إسلام ويب

شرح زاد المستقنع باب حد الزنا [1]للشيخ : محمد مختار الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الزنا حرمه الله في جميع الشرائع لعظم فحشه وكثرة أضراره، فهو يفسد الفرد، ويدمر المجتمعات، ومن رحمة الله بعباده أنه حرمه عليهم، وزجرهم عنه بالحدود الشديدة التي تختلف باختلاف حال الزاني، ولابد من توافر شروط حتى تقام هذه الحدود.

    1.   

    تعريف الزنا

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [ باب حد الزنا ]

    معنى الزنا في اللغة لا يختلف عن معناه في الشرع، وقال الشارح رحمه الله: الفاحشة في قبلٍ أو دبر، وعرفه بعض العلماء فقال: هو الوطء في الفرج في غير نكاحٍ ولا شبهة، وبعضهم يضيف: (الفرج المعتبر) خروجاً من وطء البهيمة، ومن وطء المرأة الميتة؛ على القول بأنه لو وطئ امرأة ميتة أجنبية فليس بزنا، فيقول: الوطء في الفرج المعتبر في غير نكاح: فخرج وطء النكاح.

    وبعضهم يقول: الوطء في قبل في غير نكاح ولا شبهة، فأخرج اللواط، فإن الوطء في الدبر ليس بزنا من حيث الأصل، ولا يوصف شرعاً بأنه زنا، وإن كان يأخذ حكمه على الصحيح كما سنبين ذلك إن شاء الله تعالى.

    وقوله: (ولا شبهة)، وذلك لو أن شخصاً حديث عهد بإسلام، وكان الزنا في بلده مباحاً، أو كان بين الكفار ويظن أن الزنا مباح، فلما أسلم زنى، وظن أنه مباح؛ فهذا عنده شبهة، وهي الجهل بالحكم، وقد تكون الشبهة في المكان والمحل في الموطوءة، أو في الواطئ، فلو أن رجلاً جاء إلى موضع نوم زوجته، وفيه امرأة أجنبية نائمة؛ فظنها زوجته فوطئها، فلا يقام عليه الحد؛ لأن عنده شبهة، والعكس أيضاً لو أن امرأة وطئها رجلٌ، وكانت تظنه زوجاً لها، وتبين أنه ليس بزوجها، فهذه شبهة أيضاً، وكذلك شبهة الإكراه، وهي: شبهة التكليف، على القول بأن المكره ليس مكلفاً، فلو أنها أكرهت على الزنا أو أكره الرجل على الزنا؛ فلا يقام الحد على تفصيل عند العلماء في المكره على الزنا.

    أدلة تحريم الزنا

    حرم الله الزنا في كتابه، فقال سبحانه وتعالى: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا [الإسراء:32]، وعند العلماء أن النهي عن القربان من صيغ التحريم، كقوله: وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ [الأنعام:151]، فالنهي عن القربان من صيغ التحريم، بل هو من أبلغ الصيغ في التحريم؛ لأن الله لم يقل: ولا تزنوا، وإنما قال: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى [الإسراء:32]، فنهانا عن القرب من الزنا فضلاً عن فعل الزنا، قال العلماء: وهذا من باب التنبيه بالأدنى على ما هو أعلى منه، ومن القرب من الزنا: مجالسة النساء الأجانب، ومضاحكتهن، ومغازلتهن، ولمس الأجنبية، وإغراؤها بالفاحشة، فهذا كله من قربان الزنا، وهو يوصل إلى الزنا، وأشار إلى هذا المعنى ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (اليد تزني وزناها اللمس، والرجل تزني وزناها المشي، والعين تزني وزناها النظر، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه)، فبين عليه الصلاة والسلام أن هذه كلها وسائل للزنا، ومن هنا جعل العلماء في الزنا مقصداً وغاية، ووسيلة إلى المقصد والغاية، فالزنا هو المقصد المحرم، وهو وطء المرأة الأجنبية، والوسيلة إلى الزنا مثل أن يحادثها وهي أجنبية عنه، أو يغازلها، أو يلمسها، أو ينظر إليها وإلى مفاتنها، أو تبرز مفاتنها، وكل هذا إغراء بالفاحشة ووسيلة للحرام، وقالوا: الوسائل إلى الحرام تأخذ حكم الحرام، والوسائل إلى الكبائر كالكبائر نفسها، فالوسائل تتفاضل بتفاضل مقاصدها، فوسيلة الشرك أعظم الوسائل قبحاً وجرماً عند الله عز وجل، وما دونه من وسائل الذنوب آخذة حكمه على حسب درجات ذلك الذنب.

    ومن أدلة تحريم الزنا في القرآن قوله تعالى: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ الفرقان:68]، فبين سبحانه وتعالى أن من صفات أهل الجنة أنهم لا يزنون، وهذا يدل على حرمة الزنا؛ ولذلك قرنه الله بالشرك وقتل النفس.

    ومن أدلة التحريم أن الله عز وجل رتب العقوبة عليه، فقال سبحانه وتعالى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ [النور:2]، فرتب العقوبة على فعله، وعند العلماء قاعدة وهي: ترتيب العقوبة على الفعل أو الترك دالٌ على حرمة ذلك الفعل أو الترك، وهذا أصل عند العلماء رحمهم الله، فلا تترتب العقوبة إلا على ترك واجبٍ أو فعل محرم.

    ومن أدلة التحريم قوله تعالى: الزَّانِي لا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ [النور:3]، قيل في قوله: وَحُرِّمَ ذَلِكَ [النور:3]: إن الضمير عائد على فعل الزنا، ولكن النفس تميل إلى أن الضمير عائد على نكاح الزانية؛ لأن سبب النزول يقوي هذا كما في حديث مرثد بن أبي مرثد الغنوي حينما أراد أن ينكح عناقاً ، وكانت امرأة بغياً بمكة، وكان فقيراً، فأراد أن ينكحها، ليصيب من مالها، فحرم الله ذلك وأنزل الآية، وقد تقدم معنا أن الزنا من موانع النكاح، وهذا مذهب الإمام أحمد ، ونظراً لترجيحنا لهذا التفسير؛ لم نذكر هذه الآية الكريمة في بداية استشهادنا بآيات القرآن على تحريم الزنا.

    الحكمة من تحريم الزنا

    الزنا حرمه الله عز وجل لعظيم ما فيه من المفاسد والشرور، فهو اعتداء على أعراض المسلمين، حيث أنه يفسد نساء المسلمين ورجالاتهم، فهو من أعظم الذنوب التي تفسد المجتمعات، وتدمر الأخلاق، وتدمر القيم، وما فشا في أمة إلا ذهب حياؤها، وسقطت مروءتها، وأصبحت كالبهائم -والعياذ بالله- لا ترعى حرمة، ولا تحفظ ذمة.

    والزنا يؤدي إلى اختلاط الأنساب -والعياذ بالله-، فالمرأة تدخل على الرجل من ليس من ولده، والرجل يدخل على الرجل من ليس من ولده، والأمة المسبية أحل الله لسيدها وطأها، ولكن لا يطؤها حتى يستبرئها ويتأكد أنها لم تحمل من زوجها الأول الكافر، وفي سبي أوطاس أراد رجل أن يهم بأمة أحبها وتعلق بها وهي حامل، فرآه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (أيريد أن يلم بها! - يعني وهي حامل- لقد هممت أن ألعنة لعنة تدخل معه في قبره)، هذا والمرأة حامل وانعقد الجنين في بطنها، فكيف -والعياذ بالله- بامرأة خانت زوجها أو رجل خان أخاه المسلم في إسلامه وأخوة الإسلام، فاعتدى على عرضه، فأفسده عليه!

    قال العلماء: الزنا مراتب بعضها أشد جرماً وأعظم ذنباً من بعض، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم هذا، فالزنا بذات المحرم -والعياذ بالله- أعظم، وذلك كأن يزني بأخته مثلاً، ومذهب بعض السلف أنه يقتل مطلقاً، وأثر ذلك عن بعض الصحابة أنه قتل من فعل ذلك، وفيه حديث مرفوع، وقيل: إنه قُتِل تعزيراً.

    والزنا بامرأة الجار أعظم من الزنا بغيرها، والنبي صلى الله عليه وسلم لما سأله عبد الله بن مسعود رضي الله عنه (أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله نداً وهو خلقك -وليس هناك أعظم من الشرك- قال: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك، قال: ثم أي؟ قال: أن تزاني بحليلة جارك)، فالجار له حق على جاره، فإذا زنى بحليلته، وأفسد عليه زوجته أو بناته أو أخواته؛ فقد ظلمه، ووقع منه الاعتداء في حق جاره، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه) والغالب أن الجار يأمن جاره، ويطمئن إليه، ويرضى بقيامه على عرضه، خاصة إذا فوض إليه أن يقوم ببعض مصالحه.

    والزنا يتفاوت في العقوبة، ويتفاوت السخط والغضب من الله عز وجل على فاعله، وفيه عقوبات شديدة؛ لأن الاعتداء به متعدد؛ لأن المرأة ستحمل وتنجب، ويدخل هذا الولد الأجنبي على فراش الرجل، فيأكل من ماله، ويستبيح النظر إلى عرضه، ثم بعد ذلك يرث من ماله، ثم يأتي هذا الولد بالذرية تلو الذرية، وهذا من أعظم الجرائم، وأشدها بلاءً، وأعظمها فساداً على الناس، ومن هنا اتفقت الشرائع السماوية كلها على تحريم الزنا، وليس هناك شريعة تبيح الزنا، وهذا من مرجحات أن حد الزنا أقوى من حد المسكر؛ لأن الزنا لم تبحه الشريعة قط، وكان السكر حلالاً، وأبيح لأهل الكتاب، وهذا يدل على عظم الزنا، وتتعاظم العقوبة بعظم الذنب، ولخطورة الزنا وعظيم ضرره؛ جعلت الشريعة للزنا عقوبات دنيوية، وعقوبات أخروية، فإذا لم يتب الزاني إلى الله عز وجل، ويبرأ إلى الله من فعله؛ عاجله الله بعقوبته في الدنيا والآخرة، وقد فتح الله أبواب التوبة، ورغب عباده فيها، ويسر لهم ذلك، وبين لهم سبحانه وتعالى أنه يقبل توبة من تاب ويمحو إساءة من أساء إذا تاب صادقاً من قلبه.

    قال رحمه الله: [باب حد الزنا] أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بحد الزنا، وقدمه المصنف مثل غيره من أهل العلم لأنهم يرون أن تذكر أحكام الزنا قبل القذف والسكر والتعزير.

    1.   

    رجم الزاني المحصن

    قال رحمه الله تعالى:

    [ إذا زنى المحصن رجم حتى يموت ]

    أي: إذا فعل الزنا في حالة كونه محصناً، وتوافرت فيه شروط الإحصان؛ فإنه يرجم حتى يموت، وهذه العقوبة نص عليها النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه في صحيح مسلم أنه قال: (خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلاً، البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم).

    ونص عليه الصلاة والسلام على الرجم بالفعل؛ فإن ماعزاً لما اعترف عنده قال بريدة رضي الله عنه: فأمر به فرجم، كما في صحيح مسلم ، ورجم المرأتين اللتين اعترفتا بالزنا، ورجم اليهودي واليهودية، فهذا كله يدل على مشروعية الرجم، وخطب عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: إن تطاول الزمان بالناس ليقولن أحدهم: إن الرجم ليس في كتاب الله، كما يقول ذلك الآن من يسمون أنفسهم بالقرآنيين، يقولون: ما نعمل إلا بالقرآن، ولا يعملون بالسنة! ألا ساء ما يقولون، وساء ما يزرون، فرد السنة كرد القرآن -والعياذ بالله-، ومن هنا قال صلى الله عليه وسلم: (لا ألفين أحدكم شبعان ريان متكئاً على أريكته) -وقد وقع هذا من بعض العظماء المتأخرين من أهل الجاه، فصدقت معجزته عليه الصلاة والسلام- قال: (لا ألفين أحدكم متكئاً على أريكته شبعان ريان يبلغه الحديث مما قلته أو أمرت به فيقول: ما نجد هذا في كتاب الله، ولقد أوتيت القرآن ومثله معه)، وأنكر عمر في خطبته على من ينكر الرجم لكونه غير موجود في القرآن، حيث أن الله يقول: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ [النور:2] وما ذكر الرجم، فقال عمر رضي الله عنه في خطبته: إنها كانت في كتاب الله ثم نسخت، قرأناها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان نص الآية: (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة؛ نكالاً من الله، والله عزيزٌ حكيم) والحديث فيها صحيح، ثم نسخت، وهذا مما نسخ تلاوة وبقي حكماً، وقد بينا أن المنسوخ أقسام:

    منسوخ التلاوة والحكم، ومنسوخ الحكم دون التلاوة، ومنسوخ التلاوة دون الحكم، وهذا من أمثلته، ومن أمثلته كذلك ما تقدم في الرضاعة: (كان فيما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم: عشر رضعات يحرمن ثم نسخن بخمس رضعات معلومات).

    وقد أجمع العلماء رحمهم الله على أن الرجم عقوبة شرعية، ورجم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورجم من بعده أبو بكر وعمر وعثمان وعلي ، وهم الخلفاء الراشدون رضي الله عنهم، ورجم الأئمة في القرون المفضلة، وكلهم على اعتبار هذه العقوبة، وأنها شرعية، وشرطها الإحصان.

    حقيقة الإحصان

    قال المصنف رحمه الله: [والمحصن من وطِئ امرأته المسلمة أو الذمية في نكاح صحيح]

    في الزنا عقوبتان:

    العقوبة الأولى: للبكر، والعقوبة الثانية: للثيب، والعقوبة للبكر أخف، وهو غير المحصن، وسنبينه إن شاء الله، والعقوبة للمحصن -وهو الثيب- أشد؛ لأنه كما يقول العلماء: كفر نعمة الله عليه، فإن الله حصن فرجه بالزوجة، وحصن فرجه بالحلال، فأبى إلا أن يعتدي حدود الله عز وجل، فابتدأ المصنف رحمه الله في عقوبة الزنا بالأشد، وهي عقوبة المحصن، وبعض العلماء يبدأ بعقوبة البكر من باب التدرج بالأدنى إلى الأعلى، لكن لما كان الباب باب حدود وعقوبات؛ فالبداءة بالحد الأعظم أنسب، وفي بعض الأحيان يراعي المصنف البداءة بالأدنى تدرجاً إلى الأعلى، ولكلٍ له وجهه.

    قوله: (من وطئ) يعني: من جامع امرأته المسلمة، والإحصان في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم يأتي بمعنى النكاح، والعفة، والحرية، والإسلام، فهذه كلها من معاني الإحصان، وأصل مادة (حصن) في لغة العرب: منع، فالإنسان الذي تتوافر فيه شروط الإحصان؛ الغالب أنها تمنعه من الوقوع في الحرام، قال: من وطئ زوجته المسلمة، ولا بد من الوطء وهو: إيلاج الحشفة، بأن يجامع زوجته، فلو عقد على امرأة ثم زنى قبل أن يدخل بها فليس بمحصن؛ لذا قال: من وطئ زوجته، فلو أن رجلاً بكراً عقد على امرأة ثم -والعياذ بالله- زنى قبل أن يدخل بها، فلا نقول: إنه محصن؛ لأنه لم يتحقق شرط الدخول والوطء، فلا بد أن يكون هناك وطء، وأن يكون الوطء لزوجته، فخرج وطء الأمة، الذي هو التسري، فلو أنه وطئ أمته ومملوكته فليس بمحصن، ثم قال: (المسلمة)، فلو تزوج من أهل الكتاب يهودية أو نصرانية فهل يحصن؟

    وجهان للعلماء رحمهم الله، وظاهر حديث كعب بن مالك عند الدارقطني أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد كعب أن يتزوج اليهودية؛ قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (إنها لا تحصنك)، فأخذ منه أن من تزوج كتابية فلا يتحقق الإحصان بها، فلا بد وأن تكون زوجته مسلمة، لكن في الحديث كلام.

    واختار المصنف رحمه الله أن الذمية يتحقق بها الإحصان، ومن العلماء من قال: إن الوطء للكافرة سواءً كانت يهودية أو نصرانية لا يتحقق به الإحصان، واحتجوا بحديث الدارقطني في قصة كعب بن مالك رضي الله عنه وأرضاه، حيث أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد كعب أن يتزوج اليهودية قال له: (إنها لا تحصنك)، واحتج الحنابلة ومن وافقهم بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الثيب بالثيب)، ووطء الذمية كوطء المسلمة من حيث الأصل؛ لأنه عف بوطءٍ شرعيٍ معتبر.

    وحديث الدارقطني فيه ابن أبي مريم، وقد ضعفه غير واحد من العلماء، ومنهم الإمام أحمد وابن معين وغيرهما، فعلى القول بضعفه يترجح المذهب الذي اختاره المصنف رحمه الله، وهو أن الذمية يتحقق بها الإحصان كالمسلمة؛ لإذن الشرع بنكاح أهل الكتاب، وعلى القول بأن الحديث حسن، فهو نص في موضع النزاع، حيث نص النبي صلى الله عليه وسلم على أن الذمية لا تحصن الناكح، والأشبه أنها تحصنه، لعموم حديث: (الثيب بالثيب).

    وقول المصنف رحمه الله: (في نكاح صحيح)، خرج النكاح الفاسد، فلو أنه نكح بنكاح شغار، أو نكح بنكاح متعة، وكان يظن أن هذا جائزاً، لبس عليه شخص وقال له: نكاح المتعة جائز، فجاء وعقد عقد متعة، ثم لما علم أن عقد المتعة حرام؛ ترك زوجته التي استمتع بها، ثم زنى، فهل عقد المتعة الذي وقع منه يحصل به إحصانه؟

    الجواب: لا؛ لأنه لا بد أن يكون الوطء في نكاح صحيح معتبر، فيخرج من هذا المختلف فيه، فلو أن حنفياً تزوج بدون ولي على مذهب الحنفية أن الولي لا يشترط، وعند الحنابلة والشافعية لا يصح النكاح بدون ولي، ولكن نحكم بصحته؛ لأنه يعتقد صحة هذا النكاح، فخرج المختلف فيه في الفروع، فالمراد: أن يكون فاسداً بحكم الشرع، فإذا كان فاسداً بحكم الشرع؛ فإن وجود هذا النكاح وعدمه على حد سواء، ونقول: ليس بمحصن فلا يرجم، وإنما يجلد.

    شروط إقامة الحد على المحصن

    قال المصنف رحمه الله: [ وهما بالغان عاقلان ].

    أي: لا نحكم بكونه محصناً إلا إذا تزوج بالغة، فلو أن رجلاً تزوج امرأة عمرها أربع عشرة سنة ولم تحض، فوطئها ثم زنى، فالعقد موجود، ووطء المرأة موجود، ولكنها غير بالغة؛ فإذا لم تكن بالغة فإنها لا تحصنه، وهذا مذهب جماهير العلماء رحمهم الله، وخالف بعض الشافعية رحمهم الله، لكن يقول البعض: قبل خلافه لم يكن يوجد من يخالف في هذه المسألة، فلا بد من البلوغ ولا بد من العقل؛ لأن هذا محل التكليف، قالوا: ومن الأدلة عليه أنه لو أن صبياً وصبية زنيا لم يقم عليهما الحد، فكيف نحكم بثبوت الإحصان الذي هو موجب الحد؟!!

    قالوا: فلا بد وأن يكون بالغاً، وأن تكون زوجته بالغة، حتى يثبت إحصانه، وإذا ثبت إحصانه يرجم، أما إذا تزوج صغيرة أو مجنونة، مثلاً كانت قريبته مبتلاة بمس من الجن فقال: أريد أن أتزوجها وأسترها، أو رجل فقير ليس عنده مال، ولم يجد إلا امرأة مجنونة، فعقد عليها وأراد أن يسترها، أو رجل أراد أن يحتسب في امرأة مسلمة مجنونة فتزوجها، فلما تزوجها زنى بعد نكاحها، فإننا لا نحكم بإحصانه، لا بد من وجود الكمال في الاثنين، في الرجل والمرأة، فيكون بالغاً وتكون بالغة، ويكون عاقلاً وتكون عاقلة، وعلى هذا؛ لا إحصان إذا كان أحدهما مجنوناً أو كانا مجنونين، فلو أن مجنوناً زوِّج أثناء جنونه، ثم أفاق من جنونه فزنى، فإننا لا نحكم بإحصانه حينما كان في حال جنونه ناقص الأهلية، ولو أن ولداً صغيراً زوجه أبوه قبل البلوغ، ثم بمجرد بلوغه وقع في الزنا، فإنه غير محصن.

    إذاً: يشترط أن يكون الاثنان بالغين عاقلين حتى يثبت الإحصان، فالإحصان يشترط فيه: البلوغ والعقل في الزوج والزوجة.

    ويقول بعض العلماء: يشترط ذلك في أحدهما، بحيث لو كان الثاني مجنوناً ثبت الإحصان لغير المجنون، ولو كان أحدهما صبياً ثبت الإحصان للبالغ، فلو أن رجلاً بالغاً تزوج صبية، ثم وطئها، ثم زنى، حكمنا بإحصانه، ولكن هذا قول ضعيف، وهو القول الذي ذكرناه عن بعض أصحاب الشافعي رحمه الله، وقد وافقهم بعض أصحاب الإمام مالك رحمة الله على الجميع.

    قال المصنف رحمه الله: [حرّان].

    لأن الله تعالى يقول: فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ [النساء:25]، فبين سبحانه وتعالى أن الأمة عليها نصف ما على المحصنة، فجعل الإحصان قيداً في الحرية، وهذا شبه إجماع من العلماء رحمهم الله، وهناك من يحكي قولاً شاذاً، لكن المعروف عند أهل العلم أن الرجم لا يكون للعبد ولا للأمة.

    قال المصنف رحمه الله: [ فإن اختل شرطٌ منها في أحدهما؛ فلا إحصان لواحدٍ منهما ].

    إن اختل الشرط في الاثنين فلا إشكال قولاً واحداً، وإن اختل في أحدهما فالجماهير على أنه كاختلاله فيهما، وقد بينا هذا.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    757058649