم، ولا يكون القصد من المناصحة التشفي؟

    الجواب: هذا كلام صحيح.

    ظاهرة كثرة الكتيبات

    السؤال: الكتيبات الهائلة في الأسواق والتي قد تصل إلى المئات، وأخص منها التي في الجزئيات والتي لا فائدة من ورائها، بل تثير الخلاف أكثر من الإصلاح، أو في جزئيات الفقه لا حاجة لها، وغير هذه الأمثلة كثير جداً، فما رأيكم فيما قلت؟

    الجواب: بالنسبة لبعض الكتيبات عليها مآخذ عديدة، لكن في أغلبها هي نافعة، وكثرتها دليل على إشاعة العلم، ويجب ألا ننزعج من كثرة الكتيبات والكتب، وكنت أتمنى لو يصدر في اليوم الواحد آلاف الكتب وتظهر في السوق، ولو نظرنا إلى حجم هذه الكتيبات التي ترشد الشباب والناس والمسلمين إلى الخير في دنياهم ودينهم، لوجدنا أن نسبتها إلى نسبة هذه التيارات الضخمة العارمة من الفساد في الصحف والمجلات والإعلام والوسائل المرئية والمسموعة والمقروءة الشيء القليل.

    فنتمنى لو تكون دور النشر أكثر من مواد التغذية أو أمكنة المواد الغذائية، وأتمنى أن تكون الكتب أكثر من الأغذية، وهذا هو الأصل وهو المفروض، ولا يضير الناس كثرة الكتب، وإذا كان يضيق وقت بعض الناس عن قراءة هذه الكتب وملاحقتها فالعيب ليس فيها إنما فيه هو، وكان ينبغي أن يقرأ ما يسعه وما يستطيعه وما يتمكن من قراءته، إذاً: فهذه ظاهرة صحية، ونرجو أن تزداد، وأن نسعى إلى نشرها، وإلى الإكثار منها وإشاعتها بين المجتمع، لعلها تنشر بعض الخير وتدرأ بعض الشر الكثير جداً، والذي قد ملأ البيوت والأسواق، بل وملأ كل شيء حتى ملأ الفضاء.

    الولاء للشعارات مخالف لمنهج أهل السنة والجماعة

    السؤال: ما مقصودك بقولك: إن ادعاء العلم ورفع الشعارات أنهم على الحق من منهج أهل البدع؟

    الجواب: أقصد أن الولاء للشعار وقياس الناس على هذا الولاء، بمعنى: أن من والى الشعار كان هو الداعية في أي دعوة ما، ومن والى هذا الشعار ودعا إليه كان هو المقبول وهو المتصدر، فهذا هو من منهج أهل البدع، ومنهج أهل السنة والجماعة أن الإنسان يرتقي إلى الدعوة بعلمه وفضله وسلوكه، سلوكه في سبيل الشرع بتمسكه بالسنة، فكلما كان الشخص أكثر علماً وفقهاً في الدين وعملاً بعلمه وأكثر التزاماً لهدي النبي صلى الله عليه وسلم كان أرقى وأعلى، لكن للأسف هذا الميزان لا يوجد في بعض الدعوات، فبعض الدعوات ليس الميزان عندها هو الفقه في الدين والعلم الشرعي، وإنما الميزان هو الولاء للدعوة، فمن كان موالياً لشعارها بأي شكل من أشكال الولاء فهو المقبول عندهم، حتى ربما قد ينصب زعيماً في هذا الولاء وهو لا يفقه من الدين شيئاً، وقد ربما تكون العجائز أفقه منه.

    حكم ترك الكلام في الجماعات والحركات بحجة الاهتمام بما هو أهم من ذلك

    السؤال: نحن عندما ننشغل بهذه الموضوعات، فنحللها ونصب نار غضبنا في تحليلها، ألا يكون الأجدر أن نتكلم في موضوعات كبيرة تهم المسلمين، كخطر اليهود والنصارى على المسلمين مثلاً، ونترك الكلام في الجماعات والحركات؟

    الجواب: إن الموضوعات التي تهم المسلمين كثيرة جداً، والكلام في موضوع لا يعني أن الموضوع الآخر غير مهم، بل أحياناً قد نتكلم في موضوع أقل أهمية لظرف أو لسبب أو لعذر معين أو بحكم التخصص.. أو إلى آخره، وأظن أن هناك من أهل العلم من تكلم في الموضوعات التي أشار إليها الأخ، وينبغي أن يتكلم الناس في الأمور هذه وغيرها بما يسعهم وعلى نهج السلف رحمهم الله تعالى.

    التحذير من استهداف العلماء بذكر أخطائهم والتركيز عليها

    السؤال: من الأسباب التي أدت إلى فصل العلماء عن الدعاة هو تقصير بعض العلماء بحد كبير، وثمة أسباب لا مجال لسردها، ولكن الشاهد هو: لماذا لا نوزع الأخطاء وأسباب تكوينها بأسباب كثيرة؟

    الجواب: هل يلزم توزيع الأخطاء على الناس بغير حق؟ وهل من العدل أن نحمل أخطاء صنف من الناس صنفاً آخر؟ ما أظن أن هذا مقصوده، لكن لعله يقصد: لماذا لا نعدل، بمعنى: أننا إذا ذكرنا أخطاء الدعاة فلابد أن نذكر أخطاء العلماء، فأقول: إن أخطاء العلماء لا ينبغي أن تكون محل كلام؛ لأننا إذا تكلمنا عن العلماء فنقصد بهم العلماء بالمفهوم الشرعي، وهؤلاء هم الأفضل والأمثل، وكونهم يخطئون فهذا أمر بدهي؛ لأنهم بشر، لكن ليس في أخطائهم خلل منهجي، وليست أخطاؤهم سبباً لأخطاء الآخرين، وهذا في الجملة، ثم إننا إذا استهدفنا العلماء بذكر أخطائهم -وهم الأفضل- فهذا يعني: أنه يكون همنا هو ذكر الأخطاء دائماً ليس إلا، ثم في مثل هذا المقام عندما نقول: العلماء هم الدعاة، فالأصل أن نقرر معنى أن العلماء هم الدعاة، وإذا قررنا هذا فلا سبيل إلى الكلام عن أخطاء بعضهم، بل لا ينبغي ولا يحسن هذا، وليس هذا أيضاً من الحكمة، لاسيما أن أخطاءهم ليست مقصودة، وأخطاؤهم عن اجتهاد له أصول شرعية؛ لأننا نقصد العلماء القدوة الذين هم على الشرع والدين والفقه في الدين، وأخطاؤهم التي عن اجتهاد يؤجرون عليها، لكن الأخطاء الأخرى هي مخالفة للشرع.

    الأثر الكبير للعالم في الأمة

    السؤال: إن بعض الحلول التي ذكرتها طيبة وخاصة في الاحتكاك المباشر بالدعوات في الخارج، وذلك من قبل العلماء، والأمة في أشد الحاجة إلى مثل هذه الخطوات الجريئة الفاعلة، ولكن هذا يستلزم أن يكون للعلماء رابطة فعالة من خلالها يصدرون، وإلا فإن كل عالم سيرى أن المشروع أكبر من حجمه؟

    الجواب: لابد من بذل الوسع بقدر الجهد، والله سبحانه وتعالى مع حسن النية سيبارك بأي جهد، وإذا بذل العالم جهداً في سبيل النصح فسيكون لبذله الأثر الكبير، وأثر العالم دائماً يكون كبيراً جداً أكبر مما نتصور، ولو اجتمعت مؤسسات الدنيا ووسائلها وأساليبها على أن تؤدي ما يؤديه عالم قدوة إمام في الدين ما استطاعت، ونحن بحمد الله عندنا المثل من هؤلاء العلماء، ومن كبار مشايخنا من يعدل في جهوده الفردية التي لا يملك فيها إلا وسائل بدائية جهود أمة، بل يعدل جهود منظمة من المنظمات العالمية التي تملك من الوسائل الجبارة ما لا يملكه إلا بكلمة يصدع بها بالحق ويناصح المسلمين، وهذا من فضل الله على الأمة.

    معرفة العلماء بأحوال الدعوات

    السؤال: علمنا بلا شك أن للعلماء مكانة واحتراماً خاصاً بهم، فعند استفتاء بعض العلماء في أمور الدعوة التي لا يعرف مصالحها ونتائجها الإيجابية إلا من عاصرها، فيفتي -مثلاً- العالم بعدم الجواز في هذا الأمر، فلا نقول: هذا من جهله؛ لأنه ربما لم يطلع ولم يعاصر هذا الأمر، ويعرف نتائجه الإيجابية والمصلحة الراجحة فيه، فأرجو توضيح هذا الأمر والفصل فيه؟

    الجواب: هذا الكلام في الحقيقة جيد، وهو يعالج معاناة كثير من الشباب الذين يسمعون بالشعارات والدعوات.. وغيرها، وكلام السائل أوافقه فيه على الكثير، لكن هناك نقطة لا أوافقه عليها، وهي أن العلماء لا يدركون ما عليه الدعوات؟ فأقول: العلماء يدركون ذلك، لكن منظورهم لهذه الدعوات غير منظور من يعيش فيها أو من يراها، وأنا أعرف أن كبار المشايخ والعلماء يرد إليهم من أخبار الدعوات وأحوالها وأحوال أشخاصها ما لا يرد إلى أتباعها أنفسهم.

    وعندي على هذا البرهان، فمشايخنا الكبار يرد عليهم من أحوال الدعوات وأخبارها وأخبار أصحابها وأخطائهم وحسناتهم أكثر مما يعرفه أتباعها، لكن نظرتهم في التشخيص تختلف لاختلاف الأصل الذي يحكمون به، فهم يقومون تقويم المنصف بين النظرة إلى الحسنات والسيئات، والذين يعيشون للدعوات -سواء المتحمسين لها والمتحمسين ضدها- ينظرون بمنظار واحد، فالمتحمسون ضد الدعوات لا يعرضون إلا الوجه السيئ، والمتحمسون مع هذه الدعوات لا يعرضون إلا الوجه الحسن.

    وأكثر الأسئلة التي ترد إلى المشايخ من هذا الوجه من طائفة لا يرضون ما عليه الدعوات، فيعرضونها بعرض يكاد يكون الجواب فيه، والذين لهم حماس مع الدعوات وأصحابها يعرضون أمرهم على المشايخ بشكل يوحي بالجواب، بمعنى: أنهم يعرضون الجوانب الإيجابية والنافعة، ومع ذلك من العلماء من أنصف وقال قولاً يدل على ترويه، وإن كان لا يعجب لا هؤلاء ولا هؤلاء، وأغلب فتاوى المشايخ في الدعوات لا تعجب الفريقين، لكنها تعجب المتروي المنصف الذي ينظر في الأمر نظرة شرعية تحقيقية، فهذا أمر.

    والأمر الآخر: أنا أرى أن قضية الدعوات الإسلامية كلها في العالم هي من أهم وأخطر النوازل التي تحتاج إلى مزيد وقت ومزيد جهد ومزيد استقصاء ومزيد دراسة، وليس الذنب ذنب العلماء ولا التقصير تقصيرهم، فهم لم يقصروا ولم ينقصهم الوعي والإدراك فيها، إنما أصحاب الدعوات أنفسهم لم يعرضوا أمورهم ومشاكلهم بشكل واف على المشايخ، فهم عندهم مشكلات يريدون من المشايخ أن يرقعوها، وعليهم مآخذ يريدون من المشايخ أن يدافعوا عنها، وهذا هو مسلك لجوء الناس إلى المشايخ، وإلا ففي الحقيقة فإن الأمر يحتاج إلى أن تدرس القضية دراسة وافية وتعرض عرضاً وافياً كما اقترحت، وهذا أمر يدركه سائر طلاب العلم.

    إذاً: فالذنب ليس ذنب المشايخ والقصور ليس قصورهم، بل لم يقصروا في رؤيتهم أبداً؛ لأن عندهم من النظرة الشمولية ما لا يوجد عند كبار رواد هذه الحركات، بل رواد هذه الحركات يعيشون في دوائر مغلقة، والعلماء يعيشون في دوائر مفتوحة لا يحجب دونها أي حاجب ولا حاجز.

    قبض العلم في آخر الزمان

    السؤال: يقول: قد ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم أن العلم يقبض في آخر الزمان وذلك بقبض العلماء، فهل هذا يعني أن آخر الزمان يقل فيه العلماء والدعاة أيضاً؟

    الجواب: هذه المسألة قد تكلم فيها أهل العلم بكلام طويل، لكن هذا الخبر لا يمكن أن يصادم الخبر الآخر، وهو أن الله سبحانه وتعالى تكفل بحفظ الدين إلى قيام الساعة، وأنه لا تزال طائفة من الأمة على الحق ظاهرة ومنصورة إلى أن يأتي أمر الله، وأمر الله قيل: إنه بداية أشراط الساعة، ولذلك فسر المحققون من أهل العلم أن معنى الحديث: (انتزاع العلماء): أنه عند قيام أشراط الساعة الكبرى، أما قبل ذلك فلابد من قائم بالحجة، لكن قد يضعف الأمر ويقل ويكون الإسلام في غربة بعض الوقت، ومع ذلك لا تخلو الأرض من حجة من أهل العلم، يعني: يكون نبراساً للأمة، ومرشداً تستضيء به.

    حكم إشغال الأمة بمسائل خلافية

    السؤال: ما قولكم فيمن يقول: بأن طلاب العلم الشرعي يضيعون الوقت في شرح المسائل والأمة في أحلك ظروفها، وليست الأمة في حاجة إلى ما يدور؟

    الجواب: هذا الكلام مجمل، فإن كان يقصد أن الاستغراق في الجزئيات -كما قال بعض الدعاة وطلاب العلم- التي يسع فيها الخلاف، وإشغال المسلمين بها، مع أن المسلمين فيها يعذر بعضهم بعضاً، فهذا لا شك أنه مسلك خاطئ، وقد يسلكه بعض الشباب -هداهم الله-، فيكون همهم إثارة قضايا يسع فيها الخلاف، والمسلمون في حل من الاختلاف عليها علماً أو عملاً أو الأمرين جميعاً، وعند المسلمين ما هو أهم منها من المنكرات والمآسي، وإغراق المسلمين فيها لا شك أنه خطأ.

    وأما إن كان القصد أن المسلمين لا ينشغلون بالفقه الشرعي بالمسائل الفقهية ومسائل جزئيات العقيدة والأحكام وأن هذا يعتبر خطأ فأقول: لا، ليس هذا هو الصحيح، بل الأصل هو أن يغرق المسلمون في دراسة دينهم بجزئياته وبأحكامه، وهذا هو الأصل، ولن تستقيم أمورهم إلا بهذا، فدراسة العلم الشرعي للعمل والدعوة هو الأصل، لكن المذموم هو نقل المسائل الخلافية -التي يسع فيها الاختلاف- إلى ساحة الصراع والولاء والبراء عليها، واتخاذ المواقف من خلالها، والتشنيع على المخالفين فيها، وهذه ظاهرة بدأت تظهر مع الأسف عند بعض الشباب.

    كثرة طرق الدعوة والخير

    السؤال: يتضايق أحياناً بعض الشباب الصالح؛ لأنهم أوقفوا عن العمل الفلاني، أو لأنهم لم يسمح لهم بتوزيع كذا لأحد المشايخ أو لغيرهم، ولأنه لم يصرح لأحدهم بتوزيع الشريط النافع، فما الحل أمام هذه الأشياء، أرجو إرشادنا؛ لأن كثيراً من الشباب توقفوا عن العمل بسبب ذلك؟

    الجواب: المسألة فيها شيء من التهويل والمبالغة، وهذه من وساوس الشيطان، فطرق الخير والدعوة مفتوحة، وإن أغلق باب منها انفتحت أبواب كثيرة، بل أقول لكم أمر لاحظته وهو: كلما سعى أهل الشر لإغلاق باب من الخير انفتحت عشرة أو أكثر، وهذا لاحظته منذ سنين، ولله في ذلك حكمة، وليس بجهود أحد من البشر أبداً؛ ولذا فلا يضيق صدر المؤمن والمسلم إذا أغلق أمامه باب خير، بل يتسع صدره وينصح ويؤدي كلمة المناصحة للمسئولين وولاة الأمر، وهذا أمر لابد منه في مثل هذه الأمور؛ لأنه قد يشي واش عند المسئولين بأهل الخير فتقع الوشاية موقعها، وقد يهول ذلك بعض الفسقة والفجار -وهذه سنة الله في خلقه- فيهول من التحذير من أهل الخير أو من وجوه الخير، فتقفل بعض أبواب الخير بناء على هذه المشورة الخائنة، فيجب على طالب العلم والداعي إذا رأى باباً من أبواب الخير قد أغلق أن يسعى إلى المناصحة، ويطرق أبواب أهل العلم والمسئولين وأهل الحل والعقد في الأمة، فيبين لهم ويرشد، وهذا أمر ضروري لأمور: أن المناصحة في مثل هذه الأمور أمر ضروري شرعاً؛ لأنه إما أن يؤدي إلى خير وهو الغالب، أو أن يدرأ به شراً، أو تقوم به الحجة على ولاة المسلمين، وهذا مطلوب منا شرعاً، أي: مناصحة من ولاه الله علينا، أو يجعل الله به هيبة لأهل الخير والحق فينصرون بالرعب، لكنّ كثيراً من الدعاة -هداهم الله- ييأسون من إيصال كلمة الحق والنصح لبعض المسئولين، وهذا مسلك خلاف الكتاب والسنة، أليس الله سبحانه وتعالى أمر الأنبياء والمرسلين أن يقولوا النصح وكلمة الخير والقول اللين لمن هم كفار خلص.

    إذاً: فكيف بمن ينتسب إلى الإسلام.

    ثم أمر آخر وهو: يجب أن يكون على بالكم أنه إذا لم تنفع المشورة والنصح، ولم تنفع الكلمة ولم تؤد إلى أي نتيجة فهي إعذار أمام الله سبحانه وتعالى، والإعذار لا يتم إلا بهذا الأسلوب، لا أن يتم بالصياح في المنابر، وإن كان هذا طيب ومفيد.

    ثم أخيراً: أنه في المناصحة والإنكار وبيان الحق وإرشاد المسئولين دفع للبلاء، فكم يدفع الله عن الأمة من البلاء بسبب نصيحة ناصح وأنتم لا تشعرون.

    وعدم المناصحة خلل في المنهج، أعني: منهج اتباع السلف، فالسلف كانوا يناصحون ولاة الأمر براً كان أو فاجراً، حتى الكافر إذا كانت نصيحته تؤدي إلى الخير أو إلى نفع للمسلمين أو إلى درء للفساد عنهم فإن النصيحة له واجبة لا لذاتها وإنما للخير، فهذا شيخ الإسلام ابن تيمية نصح بعض ملوك التتار وتكلم معهم، بل تكلم مع بعض النصارى فيما يحقق مصالح المسلمين، وتكلم مع بعض المشركين الذين سلطهم الله على المسلمين في وقت من الأوقات بما يقتضي النصيحة، فكيف ونحن بحمد الله في بلاد المسلمين، ومع أناس هم من المسلمين، لذا فالمسألة تحتاج إلى تأصيل شرعي، ولابد من أداء النصيحة إعذاراً إلى الله تعالى.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755963715