إسلام ويب

تفسير سورة الأنعام (53)للشيخ : أبوبكر الجزائري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • خلق الله عز وجل الناس لعبادته، فكل الخلق موقوفون على الله عز وجل، مرتهنون إليه بأعمالهم من خير أو شر، فمن أراد النجاة والفوز والفلاح انظم إلى قافلة المهتدين إلى صراط الله المستقيم، فتكون صلاته وأنساكه، وأكله وشربه، وقيامه وقعوده لله رب العالمين، ومن كان غير ذلك فقد هدي إلى صراط المغضوب عليهم والضالين، الذين لا خلاق لهم في الدنيا، ولا نجاة لهم في الآخرة.

    1.   

    مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة الأنعام

    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

    أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.

    ثم أما بعد:

    أيها الأبناء والإخوة المستمعون.. ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة -ليلة الأربعاء من يوم الثلاثاء- ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).

    وها نحن مع خاتمة سورة الأنعام، وقد درسنا هذه الآيات بسرعة في ليلتنا الماضية، ونعيد ما شاء الله أن نعيده منها، فلنستمع إليها مجودة مرتلة ثم نأخذ في شرحها بما يفتح الله تعالى به علينا فيها.

    أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ * قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ * وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [الأنعام:161-165].

    عظيم نعمة الهداية إلى الصراط المستقيم

    معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الأنعام:161]، هذه نعمة من أكبر النعم، فاز بها أبو القاسم صلى الله عليه وسلم، وأمره ربه تعالى أن يعلنها بصراحة كاملة ووضوح تام، هذه النعمة هي التي علمنا الله عز وجل كيف نتوسل إليه لنظفر بها، ونحصل عليها، وهذا ما تضمنته سورة الفاتحة، إذ أمرنا تعالى أن نحمده فنقول: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2]، وأمرنا أن نثني عليه فنقول: الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [الفاتحة:3]، وأمرنا أن نمجده فنقول: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:4]، وأمرنا أن نتملقه ونتزلف إليه فنقول: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]، هذا من أجل أن نسأله الهداية إلى هذا الصراط المستقيم؛ لأن من سلك هذا الصراط نجا، ومن لم يسلكه هلك، من سلك هذا الصراط انتهى به إلى جوار ربه، وسعد في ذلك الجوار الكريم، ومن حرمه وتنكب عنه وضل هلك وشقي وخسر خسراناً أبدياً، اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6].

    ولولا شأن هذا الصراط لما علمنا الله كيف نحمده ونثني عليه ونمجده ونتملقه من أجل أن نسأله فيستجيب لنا ويعطينا سؤلنا، كأنه يقول: قولوا: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:2-5]، أي: لا نعبد إلا أنت ولا نستعين إلا بك، من أجل هذا اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6]، هذا الصراط المستقيم هو الإسلام، دين إبراهيم والنبيين من قبله ومن بعده، وحقيقته: الطريق الذي يصل بك إلى هدفك، إلى حاجتك التي تريدها.

    خطوات الهداية إلى الصراط المستقيم

    تصوروا هذا الصراط كيف يكون؟

    أولاً: الخطوة الأولى قبل أن نخطوها فيه أن نكون آمنا بالله رباً لا رب غيره، وإلهاً لا إله سواه، واعتقدنا كل ما أمرنا أن نعتقده من شأن الغيب والشهادة، فآمنا، ثم نخطو خطواتنا الخطوة بعد الأخرى في هذا الصراط، وكم من مرة كررنا هذه الصورة، وهي أنه بعد سلامة العقيدة ونجاة الطوية وطهارة القلب من الالتفات إلى غير الله كائناً من كان نمشي فننهض بالواجبات، بالأوامر التي أمرنا الله تعالى أن ننهض بها، وأمرنا بها رسوله صلى الله عليه وسلم، من جهة اليمين، وأن نتجنب من جهة الشمال كل ما نهى الله تعالى عنه ونهى عنه رسوله صلى الله عليه وسلم.

    الأوامر تشمل كل العبادات التي شرعها الله لنا من أجل أن يزكي أنفسنا ويطهرها فيرضى عنا ويقبلنا في جواره، فهذه الأوامر التي يجب أن نعرفها من شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، إلى إقام الصلاة وإيتاء الزكاة إلى صوم رمضان وحج بيت الله الحرام، إلى الجهاد، إلى بر الوالدين، إلى الإحسان، وسائر تلك الأوامر التي تضمنها كتابه القرآن الكريم، وبينتها سنة رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، القيام بها والنهوض بها في جد، والإتيان بها على الوجه المطلوب.

    ثم الجانب الأيسر أن نتجنب كل ما نهى الله عنه ورسوله من النظرة إلى الكلمة إلى اللقمة الحرام إلى أدنى معصية من معاصي الله ورسوله تجنباً تاماً، ونواصل السير في طريقنا إلى أن نلفظ آخر أنفاسنا ويقال: توفي فلان ومات، وقد تطول المدة إلى أربعين سنة خمسين ستين سبعين سنة وأنت سالك هذا الطريق، فإن أنت استعنت بالله حق الاستعانة وطلبته العون فأعانك فسوف تواصل سيرك آمناً مطمئناً إلى أن تلفظ أنفاسك وتلتحق بالملكوت الأعلى، هذا هو الصراط الذي هدى الله تعالى إليه رسوله، وأمره أن يعلن ذلك إعلاناً: قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الأنعام:161]. ومن هنا فالهداية لن تظفر بها إلا إذا طلبتها في صدق من الله، الهداية يملكها الله دون غيره، فمن وفقه الله لطلبها والتوسل إلي، ليهديه إليها هداه، ومن استنكف أو استكبر أو أعرض أو تجاهل ولم يطلب فأنى له أن يهتدي؟

    موكب النبيين المنعم عليهم بالهداية إلى الصراط المستقيم

    والله علمنا كيف نتوسل إليه: نحمده، نثني عليه، نمجده، نتملقه، ونقول: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الفاتحة:6-7]، لا صراط المغضوب عليهم من اليهود، ولا صراط الضالين من النصارى.

    والذين أنعم عليهم من هم؟ بنو هاشم؟ بنو تميم؟ بنو كذا؟ لقد بينهم تعالى في كتابه إذ قال عز وجل: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا [النساء:69]، هل عرفتم المواكب الأربعة؟

    أول موكب هو موكب النبيين، وهذا لا مطمع لنا في الحصول عليه، فالنبوة والرسالة والوحي الإلهي يصطفي الله تعالى له من يشاء ويختار من يريد، ويعده لذلك ويهيئه وهو في أصلاب آبائه وأرحام أمهاته، فلا تأتي النبوة بطلب وإلحاح، لو طلبت النبوة ألف سنة فلن تحظى بها، وإنما يختار الله من هو أهل لذلك ويصطفيه ويجتبيه ليبعثه داعياً إليه أو ليعلم به عباده، أما غير النبيين من المواكب الثلاثة ففي إمكان كل واحد منا أن يظفر بها.

    موكب الصديقين المنعم عليهم بالهداية إلى الصراط المستقيم

    الموكب الأول: موكب الصديقين والصديقات أيضاً، وإنما يذكر تعالى الرجال إكراماً للنساء، فلا يذكرهن مع الرجال، ومراعاة أيضاً لكرامة الفحول، فالفحل بحق لا يرضى أن تذكر امرأته أبداً إلى جنبه أو تكون معه.

    إذاً: من منا يقول: إني إن شاء الله لمن الصديقين؟ اسمعوا بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول عليه الصلاة والسلام: ( عليكم بالصدق ) الزموه، لا تفارقوه، لا تبتعدوا عنه، شدوا عليه، عضوا عليه بالنواجذ، عليكم بالصدق لا تفارقوه طول حياتكم؛ ( فإن الصدق يهدي إلى البر ) إلى فعل الخير مطلقاً ( وإن بر يهدي إلى الجنة لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران:92]، ( ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً )، لهذا نأمل -بل نرجو، بل نرغب، بل نطمع- أن نكون من الصديقين؛ إذ لا يكلفنا الصدق مالاً ولا جهداً، فقط نلتزم به، فلا نقول كلمة إلا ونحن صادقون فيما نقول، فلا نخبر بخبر إلا ونحن صادقون فيما نخبر به، فلا نعمل عملاً إلا ونحن صادقون في هذا العمل غير كاذبين ولا مفترين، فلا نعتقد مسألة إلا إذا كانت حقاً وصدقاً، ولا نزال كذلك نطلب الصدق ونتحراه في سلوكنا، أعمالنا، أقوالنا حتى يمن الله علينا بالصدق، ويأتيك الختم الأخير أنك من الصديقين، ومعنى هذا: أنك ما أصبحت تسمع كذباً بيننا، لو دخلت قريتنا وعشت معنا عشر سنوات فما تستطيع أن تثبت أن واحداً منا كذب، لماذا؟ لأننا رغبنا أن نكون مع موكب الصديقين.

    إذاً: هيا باسم الله، من الآن ندخل في زمرة الصديقين، اللهم سامحنا فيما كذبنا، فيما مضى من أعمارنا، ومن الليلة: يا ربنا نعاهدك على ألا نكذب قط لا على ميت ولا على حي.

    موكب الشهداء المنعم عليهم بالهداية إلى الصراط المستقيم

    ثانياً: الشهداء. هذا الموكب الثالث، كيف نكون شهداء، نكون شهداء بالنية الصادقة، بأن ننوي أننا متى أمر إمام المسلمين بالجهاد وقال: حي على الجهاد اندفعنا بأنفسنا وأموالنا في صدق ونية ثابتة راسخة، قل هكذا: إن يدع إمام المسلمين إلى الجهاد تقدمنا. هذه النية أخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم أن صاحبها في عداد الشهداء ولو مات على فراشه.

    الجهاد أهله شهداء، فما الجهاد؟ بذل النفس والمال من أجل إعلاء كلمة الله عز وجل، أي: من أجل أن يعبد الله تعالى وحده ولا يعبد معه غيره، من أجل أن يعبد الله بما شرع من العبادات المزكيات للنفس المطهرات للروح، الجالبة لسعادة الدنيا والآخرة لأهلها، هذا الجهاد لن يتم إلا تحت راية إمام من أئمة المسلمين يدعو إليه ليجاهد المسلمون لنشر كلمة العدل والرحمة والخير في البشرية.

    أقول لكم: احمدوا الله تعالى أن الله أراحكم في هذه الفترة من الجهاد، احمدوا الله عز وجل، ولكن ليس معنى هذا أننا فرحون مسرورون، بل نحن نقول: الأمر لله، ما دام الرسول صلى الله عليه وسلم قد أخبرنا أن ننوي الجهاد فمتى دعينا إليه فنحن في عداد المجاهدين، ومن مات منا على هذه النية فهو من الشهداء.

    موكب الصالحين المنعم عليهم بالهداية إلى الصراط المستقيم

    والموكب الرابع: موكب الصالحين، الصالحون عند آبائنا وأجدادنا هم أولياء الله الذين ماتوا وعبدوا مع الله عز وجل فذبحت لهم الذبائح وحلف بأسمائهم، وعكف على قبورهم، وارتحل الناس إلى زيارتهم، هؤلاء هم الصالحون، هم أولياء الله، أما من عداهم فما هم بصالحين، يسبك، يشتمك، يختطف مالك من يدك، يعتدي على عرضك ولا يبالي، لا يفهم أنك أنت عبد صالح من أولياء الله أبداً، حصروا الولاية والصلاح في الموتى، أما الأحياء فقل ما يوجد فيهم صالح، نادر ندرة الذهب، وسر هذا -كما علمتموه- ليستبيح المؤمنون دماءهم وأعراضهم وأموالهم فيهبطوا إلى الحضيض في الأرض، وتسلب منهم ولاية الله وكرامته، ولكن بعد أن عرفنا الطريق إلى الله عرفنا من هم أولياء الله والصالحون من عباده، أولياء الله هم المؤمنون المتقون سواء كانوا بيضاً أو سوداً، رجالاً أو نساءً، فقراء وأغنياء، كيفما كانت حالهم وظروفهم، كل مؤمن تقي فهو لله ولي، وما الصالحون غير الأولياء، الصالح من أدى حقوق الله وافية كاملة لم ينقص منها شيئاً، وأدى حقوق الناس -حقوق عباد الله- كاملة تامة غير منقوصة، ذلكم هو العبد الصالح، من أدى حقوق الله لم يبخسها ولم ينقصها أبداً، أداها كما هي في حدود طاقته وقدرته، وأدى حقوق غيره: حقوق الزوجة، حقوق الولد، حقوق الجار، حقوق الصاحب، حقوق التلميذ، حقوق القريب.. حتى حقوق الكفار، إذا كان للكافر حق عليك فيجب أن تؤديه، فالذي يؤدي حقوق الله ما ينقصها، ويؤدي حقوق الناس -العباد- ما ينقصها ذلكم هو العبد الصالح.

    ولهذا فهذا الموكب دخل فيه الأنبياء والشهداء والنبيون، ودخل فيه الصالحون؛ إذ ما من نبي إلا وهو صالح من باب أولى، ما من شهيد إلا وهو صالح، هذه المواكب الأربعة صراطهم هذا الذي نسأل الله أن يهدينا إليه، ما عرفوا الخيانة، ولا التلصص، ولا الإجرام، ولا العبث، ولا السرقة، ولا الشرك، ولا الباطل، بل استقاموا على هذا الصراط يؤدون الواجبات وينتهون عن المحرمات بعدما امتلأت قلوبهم بنور الله، فلا يرون إلا الله، فلا يلتفتون إلى غير الله، أعطوا لله الوجوه والقلوب وساروا في هذا الطريق إلى نهاية حياتهم، هؤلاء هم المواكب الأربعة.

    وهكذا نعيد تلاوة الآية الكريمة: قُلْ [الأنعام:161] يا رسولنا إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الأنعام:161]، ولا ننسى أن الهداية لن تكون إلا من الله عز وجل، اقرع بابه، ناده، استغث به، تضرع بين يديه تحصل على هذه الهداية، دِينًا قِيَمًا [الأنعام:161] مستقيماً لا انحراف فيه ولا ميل، وهو مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الأنعام:161].

    إذاً: فالذي يستقيم على هذا المنهج ليسلك هذا الطريق حاشاه أن يكون من المشركين.

    مظاهر الشرك بالله تعالى

    وهنا يجب أن نعرف الشرك الذي تورط فيه إخواننا، آباؤنا، أجدادنا طيلة ألف سنة تقريباً، هذا الشرك له مظاهره، نبدأ بذكر ما يمكن منها:

    أولاً: أن تحلف باسم غير اسم الله، فلا يجوز لك أن تفعل ذلك أبداً، فلا تحلف بالنبي ولا بالكعبة ولا بأبي ولا أمي، ولا بكائن ما كان، ولا تلتفت إلى من يجيز لك ذلك أو يسوغه لك، لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( من حلف بغير الله فقد أشرك )، رواية الترمذي الصحيحة: ( من حلف بغير الله فقد أشرك )، أي: أصبح مشركاً، أشرك يشرك فهو مشرك، أشرك بالله غيره، أخذ عظمة الله وأعطاها لغير الله، فهذا الذي حلفت به عظمته، أكبرته، أجللته، رفعته، سويته بالله في العظمة والجلال، وإلا فكيف تحلف به؟

    وهذه زلة من أفظع الزلات وقع فيها البلايين من جهلة هذه الأمة، والذين ما عرفوا الأوامر ولا النواهي، فاحذر الحلف بغير الله.

    ثانياً: الاستعانة وطلب العون من غير الله شرك من أعظم أنواع الشرك، فلا تستغث بولي ولا نبي ولا صاحب، ولا بملك من الملائكة، لا تسأل سوى الله، لا تطلب حاجتك إلا من الله، علماً منك أنه لا يقدر على إعطائك إلا الله، علماً منك أن الذي تدعوه وتستغيث به وتسأله ما يراك ولا يسمع صوتك، ولو سمع ورأى فوالله ما قدر على أن يمد يده إليك، هذه عقيدة الموحدين، هذه عقيدة إبراهيم الخليل عليه السلام.

    فالذي يسأل غير الله ميتاً أو حياً معناه أنه جعله مثل الله، نصبه منصباً يساوى بمنصب الله، وطلب منه قضاء حاجته، ومع هذا أذن الله لنا أن نطلب الحاجات من بعضنا، إذا كان أخوك يسمعك إذا ناديته، ويقدر على أن يناولك الكأس أو الإناء أو السيف أو الرمح، فيجوز أن تدعوه، تسلط عليك ظالم فلك أن تستغيث بالجيران بإخوانك: يا فلان! أنقذوني .. أدركوني، هلكت. يجوز ذلك، أذن الله فيه، أما أن تدعو غائباً أو ميتاً وأنت في المدينة وتقول: يا مولى بغداد! يا راعي الحمراء! هكذا ينادون عبد القادر في الشرق والغرب، فهل يسمع صوته؟ هل يعرف حاله؟ هل يقدر على أن يمد يده إليه وينقذه؟ الجواب: لا. فكيف يشيع هذا بين أهل القرآن؟ فأكثر المسلمين قبل خمسين سنة أو ستين هذه حالهم علماء وجهالاً إلا من شاء الله عز وجل، يدعون غير الله ويستغيثون بغير الله، ويسألون غير الله، يستعيذون بالجن، وهل الجني يقدر على أن يحميك، على أن يحفظك؟ ويتقربون إليهم بالذبح: عليك بتيس أسود اذبحه يشف مريضك، أو تتعاف مما أنت فيه، بمعنى: اعبد غير الله، اعبد الشيطان تكمل وتسعد أو تنجو من المرض والتعب، إلى هذا الحد!

    إذاً: من مظاهر الشرك الاستغاثة، والاستعاذة، وسؤال غير الله عز وجل، إلا إذا سألت من يسمعك ويراك ويقدر على أن يعطيك فلا بأس.

    أرأيت لو مررت بأخيك واقفاً على خربة وهو ينادي: يا أهل الدار! إني جائع، يا أهل البيت! أخوكم محتاج. أسألك بالله: أترضى له بهذا أو ماذا تقول له؟ تقول له: يا عبد الله! ما في البيت أحد، هذا بيت خرب ما هو بمسكون، فمن تنادي؟

    فلم إذا وجدته على قبر ينادي: يا سيدي! يا فاطمة! يا حسين، يا رسول الله؛ تسكت، لقد غششته وخدعته، هل يستجاب له؟ لو يقف أمام قبر الرسول سنة كاملة: يا رسول الله! افعل بي كذا، هل يستجاب له؟ هل الرسول يسمعه أو يراه؟ وإن فرضنا أنه سمع ورأى فهل يقدر على أن يعطيه؟ ولكنه الجهل والعياذ بالله تعالى.

    إذاً: مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الأنعام:161]، ما كان أبداً ولن يكون من المشركين، فالذي نهج هذا المنهج الحق وسلك هذا الصراط المستقيم لن يكون من المشركين أبداً، ولن يقع في الشرك بحال من الأحوال، فقولوا: اللهم نجنا من الشرك وأبعدنا من ساحته.

    أوزار الآخرين وأعمالهم وما يكون للعبد منها

    وقوله تعالى: وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [الأنعام:164] لنعلم يقيناً أن فلاناً إذا أذنب في العراق أو الشام أو في طرف المدينة وأنت في طرفها فوزره لا تتحمله أنت أبداً، ووزرك أنت -أي: ذنبك الذي تحملته- لن يتحمله معك، هذا قضاء الله وحكمه: (لا تزر) أي: لا تحمل وازرة ذنب أخرى، هذه قاعدة.

    لكن إذا كنت أنت السبب في هذا الوزر فإنك تتحمله معه، إذا كنت أنت نشرت هذه البدعة، أو دعوت إلى هذا الباطل، وعمل به، فأنت تشاركهم في الوزر، وتحمل معهم الذنب، لا أنك تنجيهم وتنقذهم من الإثم، ولكن تتحمل معهم أيضاً الوزر والإثم، ومثل هذا في العمل الصالح: إذا أنت بنيت مسجداً أو أوقفت داراً للفقراء والمساكين فإنك تموت ولا ينقطع عملك، ويبقى أجرك وثوابك مستمراً ما بقي ذلك؛ لأن هذا من عملك والله يقول: وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى [النجم:39]، وهذا يعتبر من سعيك، والكلمة الطيبة تقولها فتنقل عنك فينفع الله بها تثاب على تلك الكلمة وتعطى مثل أجر كل من عمل بها.

    وفي هذا يبين الرسول صلى الله عليه وسلم فيقول: ( إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث )، إذا مات الآدمي وقف العمل سواء كان صالحاً أو كان طالحاً، فلم يستمر بموته، إلا في هذه الثلاث مسائل:

    الأولى: الولد، يموت ويترك ولداً صالحاً يدعو له ويتصدق عليه، ويستغفر له، فإنه ينتفع بولده.

    ثانياً: أن تكون له صدقة جارية ما تنقطع، بئر يحفرها في الطريق، مسكن يبنيه للفقراء والمساكين، علم يعلمه، كتاب ينفع الله به يستمر أجره ما دام ذلك الجزء موجوداً.

    ثالثاً: علم ينتفع به، من علم الناس الهدى فاهتدوا فله أجرهم مهما كان.

    إذاً: يجب أن نفهم قول ربنا: وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [الأنعام:164] على أن الإنسان لا يتحمل ذنب الآخر، ولا هو يتحمل ذنبك، بل يجزى كل بما كسب.

    وعلى ذلك -يا معاشر المستمعين والمستمعات- فالواجبات الأوامر هي أعمال من شأنها تزكية النفس وتطهيرها، الروح البشرية نفس الإنسان التي لولاها ما تكلمنا ولا تحركنا، ولا سمعنا ولا أبصرنا، هذه الروح التي تعمر هذا الجسم وتسكنه، هذه تتأثر بأعمالنا، فإن كان العمل صالحاً طابت وطهرت، وصفت، وإن كان العمل فاسداً -أي: ذنباً حرمه الله عز وجل- فإنها تتأثر به، فتصاب بالظلمة والعفن والنتن.

    فمن هنا إذا أنا قمت أصلي فإني أزكي نفسي، وأنت إذا قمت تغني هناك فأنت تدسي نفسك، فلا يلحقني من غنائك ولا يلحقك من صلاتي، اللهم إلا إذا أعنتني على صلاتي أصبح لك فيها نصيب، وأنا إذا أعنتك على الأغاني وشجعتك عليه يصبح أيضاً علي نصيب من هذا الوزر، عملاً بقوله تعالى: وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى [النجم:39] وهذا سعيي وسعيك.

    سنة الله تعالى في تعاقب الخليقة على الأرض وتفاضلهم في أمور الحياة

    وقوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ [الأنعام:165] عرفنا أننا يخلف بعضنا بعضاً، أنا خلفت والدي، ويخلفني ابني، وجيل يخلف جيلاً، هذه سنة الله عز وجل.

    وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ [الأنعام:165]، عرفناه بوضوح، منا الغني ومنا الفقير، والعالم والجاهل، الشريف والوضيع، الصحيح والمريض، فمن فعل هذا؟ لو شاء الله لجعلنا كلنا أغنياء، ولو شاء لجعلنا كلنا علماء، لو شاء لجعلنا كلنا مرضى، لكن لماذا فرق بين هذا وهذا؟ ما العلة؟ لابتلاء، الامتحان؛ لأن هذه الدار ليست دار بقاء وحياة واستمرار، بل دار ارتحال وانتقال، دار عمل، فهو تعالى ابتلانا بالغنى والفقر، والصحة والمرض، والجهل والعلم، والذكاء والبلادة ليختبرنا: هل أرباب العلم يعلمون علمهم ويعملون به؟ هل أرباب الصحة يعبدون بها الله ويجاهدون به في سبيله، هل أهل الأمراض يفزعون إلى الله ويلوذون بجنابه، ويطرحون بين يديه ولا يسألون غيره؟ كل هذا من الامتحان: لِيَبْلُوَكُمْ أي: يمتحنكم ويختبركم.

    وهذه هي الحقيقة: اعلموا أننا خلقنا للابتلاء، لا تفهم أنك مخلوق لغير الابتلاء، لا بد أن تمرض وأن تصح، وأن تغنى وأن تفتقر، وأن تعز وأن تذل، لا بد من هذا، ولكل سبب، العز له سبب، الذل له سبب، الغنى له سبب، الفقر له سبب، الصحة لها سبب، المرض له سبب، فمن خالق الأسباب؟ الله عز وجل، فمن أخذ بالأسباب مستعيناً بالله وصل إلى غايته.

    سرعة أخذ الله تعالى وعقابه وسعة مغفرته ورحمته بعباده

    والجزاء ليس اليوم، وإن كان الجزاء أيضاً قد يتم في هذه الدنيا لقوله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ [الأنعام:165] والعقاب: المعاقبة، أي: الأخذ بالذنب، إذا تم الذنب أخذك به كالذي يجري وراءك ويأخذك من عقبك، فالعقاب الله سريع به، ولا تفهم من السريع أنه الآن، قد يمهلك عشرين سنة، قد يمهل أمة مائتي سنة، ألف سنة، لحكم عالية، ولكن إذا أخذها فإنه أخذ العزيز المقتدر، هذا عذاب دنيوي وعقاب في هذه الدار، أما عقاب الآخرة فهو العقاب الخالد الأبدي الذي لا نهاية له.

    وقوله: وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [الأنعام:165] بشرى، هذه صفات الله عز وجل، فكما أنه يغضب هو يرضى، كما أنه يعذب هو يرحم، هذه صفات الجلال والكمال لله عز وجل، وعلمنا أن من استمر على المعاصي ولم يتراجع ولم يتب وأخذ فإنه يأخذه الله عز وجل بهذا، وأن من تاب إليه قبله وفتح الباب له، ومن استغفره غفر له، ومن طلب رحمته رحمه، وهذه هي كمالاته وهذا جلاله وكماله عز وجل.

    قال تعالى: قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الأنعام:161] ولم نكن نحن -أتباعه- أيضاً من المشركين. قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162-163]، قلت لكم: هذه الآية وقف، عرفتم أننا موقوفون على الله، كالأوقاف في المزارع والمباني، فأكلنا، شربنا، نكاحنا، زواجنا، طلاقنا، بناؤنا، هدمنا، سفرنا.. كله يجب أن يكون لله، لا تطلق إلا إذا رضي الله بطلاقك، لا تتكلم إلا إذا أذن الله بكلامك، لا تنم ولا تستيقظ إلا كذلك، فنحن وقف على الله عز وجل، هذا إمامنا، سيدنا، خاتم أنبيائنا رسول الله أعلمه الله أن يقول هذا، أن يعلن أنه وقف على الله، فكيف لا نكون نحن موقوفين على الله؟ فلهذا لا نباشر المعاصي ولا نجالس أهلها؛ لأننا وقف على عبادة الله وطاعته.

    قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ [الأنعام:164]، الضلال والجهال يحاولون من المؤمنين أن يكونوا مثلهم في خرافاتهم، في بدعهم، في ضلالاتهم، فالله يقول للرسول: قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ [الأنعام:164]، وتقول أنت: أغير الدين السليم الصحيح نبغي ديناً؟ أغير السنة وهدي الرسول صلى الله عليه وسلم نطلب علماً آخر؟ تستنكر هذا وتتعجب منه؛ إذ الرسول دعوه إلى أن يعبد معهم إلههم عاماً بعد عام، فأمره الله تعالى أن ينكر هذا وأن يستنكره: قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ [الأنعام:164].

    والله تعالى أسأل أن يميتنا ويحيينا على ملة إبراهيم حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755771018