إسلام ويب

تفسير سورة التوبة (5)للشيخ : أبوبكر الجزائري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • زعم بعض رجالات قريش أنهم يفعلون مع بيت الله الحرام ما لم يفعله غيرهم من عمارته وسدانته وسقاية الحجيج وغير ذلك، فرد الله عليهم بأن فعلهم هذا لا ينفعهم مع إشراكهم بالله وعبادتهم للأصنام التي يضعونها حول الكعبة، بينما المؤمنون الصادقون الذين يؤمنون بالله، ويؤمنون باليوم الآخر، ويقيمون الصلاة، ويؤتون الزكاة، ويقومون بسائر ما فرض الله عليهم، فأولئك هم المهتدون حقاً، وأولئك هم عمار مساجد الله عز وجل صدقاً وعدلاً.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله ...)

    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

    أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

    ثم أما بعد:

    أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة واللتين بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).

    وها نحن ما زلنا مع سورة التوبة -تاب الله علينا وعلى كل مؤمن ومؤمنة-، وهانحن مع هاتين الآيتين المباركتين، فهيا بنا نصغي مستمعين إلى تلاوتهما مجودتين مرتلتين ونحن نتأمل ونتفكر، ثم بعد ذلك نشرع في تدارسهما، والله تعالى أسأل أن ينفعنا وإياكم بما ندرس.

    أعوذ بالله من الشيطان الرجيم مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ * إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ [التوبة:17-18].

    معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! ما زال السياق في إحباط شرك المشركين وإبطال باطلهم، بعد أن أعلنت الحرب عليهم حتى لا يبقى في أرض الجزيرة مشرك، فجاءت الآيات تبين مظاهر عيوبهم وفسادهم وشرهم، إذ بذلك استوجبوا القتل والطرد من هذه الديار، فقول ربنا جل ذكره: مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ [التوبة:17]، إذ ادعى العباس رضي الله عنه لما أسر بأنه يقوم بما لم يقم به المسلمون من السدانة والرفادة وصيانة البيت وحرمه، وقالها غيره أيضاً ويعتزون، حتى إنهم ليرون أنهم أفضل من المسلمين، فأبطل الله هذه الدعاوى كلها وقال -وقوله الحق-: مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ [التوبة:17]، ليس من شأنهم ولا من ما يتهيأ لهم ولا هو ممكن لهم أن يعمروا مساجد الله وهم مشركون، إذ لو سألت مشركاً ما دينك؟ يقول: أنا مشرك، ولو سألت يهودياً: ما دينك؟ يقول: يهودي، ولو سألت نصرانياً: ما دينك؟ يقول: مسيحي، ولو سألت صابئ: ما دينك؟ يقول: صابئ، ولو سألت مسلماً: ما دينك؟ يقول: مسلم، فكل تلك الدعاوى باطلة، لا نصرانية ولا يهودية ولا مجوسية ولا بوذية ولا شرك، وإنما الإسلام الذي هو إسلام القلب والوجه للرب تبارك وتعالى، فلا إله غير الله ولا ربك سواه.

    مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ [التوبة:17]، ومن أعظمها وأجلها المسجد الحرام، وهم يدعون أنهم يعمروه بالسقاية وما إلى ذلك، وعمران المسجد لا يكون بالماء ولا بالطعام، فعمارة المسجد تكون أولاً بعبادة الله تعالى وحده فيه، بوجود العابدين والعابدات والذاكرين والذاكرات، والمقيمين للصلاة، ويعمر أيضاً بتطهيره من الرجس والنجس وكل الأقذار، وبتطهيره أيضاً من الأصنام والتماثيل، وما يعبد مع الله عز وجل، والمشركون يطوفون شوطاً ويسجدون لآلهتهم بعد فراغ الشوط، إذ كان حول الكعبة ثلاثمائة وستون صنماً، يطوف ثم يأتي فيسجد للصنم، فهل هذا يعمر مسجد الله؟!

    فهذا أفسده وخربه، والآية تدل على تعظيم بيوت الرب تبارك وتعالى، وإن كان السياق يتناول المسجد الحرام فهو لفظ شامل لكل مكان يعبد فيه الله عز وجل بما شرع، تقام فيه الصلاة ويعبد فيه الله بما شرع من العبادات، إذ المسجد مكان السجود، أما المسجد يعبد فيه غير الله، فليس هذا ببيت لله، حتى تطهر تلك الأرض المقدسة من وجود الشرك والمشركين.

    أنواع الشرك

    وقوله تعالى: مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ [التوبة:17]، ينبغي أن نعلم معشر المستمعين والمستمعات! أن الشرك له ثلاثة أودية أو سبل أو طرق:

    أولاً: الشرك في ربوبية الله عز وجل بأن يعتقد الإنسان أن هناك من يضر وينفع ويعز ويذل ويعطي ويمنع ويحيي ويميت مع الله عز وجل، كالذي يعتقد أن هناك من يخلق أو يرزق أو يدبر الحياة، فهذه ربوبية الله وحده لا يشاركه فيها سواه، لا خالق ولا رازق ولا مدبر ولا محيي ولا ميت إلا الله عز وجل، فمن أشرك فيه صنم أو حجراً أو إنساناً أو ملك من الملائكة أو نبياً من الأنبياء فقد أشرك في ربوبية الله تعالى، أي: شاركه بشخص في ربوبيته وجعله يحيي كما يحيي الله أو يعز ويمنع كما يعز ويمنع الله.

    ثانياً: الشرك في عبادة الله، كالذي يعبد مع الله غيره: من ملائكة في السماء أو أنبياء ومرسلين في الأرض أو أولياء وصالحين بين الناس إلى الأشجار والأحجار، حتى الفروج عبدوها وألهوها، كل من عبد مع الله غيره ولو بسجدة يسجدها فقد أشرك في عبادة الله عز وجل غير الله، والله لا إله إلا هو، لا شريك له، لا في ربوبيته ولا في عبادته، فكل من عبد غير الله بأية أنواع العبادة فقد أشرك في عبادة الله، وهو يومئذٍ مشرك يجب أن يتوب إلى الله ويتخلى عن الشرك.

    ومن الأمثلة القريبة الذي يدعو غير الله بأن يفرج كربه، أو ينفّس همه، أو يعطيه حاجته، يا سيدي فلان! يرفع يديه يسأله، فقد أشرك، فهو -والله- مشرك في عبادة الله عز وجل، إذ الدعاء هو العبادة.

    الدعاء هو العبادة، كل العبادات داخلة في الدعاء، وقد ضربنا لذلك المثل: ارفع يديك يا عبد الله! ولنقرأ عنك ماذا تفعل؟ هذا العبد فقير، علامة فقره رفع كفيه إلى ربه، هذا العبد مؤمن بربه، وأنه يسمع الدعاء، ويقدر على الإجابة والعطاء، ولهذا رفع كفيه إليه وسأله، عرف أنه لا إله إلا الله يعطي ويمنع، ويضر وينفع، فلهذا ما قال إلا: اللهم يا رب يا رب، فالدعاء هو العبادة.

    والصنف الثالث من الشرك: الشرك في أسماء الله وصفاته، فمن قال: يد الله كيد إنسان، أشرك هذه اليد في يد الله تعالى وهي بريئة منها.

    أو قال: علم الله، أو سمعه، أو بصره، أو قدرته كقدرة فلان أو فلان، فقد أشرك في صفات الله غير الله، وتعالى الله أن تشبه صفاته صفات المحدثين.

    فنحن مخلوقون مربوبون وهبنا الله أسماعنا وأبصارنا لنسمع ونبصر، وأيدينا لنأخذ ونعطي، وأرجل لنمشي ونقف ونقعد، بحسب حالنا وضعفنا، أما الله عز وجل قدمه ويده مستحيل أن تشبه يد أو قدم في الكون، كيف لا وهو خالق الكل؟! مستحيل أن يكون كخلقه، فلا بد من توحيد الله تعالى في أسمائه وصفاته، فقل: لا إله غير الله، لا شبيه ولا نظير لله، في صفاته وأسمائه، كما هو في ذاته عز وجل، وفي ربوبيته وألوهيته.

    ومن أشرك خسر خسراناً أبدياً، فاحذروا الشرك، فإن من مات عليه لا نجاة له، واقرءوا لذلك قول الله تعالى على لسان عيسى ابن مريم، وإذ قال عيسى: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ [المائدة:72]، وكل مشرك ظالم؛ لأنه وضع الشيء في غير موضعه، أليس هذا هو الظلم؟ بدل أن يذكر الله ذكر فلاناً، بدل أن يسجد لله سجد لفلان، بدل أن يرهب ويخاف الله رهب وخاف فلان، أشرك مع الله في صفاته.

    وجوب تحقيق معنى: (لا إله إلا الله)

    أصناف الشرك ضروبه ألوانه أنواعه ثلاثة.

    أولها: الشرك في ربوبية الله، بأن تعتقد أن كائناً في العوالم كلها يفعل ما يفعل الله، ويقدر على ما يقدر عليه الله، وجود هذا الجزء في النفس شرك في ربوبية الله تعالى، فالله لا رب غيره، ولا إله سواه، إذ هو رب كل شيء ومليكه، الله خالق كل شيء، فالمخلوقات من الملائكة والأنبياء والصلحاء والصالحين، يكونون شركاء له وهو خلقهم؟! كيف يكون هذا؟!

    ثانياً: العبادة وأعظمها الدعاء، من سأل غير الله؟! يا سيدي فلان، يا رسول الله، يا فاطمة ، يا عبد القادر ، يا أولياء الله، وناداهم؛ ليسأل حاجته منهم فقد أشرك في عبادة الله عز وجل وهلك.

    ومن يذبح ذبيحة يتقرب بها إلى جني يخافه ويرهبه، فذبح له هذه الشاة، أو هذا الديك من الدجاج، فقد عبد غير الله عز وجل، قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162-163].

    فالذين يذبحون للأولياء ويتقربون بها إليهم تحت عنوان مولد أو موسم أو ذكريات، فكل هؤلاء أشركوا في عبادة الله غير الله، وما حققوا معنى لا إله إلا الله، أو ما فهموها، إذ معنى لا إله إلا الله، لا معبود يستحق أن يُعبد في العوالم كلها إلا الله؛ لأنه الخالق المدبر، والكل مخلوق مدبر، مأمور ومنهي، فكيف يعبد مع الله؟

    ثالثاً: الشرك في أسماء الله وصفاته، قولوا دائماً: لا إله إلا الله، ليس كمثل الله شيء أبداً، أسمائه وصفاته نتلوها ونرددها وكلنا يقيناً أنها لا تشبه صفات المحدثين والمخلوقين؛ لأنه الخالق وهؤلاء المخلوقون.

    بيان شهادة المشركين على أنفسهم بالكفر

    قال تعالى هنا رد على المشركين: مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ [التوبة:17]، يعني: المسجد الحرام، وادعوا أنهم هم القائمون به، شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ [التوبة:17]، إذ كلما طاف شوطاً سجد لصنم.

    شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ [التوبة:17]؛ لأنهم أبوا أن يؤمنوا برسالة محمد صلى الله عليه وسلم الخاتمة، وبدينه الإسلام الشامل، وحربهم للرسول والمؤمنين من أجل الإسلام شرك أيضاً، فهم يشهدون به ويعرفونه، شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ [التوبة:17].

    ثم قال تعالى: أُوْلَئِكَ [التوبة:17] البعداء، حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ [التوبة:17] أولاً حجهم واعتمارهم، وماؤهم يسقون به الحجاج، وحمايتهم للمسجد الحرام كما يقولون، كل ذلك بطل مفعوله، -والله- ولا حسنة يثابون عليها.

    وهذه قاعدة: الكافر لا يثاب على فعل الخير أبداً، وإن كان قد يثاب عليه في الدنيا، فلو أن كافراً يبني مستشفى أو مدرسة أو يأوي فقراء ومساكين، قد يجزيه الله ويبارك له في ماله أو في عمره، أما أن يجزى بالنعيم المقيم في دار السلام -فوالله- ما كان، فالمشركون الكافرون هم أصحاب النار فيها خالدون.

    إذاً: أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ [التوبة:17]، التي يدعون أنها أعمال خير وصلاح كما قال العباس ، وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ [التوبة:17]، يا عباد الله! هل تعرفون عن النار شيئاً؟ ألستم تطبخون عليها طعامكم؟ ألستم توقدونها في الخشب والحطب؟ وفي مادة البنزين والغاز؟ هذه النار من أوجدها ومن أين أتت؟!

    وفوق ذلك هذا الكوكب النهاري، المضيء والمشرق، الشمس، باعتراف البشرية كلها على أنه كوكب ناري ملتهب، وحرارته هي الدفء عندنا، كوكب أكبر من الأرض بمليون ونصف المليون، لو جعله الله هو النار فقط لحشر فيه الإنس والجن وما سدوه ولا استوفوه.

    لكن وراء هذه العوالم، السماء تكشط والأرض تبدد، وتجد حينذاك عالمين عظيمين، عالم السعادة: الجنة دار السلام، وعالم الشقاء والوبار والخسران: أسفل، أهل الجنة خالدون فيها، وأهل النار خالدون فيها إذ استوجبوها بالكفر والشرك والعياذ بالله.

    أما من استوجب النار بفجر من الفجور أو بذنب من الذنوب قد يغسل ويطهر ويرفع إلى الجنة بإيمانه، أما المشرك الكافر فهيهات هيهات أن يؤمل له أن يدخل الجنة.

    أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ [التوبة:17] أي: بسبب شركهم، اليهودي، النصراني، البوذي، المجوسي، الصابئ إذا فعلوا خيراً هل يثابون عليه؟ والله يقول: حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ [التوبة:17]، والبرهنة اعترافهم بأنهم غير مسلمين من أنت؟ يقول: أنا نصراني، ما يقول مسلم، وآخر يقول: أنا يهودي، وهذا يقول: أنا بوذي، وهذا يقول: أنا مشرك، أنا صابئ.

    إذاً ليسوا بمسلمين أبداً، وهذه حالهم تشهد لهم، وأنهم غير مسلمين، لو قال مسلم، نقول: أسلمت لله ماذا، وجهك أم قلبك؟!

    هكذا يقول تعالى: مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ [التوبة:17] ليس من شأنهم ولم يتأتى لهم أبداً أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ [التوبة:17] وهم شاهدون على أنفسهم بالكفر -والعياذ بالله- أولئك الخاسرون، أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ [التوبة:17]، النار عالم الشقاء.

    وإذا أردنا أن ننظر إلى صور مصغرة تأملنا قوله صلى الله عليه وسلم: ( إن ضرس الكافر -هذا في اليسار واليمين- كجبل أحد، وبدنه مسيرة ثلاثة أيام من مكة إلى قديد )، هذا تأكله النار ملايين السنين، ولا يموتون فيها ولا يحيون أبداً.

    فالذي خلق هذه العوالم هذا حكمه وهذا تدبيره، الملك من الملائكة لما تجلى جبريل في جياد سد الأفق بأجنحته فله ستمائة جناح، ظهر للرسول فسد الأفق كله بأجنحته، فسدوم وعمورة مدن قوم لوط رفعها ملك واحد من تحت الأرض وقلبها.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله ...)

    قال تعالى: إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ [التوبة:18]، لا المشركون والكافرون والخرافيون والمبتدعة والزنادقة والمبطلون، يعمر مساجد الله أولاً: مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ [التوبة:18] رباً وإلهاً لا رب غيره، ولا إله سواه، هو المحيي المميت المعطي النافع الضار، الخالق الموجد المدبر للكون والأكوان كلها، هو الله آمن به هكذا، وآمن باليوم الآخر، أي بلقاء الله، للحساب والجزاء على العمل في هذه الدنيا.

    إذ علمتم أن هذه الدنيا دار عمل، وأن الآخرة دار جزاء، وليس غير هذا أبداً، وهذه الدنيا وهذه الحياة حياة عمل، خيراً أو شراً، الخير بالإيمان والإسلام، القلوب والوجوه لله، والشر بالشرك والكفر بالله وارتكاب المعاصي، والدار الآخرة دار الجزاء على الكسب في هذه الدنيا.

    فسر هذه الحياة أن يُعبد الله عز وجل، وسر الحياة الأخرى أن يجزي الله المحسنين بأن ينزلهم في دار السلام. جعلنا الله وإياكم من أهلها.

    إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [التوبة:18]، فهذه الحياة لها يوم أخير ينتهي وندخل في الدار الآخرة، وماذا في اليوم الآخر؟ الحياة الثانية الخالدة الباقية، أهلها سعداء وأشقياء، منعمون مكرمون، أو معذبون مهانون، وليس وراء ذلك شيء، فأهل الجنة لا يصلون ولا يصومون، ولا يرابطون ولا يجاهدون، ذكرهم يتردد كأنفاسهم بلا مشقة ولا كلفة أبداً، وأهل النار صنوف العذاب وألوانها -لا أراكم الله ولا أسمعكم حتى ألوان عذابها-.

    إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ [التوبة:18] بحق مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [التوبة:18]، فلماذا لم يقل: والرسول؟!

    لأنه قال: وأقام الصلاة، وإقام الصلاة لابد فيه من رسول يبين، كيف نقيم الصلاة، فالإيمان بالله لازم له الإيمان بالرسول، من آمن بالله ولم يؤمن بالرسول هل يستطيع أن يعبد الله؟ وكيف يعبده وبم يعبده؟ فلهذا ليس هناك حاجة إلى ذكر (وبرسوله).

    وَأَقَامَ الصَّلاةَ [التوبة:18]، أي: أداها على الوجه المطلوب، كما تقيم الشيء قياماً، ما فيه انحراف يميناً ولا شمالاً، ولا تقديم ولا تأخير، ولا زيادة ولا نقصان، أقامه، إقام الصلاة هو أن تؤدى الصلوات الخمس كما نزل بها جبريل وحدد أوقاتها لرسول الله، وكما صلى بجبريل وصلى الرسول وراءه، فأتم ركوعها وسجودها وجلوسها وتلاوتها، وأوقاتها أداها فيه، ثم قلبه مع الله، ألا وهو الخشوع، قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ [المؤمنون:1-2].

    وهذه الصلاة لها نور عجيب، فالذي يقيمها لا يستطيع -والله- أن يكذب، ولا يستطيع أن يزني، ولا يقوى على أن يفجر، ولا.. ولا.. ولا!! لا يقوى؛ لأنه يعيش في نور، واقرءوا لذلك قول الله تعالى من سورة العنكبوت: وَأَقِمِ الصَّلاةَ [العنكبوت:45]، هذا أمر الله لرسوله صلى الله عليه وسلم، وَأَقِمِ الصَّلاةَ [العنكبوت:45]، لم يا ربِّ؟ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ [العنكبوت:45]، الذاكرون لله بحق، العالمين بالله إذا ذكروا الله لا يمكن أن يقعوا في معصية الله.

    قل في نفسك وقلبك: آمنت بالله، ثم اضرب أحداً بيدك، أو قل: آمنت بالله، وأدخل يدك في جيب مؤمن تخرج نقوده، -والله- ما تستطيع، فكل من يفجر ويكفر ويقع بعد أن ينسى الله عز وجل ولا يذكره.

    وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ [التوبة:18]، والزكاة: هي الصدقة المعروفة في المال الناطق والصامت، وقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم مواقيتها وأحوالها وكمياتها ومقاديرها، ولهذا لا بد من الإيمان برسول الله أو مستحيل أن تؤتي الزكاة.

    وقرن الصلاة مع الزكاة إذ لا فرق بينهما، ولا فرق أيضاً بين طاعة الله والرسول، فمن قال: أنا أطيع الرسول ولا أطيع الله فلا ينفع، ومن قال: أطيع الله ولا أطيع الرسول فلا ينفع أيضاً، ومن قال: أقيم الصلاة ولا أوتي الزكاة فلا ينفع، ومن قال: أوتي الزكاة ولا أصلي كذلك لا ينفع، ومن قال: أشكر لله ولا أشكر لأبوي يستطيع أن يكون شاكراً؟

    إذ الله قرن بين هذه الثلاث: أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة أطيعوا الله ورسوله، أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ [لقمان:14]، وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ [التوبة:11] على إفراد بمعنى الجنس، وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ [التوبة:18]، الخشية: الخوف، خوف ترتعد منه الفريصة، يقشعر منه الجلد، ينتفض، الخشية أدق من الخوف.

    وهناك (الخيشة) يضعون فيها الدقيق، وسميت خيشة؛ لرقتها.

    الخشية خشية الله حال ترتعد فيها فرائص العبد وكأنه يشاهد الله، فلا يقدم على معصية الله، ولم يخش إلا الله عز وجل.

    وهناك خشية الفطرة أو الغريزة أو خوف الفطرة والغريزة هذا معفي عنه، إذا خفت من حية تلدغك، أو تنهشك، أو كلب يعضك، أو عدو في يده سلاح يضربك، وهذا الخوف بالنسبة لعامة الناس لا يعتبر خوف عبادة فيجوز.

    لكن العابدين بحق، العالمين بالله، يخافون من الله أن يسلط هذه الأفعى عليه، أو هذا الكلب لينهشه، أو هذا العدو ليضربه، قلبه مع الله هو خاف من الله، ما خاف من ذاك الحيوان، خاف أن يكون عصى الله، أو جانب الهدى، أو فعل ما ينبغي ألا يفعله، فسلط الله عليه كذا، فعاد خوفه إلى الله. ‏

    ضرورة تقديم العبد الخوف على الرجاء في حق الله

    أما الخوف الذي يعنيه الله سبحانه هنا هو أنهم لا يطيعون أبداً غير الله في معصية الله، قال السلطان: افعل، أي لا تصلِّ يقول: أصلي أنا أخاف الله، لا أخافك أنت، قال الحاكم أو الجبار: افجر، يقول: أنا أخاف الله، حرم علي الفجور فلن أفجر، وإن أكره بالحديد والنار، فقد عفا الله عن المكرهين، فقال: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ [النحل:106].

    وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ [التوبة:18]، قال تعالى في بشرى زفها إليهم: فَعَسَى أُوْلَئِكَ [التوبة:18] السامون الأعلون أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ [التوبة:18]، هذا من باب الرجاء؛ لأنه ما قال: عسى الله، ليكون حقاً واجباً، أعلمنا أنه ليرجى لهم أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ [التوبة:18]، أي أن يستمروا على هدايتهم ويموتون عليها، ومن الجائز أن ينتكسون، فكم وكم من منتكس ومرتد والعياذ بالله.

    فلهذا على العبد أن يعيش بين الخوف والرجاء، وهما جناحان: جناح الخوف، وجناح الرجاء، الخوف يحمله على ألا يخرج عن طاعة الله عز وجل، خائف من عذاب الله ونقمه وبأسه وشدته، فهو لا يقبل ولا يقدم على معصية الله خوفاً من عذابه.

    والرجاء هو أن يعمل ما يعمل وهو راغب في الله وفيما عنده من الخير والكمال في الدنيا والآخرة، اللهم إلا أننا عند مرض الموت يجب أن نغلب رجاءنا، ما بقي للخوف معنى، لا نستطيع نقوم ليل ولا نصلي.

    وأيام القوة والشدة نغلب جانب الخوف؛ الخوف من الله في هذه الحال أولى من الرجاء، إذ قد يحملك الرجاء على ترك عبادة، أو فعل محرم، والحياة كجناحي العقاب، فقد ثبت ألا ترجح هذا على هذا، امش هكذا في مسارك ومطارك، فإذا جاءتك ساعة الموت بالعجز والمرض غلِّب جانب الرجاء، إذ ما بقي للعمل مجالاً.

    والله تعالى أسأل أن يجعلني وإياكم من صالح عباده وأوليائه، أهل محبته ورضوانه.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755913436