إسلام ويب

تفسير سورة نوح [4]للشيخ : عبد الحي يوسف

  •  التفريغ النصي الكامل
  • أمر الله نوحاً بدعوة قومه، فاستجاب لأمر ربه، ودعا قومه بشتى أساليب الدعوة؛ وذكر لهم مرغباً فوائد التوحيد والتوبة في الدنيا والآخرة من غفران الذنوب، ونزول الأمطار، والزيادة في المال والذرية والثمار، ثم جنح إلى الترهيب فذكر الأدلة على توحيد الله من مراحل خلق الإنسان، وخلق السموات والأرض والشمس والقمر؛ كل هذا ليقنعهم بتوحيد الله؛ لكنهم استمرءوا الكفر واستمروا عليه.

    1.   

    تلخيص لما سبق ذكره من دعوة نوح عليه السلام لقومه

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، البشير النذير، والسراج المنير، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا علماً نافعاً، وارزقنا عملاً صالحاً، ووفقنا برحمتك لما تحب وترضى، أما بعد:

    أمر الله تعالى لنوح بالدعوة إلى التوحيد

    فهذه السورة المباركة - سورة نوح- بدأت بهذه الجملة الخبرية: إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ[نوح:1]، فقد أمره ربه جل جلاله بأن يقوم في قومه مبلغاً ونذيراً، يأمرهم بأن يجيبوا داعي الله عز وجل وأن يدخلوا في دينه، من قبل أن يأتيهم عذاب أليم، فصدع نوح بأمر ربه جل جلاله، قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ[نوح:2]، وتحبب إلى قومه بهذا الكلام (يا قوم!) كأنه يقول لهم: أنا منكم ومن جنسكم وأنا ابنكم وأنتم تعرفونني.

    قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ، (مبين) أي: واضح، قد عرفتم سيرتي وصدق سريرتي واستقامة أمري، أو أن يكون (مبين) من (أبان) المتعدي، بمعنى: أنه يبين عن الله عز وجل، قد جاء بالدلائل الواضحات، والبراهين الساطعات.

    ثمرة الاستجابة لدعوة نوح إلى توحيد الله وتقواه وطاعته عليه السلام

    قال تعالى: أَنْ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ[نوح:3]، وهذه هي دعوة جميع الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، ولو أنكم التزمتم هذه الثلاثة: عبدتم الله عز وجل، واتقيتموه جل جلاله، وأطعتم رسوله نوحاً عليه السلام فإنه سبحانه يجزيكم خير الجزاء: يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ[نوح:4]، (من) هنا: إما أن تكون زائدة للتأكيد، وإما أن تكون تبعيضية، فإذا كانت مزيدة للتوكيد فلا إشكال، فإن الإسلام يجب ما قبله والتوبة تجب ما قبلها، وأما إذا كانت للتبعيض فقد قال بعض المفسرين: إنكم إن آمنتم يغفر الله لكم الذنوب الكبار، المتعلقة بالشرك ونحوه، وقال بعضهم: بل المراد ما لا يتعلق بحقوق المخلوقين، يعني: يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ[نوح:4]، أي: يغفر لكم ما لا تعلق له بحقوق خلق الله عز وجل، أما ما كان متعلقاً به سبحانه فإنه يغفره، والأظهر: هو الوجه الأول، بأن (من) مزيدة للتأكيد، والإنسان إذا آمن بعد الشرك فإن الله عز وجل يغفر له ما مضى، كباره وصغاره، ما كان متعلقاً بحقه وما كان متعلقاً بحقوق المخلوقين، ودليل ذلك قول ربنا جل جلاله: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ[الأنفال:38]، وقول نبينا صلى الله عليه وسلم لـعمرو بن العاص : ( أما علمت أن الإسلام يجب ما قبله ).

    يقول جل جلاله: يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى[نوح:4]، يؤخركم ربنا جل جلاله في هذه الدنيا إلى الأجل الذي ضربه لكل واحد منكم حين ينزل به ملك الموت.

    إخباره بوقوع الأجل المحتوم دون تأخر

    أساليب نوح في دعوة قومه

    ثم إن نوحاً عليه السلام اعتذر إلى ربه: قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلاَّ فِرَاراً[نوح:5-6]، يا رب! قد بذلت جهدي، واستفرغت وسعي، وقمت في قومي داعياً إلى سبيلك بالليل والنهار، لكن هذه الدعوة المتكررة ما أفلحت ولا نجحت في أن تهدي هؤلاء الضالين، ولا أن ترشد هؤلاء الغافلين؛ بل إنهم كانوا يفرون منها كأنهم حمر مستنفرة، فرت من قسورة.

    ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً[نوح:8]، أي: على ملأ، ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً[نوح:9]، تارة كان يعلن بدعوته، وتارة يخافت بها فيما بينه وبين الواحد منهم.

    1.   

    تابع أمر نوح قومه بالاستغفار وبيان فضل الإقامة عليه

    وفحوى هذه الدعوة أن قال لهم: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً[نوح:10]، أي: أمرتهم يا رب! بأن يستغفروك وأن يتعرضوا للأسباب التي تؤدي بهم إلى رضوانك.

    كثرة الأمطار وبركتها نتيجة المداومة على الاستغفار

    أمرهم بالاستغفار الذي هو مجلبة لكل خير في الدنيا والآخرة، قال ابن صبيح رحمه الله: جاء رجل إلى الحسن البصري يشكو إليه الجدوبة في أرضه، والجدب: ألا يكون في الأرض زرع، فقال له: استغفر الله، ثم جاءه آخر فشكى إليه الفقر، فقال له: استغفر الله، ثم جاءه ثالث فقال: ادعو الله أن يرزقني ولداً، فقال له: استغفر الله، ثم جاءه رابع فشكى إليه جفاف بستانه فقال له: استغفر الله، فقلنا له: يا أبا سعيد ما هذا؟! فقال: ما قلت من عندي شيئاً، بل كما قال ربنا: اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً[نوح:10-12].

    ولذلك إذا شكى الناس الجدب، فإن أعظم ما تستمطر به السماء وتستنزل به رحمة الله الاستغفار؛ كما حدث في عهد عمر رضي الله عنه حيث خرج الناس يستسقون، فما زاد عمر رضي الله عنه لما صعد على المنبر ليخطب في الناس على الاستغفار، ثم رجع فأمطروا، قالوا: يا أمير المؤمنين! ما رأيناك استسقيت! فقال: إني استسقيت بمجاديح السماء التي يستنزل بها المطر. يقول لهم: الاستغفار هو أعظم سبب يستنزل به المطر.

    وكذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم -وهو الذي تعلم منه عمر- كان في صلاة الاستسقاء يكثر من الاستغفار ثم يقول: ( اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم إنا خلق من خلقك فلا تمنع عنا بذنوبنا فضلك، اللهم اسق عبادك وبلادك وبهائمك، اللهم إنا نسألك غيثاً مغيثاً عاماً غدقاً طبقاً سحاً مجللاً، اللهم سقيا رحمة لا سقيا عذاب ).

    وكذلك بلال بن سعد رحمه الله ورضي عنه خرج يستسقي بالناس، فقال: اللهم إنا سمعناك تقول: مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ[التوبة:91]، وقد أقررنا بالإساءة، فتغفر لمن إن لم تغفر لمثلنا؟ اللهم ارحمنا واغفر لنا واسقنا، فسقوا.

    الاستغفار يقوي الجسد، والاستغفار يدر الرزق، والاستغفار يكثر الذرية، والاستغفار يفرج الله به الهم، وهو وصية الأنبياء لأقوامهم صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( سيد الاستغفار أن يقول العبد: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت من قالها إذا أصبح موقناً بها، فمات من يومه أدخله الله الجنة، ومن قالها إذا أمسى موقناً بها، فمات من ليلته أدخله الله الجنة ).

    وهذا الاستغفار ليس له وقت، بل بالليل والنهار؛ بكرة وعشياً، في الصبح والظهر والعصر.. ففي كل وقت وحين يستغفر الإنسان الله عز وجل، و( من لزم الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ورزقه من حيث لا يحتسب ).

    قال تعالى: إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً[نوح:10]، جملة تعليلية، أي: استغفروا ربكم؛ لأنه كان غفاراً، وجزاء الاستغفار: يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً[نوح:11]، (يرسل السماء) قال بعض المفسرين: المقصود: يرسل ماء السماء عليكم مدراراً، وقال بعضهم: بل العرب تطلق على المطر سماء، ومنه قول القائل:

    إذا نزل السماء بأرض قوم رعيناه وإن كانوا غضاباً

    (إذا نزل السماء) أي: المطر.

    قال تعالى: (مِدْرَاراً)، أي: بغير حساب.

    حصول المال والذرية وبركة الزراعة نتيجة المداومة على الاستغفار

    ثم قال: وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ[نوح:12]، (يمددكم بأموال): يوسع الله عليكم أرزاقكم ويرغد عيشكم ويطيب حياتكم، (وبنين): يرزقكم الله الذرية التي بها تسعدون وتستقوون.

    قال بعض أهل العلم: وفي هذا دليل على أن الداعية إلى الله عز وجل يبين للناس منافع الاستجابة الدنيوية قبل الأخروية.

    فمن المعروف أن عندنا دنيا وعندنا آخرة، فمن القصور أن تقول للناس: آمنوا بربكم وأطيعوه واتقوه وصدقوا أخباره؛ من أجل أن تدخلوا جنته، وتكتفي بهذا؛ بل لا بد أن تبين لهم أن الإيمان والاستقامة على أمر الله فيها صلاح الدنيا أولاً، فيها راحة القلب، وطمأنينة النفس، ورغد العيش، وطيب الحياة؛ ولذلك ربنا جل جلاله قال: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ[الأعراف:96]، في الدنيا، مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ[الأعراف:96]، وفي موضع آخر قال: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ * وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ[المائدة:65-66]، فلا بد من بيان منافع الاستجابة الدنيوية ثم الأخروية، لا بد من الجمع بينهما، وقد كان من دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا )، ولما قال للناس: ( قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا )، قال لهم بعدها: ( قولوا: لا إله إلا الله تملكوا بها العرب والعجم )، فهناك منافع دنيوية ومنافع أخروية.

    ولذلك نوح عليه السلام يقول لقومه: اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ[نوح:10-12]، والنفس مجبولة على حب هذين، كما قال تعالى: الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا[الكهف:46]، وكما قال: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنْ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ[آل عمران:14].

    ثم قال تعالى: وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ[نوح:12]، أي: بساتين، وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً[نوح:12].

    1.   

    أدلة نوح على صدق دعوته إلى توحيد الله

    ثم بعد هذا الترغيب لجأ إلى الترهيب، فقال لهم: مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً[نوح:13]، (ما لكم): أيها السامعون لدعوتي؟! يا من أراكم الله عز وجل معجزاتي! (لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً)، أي: عظمة وقدرة، وقال بعضهم: (لا تَرْجُونَ)[نوح:13]، بمعنى: لا تبالون؟! على لغة مضر، مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً[نوح:13]، أي: ما لكم لا توقرون الله عز وجل؟! ما لكم لا تعظمونه؟! ما لكم لا تقدرونه حق قدره؟!

    مراحل خلق الله للإنسان

    قال تعالى: وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً[نوح:14]، خلقكم ربنا جل جلاله أطواراً، طوراً بعد طور، ما خرجتم من بطون أمهاتكم هكذا وأنتم طوال الأجسام، مكتملو العقول؛ بل إن الله عز وجل قلبكم، خلقكم من تراب، ثم من نطفة، ثم من علقة، ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة، ثم أخرجكم من بطون أمهاتكم ضعافاً، ثم جعل من بعد ضعف قوة، ثم جعل من بعد قوة ضعفاً وشيبة، وهذه الأطوار كلها يتقلب فيها ابن آدم.

    وقال بعض المفسرين: وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً[نوح:14]، أي: أنواعاً، ما بين بصير وضرير، وقوي وضعيف، وصحيح وسقيم، حسب أنواع الناس.

    وقال بعضهم: بل المراد الأطوار التي تقلبوا فيها بعد خروجهم من بطون أمهاتهم، فالله عز وجل جعل قوتهم بين ضعفين؛ كما قال: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ[الروم:54].

    خلق السموات طباقاً

    قال تعالى: أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً[نوح:15]، يستدل عليهم بعظيم قدرته جل جلاله في خلق السموات والأرض، (أَلَمْ تَرَوْا)، ألم تعلموا؟! كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً[نوح:15]، بقدرته جل جلاله خلق هذه السموات بغير عمد ترونها، وجعلها محكمة البناء متينة، لا ترى فيها تشققاً ولا عوجاً ولا فطوراً، وجعل بعضها فوق بعض، طبقة فوق طبقة.

    خلق الشمس والقمر والفرق بينهما في التعبير القرآني

    قال تعالى: وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً[نوح:16]، جعل هذا القمر نوراً تستضيئون به، وتستدلون به على طريقكم إذا سافرتم، وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً[نوح:16]، ودائماً في القرآن الكريم القمر يوصف بأنه نور، كما في قوله تعالى: تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُنِيراً[الفرقان:61]، فالقمر المنير معروف، والسراج هو الشمس، كما قال تعالى: وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً[النبأ:13]، فالقمر نور وضياء، وأما الشمس فإنها حرارة وضياء؛ ولذلك ربنا جل جلاله دائماً يسمي الشمس: سراجاً.

    الإخبار بأصل الإنسان ونهايته

    قال تعالى: وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنْ الأَرْضِ نَبَاتاً[نوح:17]، الله جل جلاله خلقنا من هذه الأرض كما قال: مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ[طه:55] خلقكم منها أول مرة، ثم إذا فارقت أرواحكم أجسادكم يعيدكم فيها ثانياً، ثم إذا نفخ في الصور يأذن الله عز وجل بإخراجكم منها ثانية، كما قال تعالى: ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً[نوح:18].

    تسهيل الأرض للسالكين

    قال تعالى: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ بِسَاطاً[نوح:19]، جعل سبحانه وتعالى هذه الأرض ممهدة للسالكين، وجعلكم تمشون عليها وتتنقلون في فجاجها، وتزرعونها فتخرج لكم أنواعاً من الثمار والأشجار، ثم إذا طعمتم تبتلع هذه الأرض ما يخرج منكم من فضلات، وهذه الأرض جعلها الله بساطاً، تمشون عليها مطمئنين، وتجلسون عليها ساكنين، وتنامون عليها مستريحين، أسكنها ربنا جل جلاله لكم.

    لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً[نوح:20]، أي: تجعلون فيها طرقاً، وتجعلون فيها فجاجاً تتنقلون وترتحلون من مكان إلى مكان، من غير حرج ولا ضيق، وهذا كله بقدرة ربنا جل جلاله.

    الغرض من ذكر نوح للأدلة على توحيد الله

    استدل نوح عليه السلام عليهم بخلقهم وبخلق السموات والأرض؛ من أجل أن يصل إلى الذي يريد؛ وهو أن الذي خلق هذا كله هو وحده المستحق للعبادة جل جلاله، وهذا المعنى قد تكرر في القرآن، في أول نداء قال ربنا: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ[البقرة:21]، ثم قال: الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنْ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ[البقرة:22]، فالذي انفرد بالخلق جل جلاله هو الذي ينبغي أن يفرد بالعبادة؛ كما قال تعالى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ[الروم:40]، وقال: قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ[فصلت:9].

    وطبعاً هؤلاء المشركون كانوا مقرين بأن الله هو الذي خلق، ولم ينكروا شيئاً من ذلك ولم يجحدوا، لكنهم عياذاً بالله قد استمرءوا الكفر والعصيان.

    أسأل الله عز وجل أن يجنبنا طريقهم! وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756270176