إسلام ويب

تفسير سورة يس [2]للشيخ : عبد الحي يوسف

  •  التفريغ النصي الكامل
  • أخبر الله عز وجل في غير موضع من القرآن أن من الكفار من لا ينفعهم الإنذار؛ فقد كتب عليهم أنهم من الأشقياء، وبين أن من صفات من ينتفع بالإنذار اتباع الذكر، وخشية الله في السر والعلن، وأن هؤلاء هم أهل المغفرة والأجر الكبير، وأنه سبحانه وتعالى يحيي الموتى فيجازيهم بما قدموه في الدنيا من خير وشر.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون)

    الحمد لله رب العالمين، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد البشير النذير، والسراج المنير، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا علماً نافعاً، وارزقنا عملاً صالحاً، ووفقنا برحمتك لما تحب وترضى، أما بعد:

    ففي الآيات السابقات في أول سورة (يس) أقسم ربنا جل جلاله بالقرآن الكريم على أن محمداً صلى الله عليه وسلم من المرسلين، وأنه داع إلى صراط مستقيم، وأنه قد بعثه لينذر قوماً ما أتاهم من نذير، وكذلك آباؤهم، فقال تعالى: لِتُنذِرَ قَوْماً مَا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ [يس:6]، فأعرض هؤلاء القوم عن الذكر، وعاندوا الرسالة، وأبوا الانقياد لشرع محمد صلى الله عليه وسلم.

    ثم بين ربنا جل جلاله أن هؤلاء قد طبع على قلوبهم فهم ممنوعون من سماع الهدى والنظر في أدلته، وضرب الله لهم مثلاً بحال إنسان غلت يداه وجمعتا تحت ذقنه فهو مقمح، إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ [يس:8]، والمقمح هو من ارتفع رأسه فلا يستطيع أن يخفضه.

    يقول الله عز وجل: وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [يس:10]، هذه الآية كقول ربنا جل جلاله: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ ءأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [البقرة:6]. ‏

    العلة في عدم انتفاع بعض الكفار بالإنذار

    والعلة في أنهم لا ينتفعون هي ما قال الله: خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [البقرة:7]، العلة أن الله عز وجل قد سلبهم الانتفاع بهذه الحواس؛ فلهم قلوب لا يفقهون بها، ولهم أعين لا يبصرون بها، ولهم آذان لا يسمعون بها.

    فالله جل جلاله يعزي نبيه صلى الله عليه وسلم لئلا يحزن ولئلا يتحسر، كما قال لنوح عليه الصلاة والسلام: وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ[هود:36]، هاهنا أيضاً يقول لنبيه عليه الصلاة والسلام: هؤلاء الناس الإنذار وعدمه عندهم سواء؛ وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [يس:10].

    الجمع بين هذه الآية وانتفاع بعض الكفار بالإنذار

    وهنا سؤال قد يطرحه بعض الناس: يقولون: ثبت أن بعض الكفار قد انتفعوا بالإنذار، فاستجابوا للنبي عليه الصلاة والسلام بعد إعراض، مثلاً عمر بن الخطاب بن نفيل العدوي رضي الله عنه كان كافراً ست سنين، يعارض النبي عليه الصلاة والسلام؛ بل ويعذب المسلمين؛ بل يريد قتل النبي عليه الصلاة والسلام، لكنه لما سمع الآيات التي في سورة الحاقة، وسمع الآيات التي في أول سورة طه ألقى الله الإسلام في قلبه، فجاء إلى النبي عليه الصلاة والسلام وهو في دار الأرقم بن أبي الأرقم ، وضرب عليهم الباب فنظر حمزة رضي الله عنه من ثقب الباب ثم قال: ( يا رسول الله! هذا عمر بن الخطاب متوشحاً سيفه فأذن لي أن أفتح له، إن كان يريد خيراً بذلناه له، وإن كان يريد غير ذلك قتلناه بسيفه. فأذن النبي عليه الصلاة والسلام لـحمزة ففتح له الباب، فأمسك النبي عليه الصلاة والسلام بـعمر ونتله، وقال له: يا ابن الخطاب! أما آن لك أن تسلم؟! ما أراك فاعلاً حتى ينزل الله بك قارعة، فقال له عمر رضي الله عنه: جئت أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله )، فصار عمر رضي الله عنه من خير عباد الله المؤمنين القانتين، فنفعه الإنذار.

    ومثله أيضاً ما كان من شأن خالد بن الوليد و عمرو بن العاص و سهيل بن عمرو ، بل وما كان من شأن عكرمة بن أبي جهل و صفوان بن أمية وكذلك عبد الله بن أبي أمية بن المغيرة و أبي سفيان بن الحارث هؤلاء جميعاً انتفعوا فيما بعد بالإنذار وأسلموا، فـ عكرمة بن أبي جهل لما فتحت مكة هرب وذهب إلى جدة، وركب البحر يريد أن يغادر الجزيرة العربية كراهية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فاضطربت بهم السفينة وعلتها الأمواج، وصار المشركون الذين فيها يسألون الله، كما قال ربنا: فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوْا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ[العنكبوت:65]، فهاهنا عكرمة رجع إليه عقله واستيقظت فطرته، فقال: إن كان لا ينفع في البحر إلا الله فلا ينفع في البر إلا الله، لله علي إن نجاني أن آتي محمداً وأضع يدي في يده ولأجدنه رءوفاً رحيماً، وفعلاً نجاه الله وجاء إلى المدينة وأسلم، وصار رضي الله عنه محباً للقرآن، كان يضع المصحف على عينيه ويقول: كلام ربي كلام ربي، ثم خرج مجاهداً في سبيل الله حتى اختاره الله في اليرموك شهيداً، في فتوحات الشام.

    ومثله أيضاً صفوان بن أمية بن خلف كان عدواً لله ورسوله وقد هرب من مكة بعد الفتح فأرسل إليه النبي عليه الصلاة والسلام ابن عمه وزوج أخته عمير بن وهب الجمحي ، أرسله إليه بعمامته، أي: بعمامة النبي عليه الصلاة والسلام، فأدركه عمير وقال له: يا صفوان ! جئتك من عند خير الناس وأبر الناس وأوصل الناس، ارجع إلى مكة فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمنك شهرين، يعني: ترجع إلى مكة وعندك حق اللجوء شهرين اثنين، وأخرج إليه عمامة النبي عليه الصلاة والسلام على أنها أمارة الأمان، فرجع صفوان ودخل مكة وهو راكب جواده، فرحب به النبي عليه الصلاة والسلام وقال له: ( انزل أبا وهب ! فقال له: يا محمد! زعم رسولك أنك قد أمنتني شهرين؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: بل أربعة )، يعني زاده شهرين، ( انزل أبا وهب ! )، فنزل صفوان بن أمية وبقي في مكة وهو كاره للدين وكاره للنبي عليه الصلاة والسلام، فلما كان يوم حنين، وأراد النبي عليه الصلاة والسلام أن يخرج لغزو ثقيف استعار من صفوان أدرعاً، فقال له صفوان : أغصباً يا محمد؟! أي: أنت تريد أن تأخذها مني بالقوة؟ قال: ( بل عارية مستردة )، وخرج صفوان مع جيش المسلمين وهو على شركه، وفي أول الأمر اضطربت صفوف المسلمين كما قال ربنا جل جلاله: إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمْ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ[التوبة:25]، حتى صاح بعض القرشيين فقالوا: بطل السحر اليوم، فقال له صفوان : اسكت فض الله فاك، فوالله لأن يربني رجل من قريش خير من أن يربني رجل من ثقيف، يعني قال له: محمد صلى الله عليه وسلم أنا مختلف معه وكاره له، لكن القرشي أحب إلي من الثقفي، فالمسألة عنده قومية ليس فيها أي بعد ديني.

    وبعد ذلك انتظمت صفوف المسلمين وصارت الكرة لهم، ونصرهم الله عز وجل، ثم لما وضعت الحرب أوزارها أعطى النبي صلى الله عليه وسلم صفوان مائة من الإبل ثم مائة ثم مائة، ورد إليه أدراعه وكان بعضها قد تلف، فعرض عليه النبي صلى الله عليه وسلم الضمان، يعني: التعويض، فقال له صفوان : أنا اليوم في الإسلام أرغب، يقول صفوان : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أبغض الناس إلي فما زال يعطيني ويعطيني حتى صار أحب الناس إلي عليه الصلاة والسلام.

    فما معنى هذه الآية: وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [يس:10]؟ ومثلها في سورة البقرة: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ ءأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [البقرة:6]، قال أهل التفسير: هي من العام المخصوص، والمراد بها من سبقت له الشقاوة في الأزل، يعني ربنا جل جلاله سبق في علمه أن بعض الناس لا يؤمن، كما قال سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوْا الْعَذَابَ الأَلِيمَ [يونس:96-97]، بعض الناس هكذا، يرى بعينيه ويسمع بأذنيه فلا يزداد إلا كفراً والعياذ بالله، فالآية ليست على عمومها، وإنما هي مخصوصة بمن سبقت له الشقاوة في علم الله الأزلي سبحانه وتعالى.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب ...)

    قال تعالى: إِنَّمَا تُنذِرُ مَنْ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ [يس:11].

    صفات من ينتفعون بالإنذار

    يبين ربنا جل جلاله صفات من ينتفع بالإنذار، وينتفع بالوعد والوعيد، مثل قوله سبحانه وتعالى: إِنَّمَا أَنْتَ مُنذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا [النازعات:45]، وقوله: مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ [ق:33]، وقوله: فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ [ق:45].

    ‏ فأول صفة للمنتفع بالإنذار اتباع الذكر، والذكر هاهنا هو القرآن كما قال سبحانه: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ[الحجر:9]، أي: القرآن، وقال: وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ[الأنبياء:50]، وقال: لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ[الأنبياء:10]، فالصفة الأولى بأن هذا الإنسان المنتفع بالإنذار قد اتبع القرآن، اتبع هديه فأحل حلاله وحرم حرامه.

    الصفة الثانية: وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ[يس:11]، هذا الإنسان خشي الله تعالى، وتلاحظون ما قال سبحانه: وخشي العزيز، ولا قال: وخشي الجبار، ولا قال: وخشي المنتقم، ولا قال: وخشي القوي.. وإنما: وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ[يس:11]، الله أكبر! فهذا الإنسان يعلم بأن الله رحمن، وأنه جل جلاله قد سبقت رحمته غضبه، لكنه غره بالله الغرور، وبعض الناس قد يعصي ويسرف، فإذا قيل له: اتق الله، قال لك: الله غفور رحيم، صحيح الله غفور رحيم، لكن مغفرته ورحمته لا تجعلك تجترئ على معصيته، يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ [الانفطار:6]، إذا كان كريماً رحيماً جل جلاله فهذا يحملنا على مزيد من خشيته ومزيد من عبادته.

    بِالْغَيْبِ[يس:11]، هذه صفة ثالثة، بأن خشيته للرحمن جل جلاله ما كانت في الجلوة وأمام الناس.. لا، وإنما خشي الرحمن بالغيب، حتى وهو غائب عن أعين الناس لا يراه راء ولا يسمعه سامع، ولا يطلع عليه مطلع.. فحاله في الخلوة كحاله في الجلوة.

    إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل خلوت ولكن قل علي رقيب

    لأنك تعلم بأن الله يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، فإذا خلوت بمحارم الله فلا تنتهكها.

    بشارة الله لمن يتبع الذكر ويخشاه بالغيب

    قال تعالى: فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ [يس:11]، أي: يا محمد! بشر هذا المتبع للذكر، هذا الذي يخشى الرحمن بالغيب بشره بمغفرة، والمغفرة هي: الستر، والستر مأخوذ من المغفر، والمغفر هو الغطاء الذي يوضع على الرأس، وقد دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة وعلى رأسه المغفر؛ فحين تقول: يا رب! اغفر لي! معناه: استر ذنوبي، لا تفضحني يا ألله! ولذلك كان من دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أصبح أنه يقول: ( اللهم إني أصبحت منك في نعمة وعافية وستر، فأدم علي نعمتك وعافيتك وسترك في الدنيا والآخرة ).

    فيقول الله لرسوله: بشر هذا المتبع للذكر الذي يخشى الرحمن بالغيب بمغفرة وهي ستر الذنوب، ولو أنك أذنبت في حق إنسان فستر عليك لكان هذا تفضلاً منه، والله جل جلاله لا يكتفي بالمغفرة، ولا يكتفي بالستر بل يعطيك الأجر؛ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ [يس:11]، والأجر الكريم: رضوان الله عز وجل، وجنة عرضها السموات والأرض، في مقعد صدق عند مليك مقتدر، الأجر الكريم: عيشة هنية وميتة سوية ومرد غير مخز ولا فاضح.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (إنا نحن نحي الموتى ونكتب ما قدموا ...)

    ثم قال سبحانه: إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ [يس:12]، وهذه الآية قد اشتملت على أمور أربعة: ‏

    تقرير إحياء الموتى وذكر أمثلة من القرآن

    الأمر الأول: إحياء الموتى، إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى[يس:12]، وهذه عندنا مسلمة معشر المسلمين، نعلم بأن الله عز وجل قادر على أن يحيينا، كما قال سبحانه: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [البقرة:28]، وكما قال سبحانه: إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ [ق:43]، فالله عز وجل يحيي الموتى.

    وقد بين في القرآن أمثلة في القرآن منها: قتيل بني إسرائيل، فإن الله عز وجل أمر بني إسرائيل بأن يضربوه ببعض بقرة: فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى[البقرة:73]، فأحيا الله ذلك القتيل وأخبر عن قاتله، ومن ذلك أيضاً العبد الصالح عزير الذي أماته الله مائة عام ثم بعثه، ومن ذلك أيضاً الطير التي أمر الله إبراهيم عليه السلام بأن يذبحهن وينتف ريشهن ويقطعهن، ثم يخلط بعضهن ببعض، ثم يجعل على كل جبل منهن جزءاً، قال: ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً[البقرة:260]، ومن ذلك أيضاً أصحاب الكهف، الذين ضرب الله على آذانهم ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعاً، ثم بعد ذلك يقول سبحانه: وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا[الكهف:21]، ومثل ما يرينا الله في كل يوم آية من آياته حين يميتنا ثم يحيينا؛ ولذلك حين نقوم من نومنا نقول: الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النشور، فهذه القضية ينبغي أن ينعقد عليها قلبك، لا تشك فيها أبداً، وهي أن الله قادر على أن يحيي الموتى.

    كتابة ما قدمه الإنسان في حياته

    قال تعالى: وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا[يس:12]، كل ما تعمله أيها الإنسان من خير أو شر، طاعة أو عصيان، هدى أو ضلال، استقامة أو انحراف، كله مكتوب عند الله، كما قال سبحانه: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَاماً كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ [الانفطار:10-12]، وكما قال سبحانه: وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا[الكهف:49]، وكما قال سبحانه: أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ[المجادلة:6]، وكما قال سبحانه: وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنشُوراً * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً [الإسراء:13-14]، كل ما قدمت، كل ما فعلت فإنه مكتوب إما في صحيفة الحسنات أو في صحيفة السيئات، كله مكتوب عند الله عز وجل.

    ما ينفع الإنسان بعد موته

    قال سبحانه: وَآثَارَهُمْ[يس:12]، نكتب ما قدموا ونكتب آثارهم، الآثار قالوا: ما خلفه العبد من علم علمه، أو بئر حفره، أو نهر أجراه، أو مسجد بناه.

    وكما قال السيوطي رحمه الله:

    إذا مات ابن آدم ليس يجري عليه من فعال غير عشر

    علوم بثها ودعاء نجل وغرس النخل والصدقات تجري

    وراثة مصحف ورباط ثغر وحفر البئر أو إجراء نهر

    وبيت للغريب بناه يأوي إليه أو بناء محل ذكر

    وتعليم لقرآن كريم فخذها من أحاديث بحصر

    فـالسيوطي رحمه الله يقول: الأحاديث ثبتت بأن هذه الخصال العشر مما ينفع الإنسان بعد موته، أولها: علوم بثها، ( إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث، وذكر من بينها علم ينتفع به )؛ ولذلك أئمتنا رحمهم الله الذين كتبوا في تفسير القرآن، وفي أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام وسيرته، وكتبوا كذلك في العلوم النافعة في الفقه وأصوله وفي مصطلح الحديث وفي غير ذلك، هؤلاء ما زالت كتبهم ينتفع بها وأجرها ماض.

    وبالمقابل أيضاً: وَآثَارَهُمْ[يس:12]، الناس الذين كتبوا الضلال والخبال وصدوا عن سبيل الله أيضاً مصائبهم في موازين سيئاتهم ما زالت تمضي، كل من ضل بسبب هذه الكتابات فهي في موازينهم، قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( من سن في الإسلام سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، لا ينقص ذلك من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة، لا ينقص ذلك من أوزارهم شيء ).

    الخصلة الثانية: (ودعاء نجل) كما في الحديث؛ ( أو ولد صالح يدعو له )؛ لأن الولد من كسبك، يعني: لو نشأته على مكارم الأخلاق وقيم الإسلام ومفاهيم الإيمان وعلمته الصلاة وحببته في القرآن، وبذلت جهداً في أن تقيمه على الصراط المستقيم، فما يعمله هذا الولد من عمل صالح هو أيضاً في ميزان حسناتك، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه، وإن ولده من كسبه )، ودعاء نجل.

    الخصلة الثالثة: (وغرس النخل)، فلو أن نخلة غرستها ثم بعد ذلك يأكل منها الإنسان والطير والحيوان، ويسرق منها ويؤخذ منها، كل ذلك في ميزان حسناتك، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فاستطاع ألا يقوم حتى يغرسها فليغرسها )، ديننا يشجعنا على الزراعة وعلى العناية بالخضرة ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً. والصدقات تجري.

    الخصلة الرابعة: (وراثة مصحف)، فلو أن مصحفاً خططته بيدك أو مصحفاً اشتريته فجعلته في بيت من بيوت الله، أو أعطيته لرجل يقرأ فيه ويتعلم، فما دام هذا المصحف باقياً فأجرك ماض، وهذا من الآثار الحسنة.

    وعلى العكس -والعياذ بالله- لو أن إنساناً اشترى كتباً مثلاً لـكارل ماركس أو لبعض أهل الضلالة فوزعها ذات اليمين وذات الشمال، فهذه أيضاً آثار لكنها في موازين السيئات..

    الصفة الخامسة: (رباط ثغر)، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( لما عرج بي مررت على أقوام في الجنة يحصدون، كلما حصدوا عاد الزرع كما كان، فسألت عنهم، فقيل: هؤلاء هم المرابطون في سبيل الله )، يختم على عمل الإنسان إلا المرابط، فإن أجره يمضي إلى يوم القيامة، رباط الثغر ينمي الله لصاحبه عمله إلى يوم القيامة.

    الصفة السادسة: (حفر البئر)، لو أن إنساناً حفر بئراً، وهذه البئر شرب منها من شرب، وسقى منها من سقى، وزرع منها من زرع، وادخر من ادخر، واغتسل من اغتسل، هذا كله في ميزان حسناته.

    الصفة السابعة: (أو إجراء نهر)، لو أن إنساناً حفر فأجرى نهراً، وليس بالضرورة أن يكون نهراً كنهر النيل أو الفرات، وإنما حتى لو كان شيئاً صغيراً يسيراً.

    ثم الصفة الثامنة: (وبيت للغريب بناه يأوي إليه...)، بنى بيتاً، هذا البيت جعله لابن السبيل، من مر ليس له بيت يأويه، وليس عنده مال ينزل به في فندق، فإنه يأوي إلى ذلك البيت حتى يبلغ مراده، هذا أيضاً من العمل ومن الآثار التي تكتب.

    الصفة التاسعة: (وبناء محل ذكر)، وبناء محل ذكر الذي هو المسجد، ومثله الخلوة القرآنية وما أشبه ذلك، وليس بالضرورة أن يكون مسجداً واسعاً فسيحاً فخماً ضخماً؛ بل قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( من بنى لله مسجداً ولو كمفحص قطاة -كعش طائر- بنى الله له بيتاً في الجنة ).

    وقد قيل:

    مما تواتر حديث من كذب ومن بنى لله بيتاً واحتسب

    ورؤية شفاعة والحوض ومسح الخفين وهذي بعض

    فمن بنى لله مسجداً ولو كان صغيراً، ولو كان من طين، ولو كان لا يسع من المصلين إلا عشرة بنى الله له بيتاً في الجنة.

    الصفة العاشرة: (وتعليم لقرآن كريم)، وهذا التعليم أيها الإخوة الكرام سلسلة تمضي؛ ولذلك الصحابة الأولون الذين علموا التابعين، والتابعون الذين علموا تابعيهم ما زالت هذه الأسانيد متصلة إلى أولئك الأولين، فهذا كله في موازين حسناتهم، وهذه هي الآثار التي تبقى لأصحابها، نسأل الله أن يجعلنا منهم.

    1.   

    إحصاء الله على عباده أعمالهم

    قال الله عز وجل: وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ [يس:12]، الإمام هو الكتاب، عندنا في لغة العرب كلمات معدودة على وزن فعال بمعنى: مفعول، فالإمام بمعنى: المؤتم به، والكتاب بمعنى المكتوب، واللباس بمعنى الملبوس.

    يبين الله عز وجل أن كل واحد منا له كتاب، كما قال سبحانه: يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً * وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً [الإسراء:71-72]، فكل إنسان منا عليه أن يسأل نفسه: هل الفعل الذي يفعله، هل الكتاب الذي يخطه، هل هو في ميزان حسناته أو في ميزان سيئاته؟ هل سيكون سبباً في أن يعطى كتابه بيمينه أو يكون سبباً في أن يعطى كتابه بشماله؟ فمن جعل الآخرة نصب عينيه وعلم أن الموت أدنى إليه من شراك نعله، فإنه يتق الله عز وجل فيما يقول ويفعل.

    أسأل الله أن يجعلنا من المعتبرين المتعظين المنتفعين.

    وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756414834