إسلام ويب

صد قريش عن دين الله [1]للشيخ : عبد الحي يوسف

  •  التفريغ النصي الكامل
  • بدأ النبي صلى الله عليه وسلم في الدعوة متدرجاً من السر إلى العلن، ومن كف اليد عن المشركين إلى مقاتلة من بدأه بقتال، ثم أمر بدعوة الناس جميعاً وقتال من وقف في طريق الدعوة، وقد استخدمت قريش في محاربة رسول الله وسائل شتى منها: محاولة التأثير على أبي طالب ليترك الدفاع عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومتابعة النبي صلى الله عليه وسلم في المواسم للصد عنه، والاستهزاء والسخرية به، وطلب المعجزات والآيات على جهة التعجيز وغيرها.

    1.   

    مراحل الدعوة التي مر بها النبي صلى الله عليه وسلم

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    الحمد لله رب العالمين، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، والسراج المنير، والبشير النذير، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

    فأسأل الله سبحانه أن يجعلنا من المقبولين.

    إن مراحل الدعوة التي مر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم تمثلت فيما يلي:

    المرحلة الأولى: الدعوة السرية، وهذه امتدت لثلاث سنين.

    المرحلة الثانية: الدعوة العلنية، مع الكف عن القتال، وقد أمره الله بالصبر الجميل، والصفح الجميل، والإعراض، وهذه استمرت إلى الهجرة.

    المرحلة الثالثة: الدعوة العلنية مع قتال من ابتدءوه بالقتال، وهذه استمرت من بعد الهجرة إلى صلح الحديبية.

    المرحلة الرابعة والأخيرة وهي: إبلاغ الدعوة إلى الناس كافة مع قتال من وقف في طريقها، وحال دون انتشارها وبلوغها أقاصي الأرض وأطرافها.

    ولما نزل قول ربنا جل جلاله: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ [المدثر:1-2]، ( قام رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصفا أو أبي قبيس ودعا الناس، وقال لهم: إني رسول الله إليكم جميعاً، قولوا لا إله إلا الله تفلحوا، قولوا: لا إله إلا الله تملكوا بها العرب والعجم )، وقام شقي القوم أبو لهب ؛ يتلفظ بكلام بئيس حين قال للنبي صلى الله عليه وسلم: تباً لك -أي: هلاكاً لك- ألهذا جمعتنا؟! فكان جزاؤه التباب في الدنيا والآخرة.

    لقد بدأ النور ينتشر في مكة، وبدأ الناس يستجيبون لهذه الدعوة ويدخلون فيها، فبدأ الكفار في حربها، وهذه سنة الله عز وجل مع جميع الأنبياء والمرسلين، فكل الأنبياء كذبوا، وكل الأنبياء أوذوا، وكل الأنبياء طوردوا، بل بعض الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قتلوا؛ ولذلك لخص ورقة بن نوفل رحمه الله الأمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال له: ( ليتني أكون حياً؛ إذ يخرجك قومك، فقال له عليه الصلاة والسلام -متعجباً-: أومخرجي هم؟! قال: نعم. لم يأت أحد بمثل ما أوتيت به إلا عاداه قومه ).

    1.   

    الأساليب النفسية التي استخدمتها قريش في محاربة النبي والصد عن دعوته

    وحرب قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمسلمين إجمالاً يمكن تلخيصها في ثلاث وسائل:

    الوسيلة الأولى: الحرب النفسية، بإطلاق الإشاعات والأقاويل وترويج التهم والأباطيل، ورمي رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين معه بما هم منه براء.

    الوسيلة الثانية: الحرب الاقتصادية، والمقاطعة والتضييق من أجل أن يفكر المسلمون في مصالحهم الدنيوية وحاجاتهم الآنية، فيرجعون عن الطريق الذي هم فيه.

    الوسيلة الثالثة: حرب التصفية الجسدية، وذلك بالتعذيب والتقتيل، على سنة فرعون لما قال له قومه: أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ [الأعراف:127]، فهذه طريقة فرعون في القديم والحديث، لا يحارب الدعوة الإسلامية بالفكر ولا بالحجة ولا بالمنطق ولا القدوة، وإنما يحاربها بالتخويف والإرهاب والتقتيل والتضييق والتجويع، وهذه هي وسائل الفراعنة الأولين والآخرين.

    كفار قريش بعضهم كان يظن أن دعوة محمد صلى الله عليه وسلم سيكون أثرها محدوداً ومفعولها قليلاً، كما كان حال الحنفاء من قبله: زيد بن عمرو بن نفيل ، وورقة بن نوفل ، وقس بن ساعدة , وأمثالهم. لكنهم رأوا النور ينتشر والناس في كل يوم يهتدون، ودعوة الإسلام في كل يوم تكسب أشخاصاً جدداً، وكفار قريش كانوا يفكرون أيضاً في مصالحهم الاقتصادية، وكانوا يقدمون أنفسهم على أنهم أهل الله والحرم، وكان الناس يأتون حجاجاً من أجل أن يطوفوا بهذه الأصنام ويتمسحوا بها، فتنتعش بضاعة قريش، وتأتيهم الأموال والقرابين، وفكروا في أن هذا كله سيزول لو سادت دعوة محمد صلى الله عليه وسلم، فمن هنا بدءوا بهذه الأساليب، وهي على التفصيل:

    محاولة كفار قريش التأثير على أبي طالب ليترك الدفاع عن النبي صلى الله عليه وسلم

    أولاً: محاولة التأثير في عمه أبي طالب ، وهم يعلمون بأن أبا طالب يرعى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويدفع عنه، ولا يرضيه أن يلحقه شيء من أذى؛ ولذلك ذهب جماعة من أشراف قريش وسراتها إلى أبي طالب عم النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم، وقالوا له: ( يا أبا طالب ! إن ابن أخيك محمداً قد عاب ديننا، وسفه أحلامنا، وذم آلهتنا، وفتن صغارنا، فإما أن تكفه عنا، وإما أن تخلي بيننا وبينه، فنكفيكه، فإنك على مثل ما نحن عليه من الدين )، يعني: كان أبو طالب معهم في عبادة الأصنام، وما كان مسلماً، فلما قالوا له هذا الكلام صرفهم بقول جميل.

    واستمرت الدعوة الإسلامية تنتشر، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يرتل على الناس القرآن، ويسفه لهم عبادة الأوثان، ويدعوهم إلى توحيد الملك الديان جل جلاله، فما أطاق القوم صبراً، فجاءوا إلى أبي طالب مهددين متوعدين، قالوا له: (إنا قد أتيناك فأبيت إلا أن تدفع عن محمد، فإما أن ينتهي عما يقول وإلا واللات والعزى لنخرجن ولنناجزنك معه)، يعني: أنت وهو سنكون حرباً عليكما، هنا أبو طالب وجد أن الأمر قد أخذ منحىً خطيراً، فاستدعى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له: (يا ابن أخي! إن قومك قد أتوني، فأبق علي وعلى نفسك، وكف عنهم ما يكرهون) يعني: كأنه يقول له: أنا وأنت ضعيفان، وأغلب الناس ضدك، ولا يرضون قولك، فبدلاً من أن تعرضني ونفسك لأمور صعبة ومشكلات كثيرة، هون عليك وكف عن الناس ما يؤذيهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الكلمة المدوية: ( والله يا عم! لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه )، قال له: لو أني ملكت الشمس والقمر في مقابل ترك هذا الأمر ما أتركه، وهذا يسمونه التعليق على المستحيل؛ لأنه لا يمكن للإنسان أن يمسك الشمس بيمينه أو القمر بيساره، لكن لو فرض؛ لأن القوم كانت عقولهم ضعيفة، وكان إدراكهم متأخراً، كانوا يظنون أن محمداً صلى الله عليه وسلم يريد ملكاً أو يريد مالاً، حتى جاءه بعض أشقيائهم وهو عتبة بن ربيعة وقال له: (يا محمد! ما رأيت أشأم منك، فانظر ماذا تريد؟ إن كنت تريد مالاً جمعنا لك حتى تصير أغنانا، وإن كنت تريد ملكاً ملكناك علينا، وإن كنت تريد نساءً فانظر أجمل نساء قريش نزوجك عشراً، وإن كان الذي يأتيك رأي من الجن التمسنا لك الطب)، فهذه عروض أربعة: تريد مالاً؟ سنجعلك أغنى واحد فينا، تريد ملكاً؟ أنت الملك من اليوم، تريد زواجاً؟ بدلاً من واحدة نزوجك عشراً، وإن كنت تعاني من شيء من خلل نلتمس لك الطب.

    هكذا كان تفكيرهم، فهم لا يظنون أن إنساناً يبذل وقته بالليل والنهار ويستفرغ وسعه يريد رضا الرحمن جل جلاله، ويريد جنة عرضها السموات والأرض؛ ولذلك قال لعمه أبي طالب هذا الجواب: ( لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه ).

    وفي بعض الروايات: أن أبا طالب جمع بعض قومه وقال للنبي عليه الصلاة والسلام: يا ابن أخي! إن بني عمك هؤلاء قد زعموا أنك تؤذيهم في ناديهم ومسجدهم، فانته عن أذاهم، فحلق رسول الله صلى الله عليه وسلم ببصره إلى السماء ثم قال: ( أترون هذه الشمس؟ قالوا: نعم. قال: فما أنا بأقدر على أن أدع ذلك منكم على أن تستشعلوا منها شعلة )، يعني: يقول لهم: هل تستطيعون أن توقدوا شعلة من الشمس؟ الجواب: لا، وأنا أيضاً لا أستطيع أن أترك الدعوة إلى الله عز وجل، ولا أستطيع أن أترك الدعوة إلى قول لا إله إلا الله، ولا أستطيع أن أترك أمركم بأن تكفروا بالطاغوت وتؤمنوا بالله، فقال أبو طالب : (والله ما كذبنا ابن أخي فارجعوا).

    فالرسول عليه الصلاة والسلام لم يبحث هاهنا عن أنصاف الحلول، ولا عن الالتقاء في نصف الطريق، وإنما يعلنها مدوية أن هذا طريق ابتدأه ولن يرجع عنه صلوات ربي وسلامه عليه.

    وقد يقول قائل: إذا كان أبو طالب كافراً، فكيف أحاط بالنبي صلى الله عليه وسلم ودافع عنه هذا الدفاع المرير؟

    أقول: لأنه كان يحب النبي صلى الله عليه وسلم حباً طبعياً لا حباً شرعياً، فإن الله عز وجل جبل الناس على أن الولد يحب أمه وأباه، ولو كانا كافرين، وكذلك جبل الله الأب والأم على حب الأولاد ولو كانوا كفاراً أو فساقاً، ومثله أيضاً ما يكون من الحب والتراحم بين الأقرباء، ونحن نقرأ في القرآن أن بعض الأنبياء انتفعوا بأقوامهم رغم كونهم كفاراً؛ ولذلك نقرأ بأن شعيباً عليه السلام يقول له قومه: مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ [هود:91].

    وأنا أقول: بأن أبا طالب كان يوقن في قرارة نفسه أن محمداً رسول الله عليه الصلاة والسلام، وأنه صادق لا يكذب، وكان يقول في شعره:

    ولقد علمت بأن دين محمد من خير أديان البرية دينا

    لولا الملامة أو حذار مسبة لوجدتني سمحاً بذاك مبينا

    تالله لن يصلوا إليك بجمعهم حتى أوسد في التراب دفينا

    لكن أبا طالب كان عنده آفة نفسية ومشكلة اجتماعية وهي أنه لا يريد أن يخالف قومه، بل يريد أن يكون مع الملأ، وأن يكون مع الناس حتى في سكرات موته لما قال له النبي صلى الله عليه وسلم: ( يا عم! كلمة واحدة قلها أشهد لك بها عند الله، قل: لا إله إلا الله، فقال له: لولا المسبة والعار لقلتها )، سبحان الله! أنت على مشارف الموت، وعما قريب ستنتقل إلى دار أخرى، فماذا يضرك لو ظل الناس يسبونك إلى يوم القيامة؟! ومثله أيضاً لو أنك مت على الكفر ودخلت النار، ماذا ينفعك أن يمدحك الناس إلى يوم القيامة؟!

    ولذلك الإنسان العاقل لا يفكر في مدح الناس ولا في ذمهم أبداً، وإنما يفكر ماذا يرضي ربه جل جلاله؟ ما الذي يقربه إلى مولاه؛ ولذلك تجدون الآن من الناس من كانوا فساقاً فجاراً والناس يصفقون لهم، ويدبجون المقالات والقصائد في مدحهم، ثم بعد ذلك لما هلكوا لقوا الله بأعمالهم، وما عاد أحد يذكرهم، وكم من الناس كانوا على هذا الطريق، وكان من خلفهم المصفقون والمداحون والمطبلون، ثم بعد ذلك ولوا وتركوهم وأسلموهم إلى أعمالهم، يلقى أحدهم ربه بما قدم، كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ [المدثر:38]، كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ [الطور:21]، وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [الأنعام:164].

    توجيه كفار قريش التهم الباطلة لرسول الله صلى الله عليه وسلم

    ثانياً: التهم الباطلة، فقد اتهموا رسول الله صلى الله عليه وسلم بتهم ينقض بعضها بعضاً، فتارة: يتهمونه بالجنون، وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ [الحجر:6]، وهكذا كل الأنبياء اتهموا بالجنون صلوات الله وسلامه عليهم، قال الله عز وجل: وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ [القلم:51]، وينفي ربنا جل جلاله التهمة فيقول: بسم الله الرحمن الرحيم، ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ * مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ [القلم:1-2]، بل كان صلوات الله وسلامه عليه أكمل الناس عقلاً، وأوسعهم صدراً، وأعظمهم حلماً، وأشرحهم نفساً، صلوات الله وسلامه عليه فهذه هي التهمة الأولى.

    التهمة الثانية: قالوا: إن محمداً ساحر، يقول الله عز وجل: وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ [ص:4]، كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ [الذاريات:52]، وهذا من التناقض، فكيف يكون مجنوناً وفي الوقت نفسه ساحراً، والسحر يحتاج إلى معالجة كما يقول الناس، ورقى وأحراز وتمائم يُجمع بعضها إلى بعض، وتعالج معالجات معينة، فتحدث تأثيرها بإذن الله، قد تمرض وقد تقتل، وقد تفرق بين الرجل وزوجه، هذا هو السحر ولا يتأتى من مجنون، لكن كما قال الله عز وجل: إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ * يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ [الذاريات:8-9].

    إذاً: تارة يقولون: مجنون، وتارة: ساحر، وتارة: كذاب، وهي التهمة الثالثة:

    ثم التهمة الرابعة: قالوا: بأن هذا القرآن أساطير الأولين، أي: حكايات قديمة يتلوها على الناس، وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً [الفرقان:5].

    التهمة الخامسة: قالوا: هذا القرآن تعلمه من رجل نصراني اسمه: عداس، أو اسمه: جبر ، وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ [النحل:103]، يعني: عداس وجبر أعاجم، وهذا قرآن فصيح أنتم عاجزون عن مجاراته، وعاجزون عن الإتيان بسورة من مثله، فكيف يكون من تعليم البشر؟!

    متابعة قريش للنبي في المواسم لصد الناس عنه

    ثالثاً: متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم في المواسم لصد الناس عنه، ففي موسم الحج كان الرسول عليه الصلاة والسلام يغشى الناس، ويمر على القبائل والتجمعات يقول: ( يا أيها الناس! إني رسول الله إليكم، قولوا: لا إله إلا الله، من ينصرني؟ من يؤويني حتى أبلغ دعوة ربي؟ )، وخلفه رجل أحول وضيء ذو غديرتين -عنده ضفيرتين- فمجرد ما ينتهي رسول الله من كلامه يقول: لا تصدقوه فإنه كذاب، والناس يعجبون! ويقولون: ما هذا؟! فيقول القائل: هذا محمد بن عبد الله يزعم أن الله أرسله، والرجل الذي خلفه عمه أبو لهب ، فيقول الناس: عمه أعرف به.

    ومثلاً: الآن لو أن إنساناً خطب إليك بنتك فذهبت وسألت عنه عمه، فقال لك: بأن هذا كذاب، وصاحب فتن، ويفرق بين المرء وزوجه، لا شك أنك ستقول: عمه أعرف به.

    فبهذه الطريقة كان الصد عن سبيل الله، بل بلغ بهم الحال أن يمنعوا الناس من الاستماع إليه، ولما جاء الطفيل بن عمرو الدوسي رضي الله عنه، وكان رجلاً شاعراً حكيماً لبيباً، اجتمع به كفار قريش وقالوا له: ( يا طفيل ! إنك قدمت بلادنا وإن هذا الرجل بيننا قد أعضل أمره -أي: اشتد وصعب- فلا تجلس إليه ولا تسمع منه فإنه ساحر يسحرك بكلامه، يفرق بين المرء وزوجه، وبين الولد وأبيه، وبين الأخ وأخيه)، وهذا يسمونه: الإرهاب الفكري، والحرب النفسية، يقول الطفيل : حتى بلغ بي الحال أني ذهبت إلى البيت الحرام وقد وضعت في أذني كرسفاً -والكرسف: القطن- حذراً من سماع كلام الرسول صلى الله عليه وسلم، قال: ثم قلت لنفسي: إنه لقبيح بكِ أن تعجزي عن سماعه والرد عليه، أي: لماذا أضع في أذني قطناً؟ بل أسمع فإن كان باطلاً فما أنا بالذي أعجز عن رده، قال: (فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم واستمعت إليه فوجدت كلامه أحسن الكلام عليه الصلاة والسلام).

    فكلامه أحسن الكلام؛ لأنه لا يدعو إلى نفسه، ولا يدعو لمصلحة شخصية وإنما يقول لك: يا عبد الله! اعبد الله، اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ [الروم:40]، وفكر في نفسك، فهذا الصنم الذي تسجد له، أو هذا الإنسان الذي تعبده وترجوه، هل هو الذي خلق؟ هل هو الذي رزق؟ وهل هو الذي يحيي؟ وهل هو الذي يميت؟ فلم تعبده إذاً؟!

    إن المستحق للعبادة وحده هو من كان خالقاً رازقاً محيياً مميتاً جل جلاله.

    استهزاء قريش وسخريتهم من المؤمنين

    رابعاً: السخرية من المؤمنين أتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأكثرهم من الضعفاء والموالي ، كـزيد بن حارثة ، وبلال ، وصهيب ، وعمار ، وخباب وكانوا من المستضعفين، كما قال قوم نوح لنوح: مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِي الرَّأْيِ [هود:27]، (بادي الرأي) يعني: أنهم ناس يصدقون مباشرة أي كلام، ما عندهم فهم ووقار، هكذا قال كفار قريش.. قالوا: انظروا إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: بلال، وصهيب ، وعمار ، وخباب ، وزنيرة لَوْ كَانَ خَيْراً مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ [الأحقاف:11] أي: لو كان ما يدعو إليه محمد صلى الله عليه وسلم خيراً ما سبقنا إليه هؤلاء الأعبد، هؤلاء المستضعفون.

    يقول الله عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ انقَلَبُوا فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ [المطففين:30-32].

    وأيضاً من سخريتهم: أن بعضهم دعا الله بدعوة عجيبة، نعوذ بالله من الخذلان، قال: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنْ السَّمَاءِ أَوْ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [الأنفال:32]، والعاقل يدعو الله: اللهم إن كان هذا حقاً فاهدني إليه، وكان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم : ( اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم )، لكن هذا الجهول قال: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنْ السَّمَاءِ أَوْ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [الأنفال:32].

    مثلما قال قوم لوط للوط: ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنتَ مِنْ الصَّادِقِينَ [العنكبوت:29]، ومثلما قال قوم شعيب : فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مِنْ السَّمَاءِ [الشعراء:187]، أسقط علينا السماء قطعاً قطعاً. فهذا منطق الكفرة الفجرة دائماً.

    وكذلك لما خوفهم النبي صلى الله عليه وسلم بالزقوم قال أبو جهل ساخراً مستهزئاً: (أتدرون ما الزقوم؟! إنه تمر يثرب -تمر المدينة- بالزبد أتزقمه تزقماً)، ولما نزل قول الله عز وجل: سَأُصْلِيهِ سَقَرَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ * لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ * لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ ))[المدثر:26-29] (لَوَّاحَةٌ) أي: حارقة عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ [المدثر:26-30]، قال أبو جهل : (ويلكم أما تقدرون على تسعة عشر؟! اكفوني تسعة وأنا أكفيكم عشرة)! مجنون. قال الله عز وجل: وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلاَّ مَلائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَاناً [المدثر:31].

    وهذه السخرية ترجع عليهم بالوبال، ومن ذلك أن الملأ من قريش كانوا جلوساً، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم عند الكعبة يصلي، فأقبل رجل من إراش، أي: رجل إراشي فقال: (يا معشر قريش! من ينصفني من أبي الحكم - و أبو الحكم هو: عمرو بن هشام بن المغيرة المخزومي ، وسماه النبي صلى الله عليه وسلم أبا جهل- فإني قد بعته إبلاً، فأبى أن يعطيني الثمن -يعني: نوع من أكل أموال الناس بالباطل- فأرادوا أن يسخروا ويستهزئوا، فقالوا له: أتريد مالك؟ قال: نعم. قالوا: ما يستطيع أحد أن يعطيك المال إلا ذاك الرجل الأبيض المشرب بحمرة الذي يصلي عند الكعبة -يعنون: رسول الله صلى الله عليه وسلم - والإراشي لا يعرفه، فجاء إلى النبي عليه الصلاة والسلام وقال: ( يا أخا العرب! هل لك أن تنصر مظلوماً؟ قال: وما ذاك؟ قال: إن أبا الحكم قد ابتاع مني إبلاً ثم أبى أن يعطيني الثمن، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: هلم بنا إليه. فذهب وطرق على أبي جهل بابه، قال: من؟ قال: محمد. فجاء -لعنه الله- وفتح الباب، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أعط هذا الرجل ماله، قال: أفعل أفعل يا أبا القاسم! فدخل وأتى بالمال وسلمه للرجل، فرجع الإراشي إلى الكعبة وقال لهم: جزاكم الله خيراً يا معشر قريش! قالوا: ما صنع أبو الحكم ؟ قال: أعطاني المال؟ فتعجب القوم، ولما جاء أبو جهل قالوا له: عجباً لك! يأتيك الرجل مع محمد فتعطيه ماله وقد منعته؟ قال: بلى. قالوا: وما ذاك؟ قال: ما إن رأيت محمداً حتى رأيت فوقه فحلاً من الإبل لو امتنعت لطحنني بين أنيابه ).

    والرسول عليه الصلاة والسلام كساه الله مهابة وجلالة وفخامة، يهابه الناس؛ ولذلك كان الرجل إذا جاءه لأول مرة، أول ما يراه ترتعد فرائصه، من رآه بداهة هابه، ومن خالطه معرفة أحبه عليه الصلاة والسلام.

    وكذلك النبي عليه الصلاة والسلام كان يطوف يوماً حول الكعبة والملأ من قريش جلوس، فلما مر بهم غمزوه، أي: قالوا له كلمة فيها سخرية، فأعرض عنهم، فلما مر بهم ثانية غمزوه، فأعرض عنهم، ثم مر بهم في الثالثة فغمزوه، فالتفت إليهم وقال: ( تعلمون معشر قريش! والله لقد جئتكم بالذبح )، فألقى الله في قلوبهم الرعب حتى عاد أشدهم يقول له: انصرف أبا القاسم! والله ما كنت جهولاً. واعتذروا من كلامهم هذا أيضاً من المهابة والجلالة التي كساها الله عز وجل نبيه عليه الصلاة والسلام.

    ثم جاءوه بحيلة أخرى مرة من المرات وقالوا له: (يا محمد! وددنا لو جلسنا معك واستمعنا منك، ولكن اطرد هؤلاء الأعبد المساكين فإنهم يؤذوننا بروائح جبابهم، يعني: هؤلاء ما عندهم عطور وما عندهم بخور وما عندهم طيب، فلا يناسب أن نقعد مع هؤلاء، والرسول عليه الصلاة والسلام من حبه للخير ورغبته في هدايتهم بدأ يفكر في هذا الأمر، وأراد أن يجعل لهؤلاء مجلساً ولهؤلاء مجلساً، فأنزل الله عز وجل قوله: وَلا تَطْرُدْ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنْ الظَّالِمِينَ [الأنعام:52]، وأنزل قوله: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً [الكهف:28].

    ولذلك سنة المسلمين إلى يومنا هذا أن مساجدهم يجتمع فيها الأحمر والأسود والعربي والعجمي والغني والفقير، لا يستطيع واحد أن يقول للآخر: اذهب هذا ليس مسجد الفقراء، أو اخرج هذا ليس مسجد السود وإنما هو للبيض، لا يستطيع أحد أن يقوله ولو قاله لعد مجنوناً؛ لأن هذه من بدهيات ديننا، التسوية بين الناس في أماكن العبادة كلهم سواء، المسلمون في الصلاة سواء، وفي الصيام سواء، وفي الحج سواء، ليس عندنا يوم سبعة طواف الأغنياء ويوم ثمانية طواف الفقراء ويوم تسعة سعي الأغنياء، ويوم عشرة سعي الفقراء، لا. وإنما تجد الأحمر مع الأسود والغني مع الفقير، والفارع الطول مع القصير المغموص، كلهم في عبادة واحدة. وهذه من حكمة الله جل جلاله، ( المسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم ) كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    وبعض هؤلاء المستهزئين مكر بهم الله عز وجل وأنزل بهم بأسه؛ لأنه جل جلاله قال مطمئناً نبيه عليه الصلاة والسلام: إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ [الحجر:95]، ومن ذلك رجل يقال له : الأسود بن عبد يغوث كان شديد الأذى، عظيم الظغن لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ( فأشار عليه الصلاة والسلام إلى بطنه فرماه الله بالاستسقاء فهلك ). ومن ذلك: أن أحدهم كان يغمز والنبي صلى الله عليه وسلم يتكلم -يعني: كان يغمز بعينيه- فالتفت إليه النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: ( كن كذلك )، فصار الرجل غمازاً بقية حياته، وبعد أن كان ساخراً صار مسخوراً منه.

    بل بعضهم أهلكه الله، كـعتبة بن أبي لهب فإنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: ( يا محمد! أنا أكفر بالذي دنا فتدلى، فكان قاب قوسين أو أدنى، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: اللهم سلط عليه كلباً من كلابك )، كلباً أي: كلب، وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ [المدثر:31]، فرجع إلى أبيه وقال: يا أبت! لقد أتيت محمداً فآذيته في ربه، فقال له أبو لهب : هل رد عليك شيئاً؟ قال: دعا ربه وقال: اللهم سلط عليه كلباً من كلابك. فقال له أبو لهب : فاحذر يا بني! فإني لا آمن عليك دعوة محمد، فلما خرجوا في سفر في تجارة وجن عليهم الليل، جمع أبو لهب التجار وقال لهم: تعلمون أن محمداً قد دعا على ابني دعوة لا آمنها عليه، فلا تدعوه وحده، افرشوا حوله، يعني: لا تتركوه ينام منفرداً اجعلوه في الوسط، يقول هبار بن الأسود ، وكان قد أسلم بعد فتح مكة، يحكي هذه القصة ويقول: فجعلناه في وسطنا، فلما انتصف الليل أقبل سبع -والسبع: هو ذو الناب، قد يكون أسداً، وقد يكون نمراً، وقد يكون ذئباً- فشم وجوهنا، يعني: الناس النائمين في الطرف جعل السبع يشمشم فيهم مع أنهم ليسوا مدركين، لكن كل رجل في مكانه لا يستطيع التحرك، قال: فلما لم يجد بغيته تقبض -يعني: ضم بعضه إلى بعض- ثم وثب في وسطنا فشم عتبة ثم أخذه من بيننا وهزمه هزمة -أي: عضه عضة- فسخ فيها رأسه، فلما بلغ ذلك أبا لهب قال: لقد علمت أن دعوة محمد لا تخطئ، قال الله عزو وجل: فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ [الأنعام:33]، قال الله عز وجل: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ [النمل:14].

    ولذلك لما قال فرعون لموسى عليه السلام: إِنِّي لأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُوراً [الإسراء:101]، قال له موسى: لَقَدْ عَلِمْتَ[الإسراء:102] أي: يا فرعون! لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً [الإسراء:102]، أي: مصروفاً عن الحق، وفي هذا دليل على أن الداعية إلى الله أحياناً قد يواجه الكافر أو المعاند بالذي يكره، فإذا كنت داعية، والكفرة والفسقة يسخرون من الدين، وأنت تقول: الله يهديهم، لا. أحياناً تحتاج بعض المواقف إلى شدة؛ ولذلك لما جاء أبي بن خلف بعظم قد بلي، ففتته ثم ذره -نفخه- وقال: ( يا محمد! أتزعم أن ربك يحيي هذه بعدما صارت رميماً؟ قال له: نعم. يحييها ويبعثك ويدخلك النار ).

    فالمقصود من هذا: أن قريشاً اعتمدت أسلوب السخرية والاستهزاء للصد عن سبيل الله، وكان من بين المستهزئين النضر بن الحارث ، وقد كان يذهب إلى بلاد فارس ويسمع أخبار كسرى وإسفنديار ، ثم يأتي إذا جلس النبي صلى الله عليه وسلم مجلساً يقرأ على الناس القرآن، كان هذا الفاجر عدو الله يخلف النبي عليه الصلاة والسلام في مجلسه ويقول للناس: (أقبلوا علي، فإن محمداً يتلو عليكم أساطير الأولين، وعندي من أساطير الأولين). صداً عن سبيل الله عز وجل.

    وكان من المستهزئين : أمية بن خلف ، والأخنس بن شريق ، وهو الذي أنزل الله فيه قوله: وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ [البقرة:204-205].

    رفع كفار قريش أصواتهم بالصياح والكلام عند قراءة النبي للقرآن

    خامساً: التشويش، فقد كانوا يوصي بعضهم بعضاً ويقول لهم: (ارفعوا أصواتكم، وأكثروا من اللغط والكلام إذا بدأ محمد يقرأ قرآنه لئلا يسمعه الناس)، قال الله عز وجل: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ [فصلت:26]، وهذا أسلوب بعض الناس الآن، بعض الناس إذا أعوزته الحجة وصار مفلساً وانقطع، فإنه يلجأ كلما تكلمت إلى أن يقاطعك؛ لأنه ما عنده حجة، ولا عنده منطق، وهكذا المفلسون من كفار قريش أوصى بعضهم بعضاً باللغو والتشويش حال قراءة النبي صلى الله عليه وسلم القرآن.

    طلب كفار قريش من رسول الله المعجزات والآيات

    سادساً: طلب المعجزات، فقد كانوا يأتون إلى النبي عليه الصلاة والسلام كصنيع الكفار من قبلهم، مثلما قالت ثمود لـصالح: فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنْ الصَّادِقِينَ * قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ * وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ [الشعراء:154-156]، وهؤلاء قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنْ الأَرْضِ يَنْبُوعاً [الإسراء:90]، ومكة معروف أنه ما فيها إلا زمزم، أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيراً * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ [الإسراء:91-93]، أي: من ذهب، أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ [الإسراء:93]، أي: تأتي بسلم وتصعد أمامنا وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَقْرَؤُه [الإسراء:93]، فلقنه الله الجواب: قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلاَّ بَشَراً رَسُولاً [الإسراء:93]، ومرة يأتونه ويقولون له: ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ [يونس:15]، فيلقنه الله الجواب: قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [يونس:15].

    ونبينا عليه الصلاة والسلام لم يدع الله بأن تأتي هذه الآيات؛ لأنه علم من سنة الله في المكذبين أن الآية إذا جاءت فلم يؤمنوا بها فإنه يكون العذاب والاستئصال؛ ولذلك اقرءوا في القرآن، لما دعا المسيح ربه بإلحاح من قومه: اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنْ السَّمَاءِ [المائدة:114].. إلى آخر الآية، قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنْ الْعَالَمِينَ [المائدة:115].

    والنبي عليه الصلاة والسلام يعلم بأن القوم معاندون، وعن سبيل الله صادون، لكنه ما يزال يطمع في إسلامهم صلوات ربي وسلامه عليه.

    نقف عند هذا الحد ونكمل لاحقاً إن شاء الله، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    1.   

    الأسئلة

    حكم من قرأ الفاتحة جهراً في الصلاة السرية ولم يسجد للسهو

    السؤال: بدأ الإمام في الركعة الثانية بقراءة سورة الفاتحة جهراً، ثم استدرك وأتم قراءتها سراً ولم يأت بسجود سهو، ما حكمه؟

    الجواب: السنة الجهر في موضع الجهر، والسر في موضع السر، والجهر لا يكون إلا في صلاة الصبح، وصلاة الجمعة، والأوليين من المغرب والعشاء، وبقية الفرائض سراً، وتقدم معنا أن هذا من حكمة الله في تنويع العبادات، فتجد بعضها سرية وبعضها جهرية، وبعضها بدنية وبعضها مالية، وبعضها لسانية وبعضها قلبية، وبعضها يجتمع فيها المال والبدن، وبعضها نبذل فيها ما نحب، وبعضها نكف فيها عما نحب، هذا كله؛ لأن الإنسان مجبول على السآمة والملل، ولو أن الإنسان أسر في موضع الجهر أو جهر في موضع السر فقد خالف واحدة من السنن الثمان المؤكدة في الصلاة، فمن جهر في موضع السر فقد لزمه السجود بعد السلام؛ لأنه زاد، ومن أسر في موضع الجهر لزمه السجود قبل السلام؛ لأنه نقص، فإذا لم يسجد ولم يطل الفصل فإنه يسجد، يعني: هذا يلزمه السجود بعد السلام، فلو أنه ما فعل ولم يطل الفصل يمكن أن يستدرك ويسجد، أما لو طال الفصل فقد سقط عنه وهو معذور بجهله؛ لأنه في الغالب لا يعرف الحكم.

    قضاء الصلاة لمن تركها ثلاثين عاماً

    السؤال: رجل لم يصل لمدة ثلاثين عاماً، فهل يقضي الصلاة الفائتة؟

    الجواب: نعم. يقضيها، فإذا لم يصل يقضيها، قال لي واحد من الناس مرة: أنا عمري ثمانية وخمسون سنة وما صليت إلا قبل يومين أو ثلاثة أيام، ما هو الحكم؟ قلت له: يلزمك القضاء، قال: عمري ثمانية وخمسون سنة، قلت له: يلزمك القضاء، قال: كيف يلزمني القضاء؟ قلت له: يا أخي! هذا ذنبك ولا بد من القضاء، ( فدين الله أحق أن يقضى )، فتهددني وقال لي: أنا حلفاوي. فقلت له: نسأل الله الهداية للجميع.

    فالمقصود: بأن الإنسان لو ترك الصلاة عامداً ثم تاب إلى الله عز وجل فلا بد من قضائها طالما أنه ما كان منكراً وجوبها، ويدل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها، لا كفارة لها إلا ذلك )، فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم ألزم النائم والناسي وهما معذوران، فمن باب أولى من كان متعمداً.

    ثم إن من شروط التوبة: رد الحقوق إلى أهلها، فمن تاب من أكل أموال الناس لا بد أن يعيدها، ومن تاب من ترك الصلاة لا بد أن يصليها، ومن تاب من ترك الزكاة لا بد أن يؤديها، ومن تاب من ترك الصيام لا بد أن يقضيه، وهكذا.

    أما كيف يقضيها؟ فقال المالكية رحمهم الله: قدر الطاقة بغير عدد، يعني: لا يشتغل بالنوافل، وإنما قدر الطاقة، ولو استطاع أن يصلي الليل والنهار بما لا يؤثر على معاشه وسعيه على الرزق، ولا يؤثر على بدنه فليفعل، وأقل ذلك أن يقضي مع كل يوم صلاة يوم، هذا أقل شيء، بمعنى: أن الإنسان ينظر المناسب له، إذا كان المناسب بالليل، صلى بالليل قبل أن ينام ظهراً ثم عصراً ثم مغرباً ثم عشاءً ثم صبحاً، ودائماً العلماء يبدءون بالظهر؛ لأن صلاة الظهر أول صلاة صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدما رجع من المعراج، نزل عليه جبريل فصلى به الظهر ثم صعد، ونزل فصلى به العصر، ثم نزل وصلى به المغرب، ثم العشاء، ثم الصبح، وفي اليوم الثاني كرر في آخر الوقت وقال له: ( يا محمد! الوقت ما بين هذين ).

    حكم ضرب الطبول وعزف المزامير للمسحراتية

    السؤال: من يسمون أنفسهم بالمسحراتية، يضربون الطبول ويعزفون المزامير، هل يجوز هذا العمل؟

    الجواب: هؤلاء لا عمل لهم، هذا شغل من لا شغل له، وهذا كان قديماً، حيث لم يكن هناك كهرباء ولا مكبرات صوت، ولا ساعات ولا منبهات ولا جوالات، ولا كان الناس يسهرون، أما الآن فلا ينبغي هذا، بل إن هذا صنيع إنسان يضيع الوقت، ويستجيب لهوى النفس، فهؤلاء لا مسحراتية ولا يحزنون.

    فلا تضيع وقتك في رمضان، وأقبل على الله، واقرأ القرآن، واذكر الله، وأكثر من الاستغفار، وأكثر من نوافل الصلاة، وأكثر من الصدقات ونحو ذلك، فإذا لم تستطع، فكف عن الناس شرك.

    المقصود بالظلمات الثلاث في قوله تعالى: (يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقاً من بعد خلق في ظلمات ثلاث ...)

    السؤال: ما المقصود بالظلمات الثلاث في قوله تعالى: يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ[الزمر:6]؟

    الجواب: قول ربنا جل جلاله: يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ [الزمر:6]، قال أهل التفسير الأولون: هي ظلمة البطن، وظلمة الرحم، وظلمة المشيمة، أما الأطباء المعاصرون الآن فعندهم كلام آخر.

    قيام الإمام عن التشهد الأول وعدم رجوعه إليه بعد أن صار قائماً

    السؤال: في صلاة الظهر سها الإمام ولم يجلس للتشهد بالرغم من قول الناس له: سبحان الله! فأكمل الصلاة ثم بعد ذلك سجد سجود السهو بعد السلام، فقال بعض الناس: الصلاة باطلة، ثم أعادوا الصلاة، فأيهما أصح؟

    الجواب: هذا إمام فقيه، وفقه الإمام يعرف بمثل هذا، يعني: هو نسي التشهد الأوسط وقام حتى استتم قائماً، فالناس قالوا: سبحان الله! سبحان الله! فما رجع، وهذا دليل على فقهه، وإلا لو كان الناس يكررون: سبحان الله! سبحان الله! وهو يقوم ويقعد، فهذا خطأ.

    اعلموا أولاً: بأن السهو في الصلاة لا يسلم منه أحد، وقد سها سيد الناس عليه الصلاة والسلام فقام من اثنتين كما فعل هذا الإمام، وسلم من اثنتين، وقام إلى ركعة خامسة في صلاة رباعية، فالمفروض إذا حصل السهو أن يتعامل الناس معه بالشرع.

    ثانياً: لا ينبغي تعنيف الإمام ولا توبيخه، فإن بعض الجهال بعد الصلاة يسمعون الإمام ما يكره، ويقولون له: أين عقلك؟! وبماذا تفكر؟! وغيره من الكلام السيء، وربما يقول بعضهم: أنت لا تعرف أن تصلي، فمن جعلك إماماً؟

    ومعلوم بأن السهو لا يسلم منه أحد، ما سمي الإنسان إلا لأنه ينسى، وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ [طه:115]، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( نسي آدم فنسيت ذريته، وجحد آدم فجحدت ذريته )، والمفروض أن الإمام لا يتأثر بما يقولوه الناس.

    وكان الأنسب أن يسجد قبل السلام، لكنه سجد بعد السلام وهو صحيح؛ لأن هذه المسألة من مواطن الخلاف، والخلاف فيها قوي، فالحنفية رحمهم الله: عندهم السجود بعد السلام مطلقاً سواءً كان عن زيادة أو نقصان، والشافعية رحمهم الله: عندهم السجود قبل السلام مطلقاً، والحنابلة رحمهم الله: يتتبعون المواطن التي سها فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقولون: ما سجد فيه قبلياً نسجد قبل السلام، وما سجد بعدياً نسجد بعد السلام، أما المالكية رحمهم الله، وهم أوسط المذاهب وأعدلها في هذه المسألة: فقد وضعوا ضابطاً، وهذا الضابط أن النقصان يكون السجود له قبل السلام، والزيادة يكون سجودها بعد السلام، وإذا اجتمع النقصان والزيادة يرجح جانب النقصان فيسجد المرء قبل السلام. لكن الصلاة ليست باطلة.

    حكم من أقسم على قطع صلة إخوانه ثم رجع عن ذلك

    السؤال: نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي، واشتد بنا الانفصال والاختلاف، ووضعت يدي في كتاب الله وأقسمت على ألا تكون هناك صلة ولا علاقة بيني وبين إخوتي، ولكن عفا الله، وأصلح بيني وبين إخوتي، فما حكم القسم الذي أقسمته؟

    الجواب: يلزمك كفارة يمين بإطعام عشرة مساكين أو كسوتهم، وإذا عجزت فصم ثلاثة أيام، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه ).

    حكم من سلم إلى جهة اليسار ثم سلم إلى جهة اليمين في صلاة الجماعة ناسياً

    السؤال: في صلاة الجماعة كنت ساهياً في الصلاة، فسلم الإمام في الركعة الأخيرة وأنا سلمت عكس -أي: على الأيسر ثم الأيمن-، ماذا يترتب علي في هذه الحالة؟

    الجواب: هذا ليس ساهياً هذا ميت! وعلى كل حال الركن هو اللفظ، فعندنا الأركان القولية في الصلاة ثلاثة: تكبيرة الإحرام، وقراءة الفاتحة، وتسليمة التحليل، فإذا أتى هذا اللفظ السلام المعرف بالألف واللام، السلام عليكم، على أي هيئة كانت فالصلاة صحيحة، لكن السنة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( كان إذا انصرف من صلاته سلم عن يمينه ) أولاً، وأحياناً كان يكتفي بها كما في حديث أمنا عائشة ، في صلاة الليل كان يقول: ( السلام عليكم ويكتفي بها )، وأحياناً كان صلى الله عليه وسلم يقول: ( السلام عليكم ورحمة الله، وكذلك على اليسار )، وأحياناً كان يقول: ( السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، السلام عليكم ورحمة الله )، وبركاته فقط عن اليمين، لكن الصلاة صحيحة.

    لكن حين نقول: (صحيحة)، ليس معناها مقبولة؛ لأنه ( ليس للمرء من صلاته إلا ما عقل، ينصرف أحدكم من صلاته ولم يكتب له إلا نصفها، ثلثها، ربعها، خمسها، سدسها، سبعها، ثمنها، تسعها، عشرها )، فبعض الناس يصلي صلاة المغرب، ثم بعد ذلك لو سألته: هل الإمام في الركعة الأولى نسي آية؟ لقال لك: هو ماذا قرأ؟ لأنه أبداً لم يسمع، يعني: رغم هذه المكبرات وكذا، إلا أن عقله مشغول، فبعض الناس يبيع ويشتري، وبعض الجزارين يذبح ويسلخ ويكسر ويقطع ويقسم وهو في الصلاة، وبعض الناس يبني عمارات وهو في الصلاة، فليس للمرء من صلاته إلا ما عقل.

    تفسير قوله تعالى: (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام ...)

    السؤال: أسأل عن تفسير قوله تعالى: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:188]؟

    الجواب: الآية واضحة، فالله عز وجل ينهانا عن التعدي على أموال الناس، وعبر بالأكل؛ لأنه أول مظاهر الانتفاع، وليس معناها أن الله حرم الأكل لكن أبني بها عمارة، أو أشتري بها سيارة، لا. وإنما عبر بالأكل لأنه أول مظاهر الانتفاع، وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ [البقرة:188]، والباطل يشمل كافة صور الحرام؛ كالغش، والتدليس، والربا، والرشوة، والبيوع المحرمة، وما إلى ذلك مما جاء في القرآن والسنة، وقال الله عز وجل: وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ [البقرة:188]، يعني: تذهبوا إلى القضاة، لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:188]، يعني: أنت تعلم بأن هذا المال لا حق لك فيه؛ ولذلك لما جاء رجلان يختصمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكل منهما يدعي على مكان من الأرض بأنها له، فالرسول عليه الصلاة والسلام وعظهم، قالوا: وهذا من أدب القاضي، فالقاضي ينبغي أن يعظ الخصوم؛ لأن هناك محكمة أخرى قاضيها الله جل جلاله لا ينفع فيها شهادة الزور، ولا ينفع فيها الأيمان الفاجرة وأن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، فالرسول صلى الله عليه وسلم وعظ ذينك الرجلين وقال لهما: ( إنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، وإنما أنا بشر أقضي بنحو ما أسمع، فمن قضيت له بحق أخيه، فإنما أقطع له قطعة من نار إن شاء أخذها وإن شاء تركها، فبكى الرجلان وقال كل منهما: حقي لأخي )، فالاثنان تنازلوا عن حقهم؛ لأن موعظة الرسول صلى الله عليه وسلم عملت عملها فيهم، وبعض الناس يختصم وهو يعلم بأنه ما عنده حق.

    وقد حكى لي بعض الإخوة قال: كنا في طائرة وبعدما أقلعت بقليل أعلن قائدها بأنه قد حصل عطل في محركها، وأننا في طريق العودة، أو سنهبط في أقرب مطار، وادعوا الله لنا بالسلامة وكذا، قال: فتحول الناس ما بين محسبل ومحوقل ومبسمل وباك ومتضرع ومستغفر، حتى أن واحداً من الناس قال له: أنا ما صليت، فقال له: قم صل. قال: فكبر، وبعدين قال له: أنا ما توضأت، فواحد من الناس قام وقال: اشهدوا بأن هذه الأرض -يعني: في الأوراق التي يحملها- ليست لي، وأنا خدعت القاضي في المحكمة الفلانية، فإذا حصل أمر الله فهي لفلان، وطبعاً إذا حصل أمر الله سيكون على الكل، لكن هذا الصنف كما قال الله: حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ [النساء:18]، وللأسف بعدما نجت الطائرة أبى أن يعيد الأرض، وقال: أنا معي حكم قضائي. نسأل الله العافية!

    حكم من لم يذكر الاحتلام إلا بعد أن صلى الصبح

    السؤال: إذا احتلم الإنسان وهو لم يعلم أنه احتلم، فصلى الصبح ثم وجد بعد ذلك أنه قد احتلم، ماذا يفعل؟

    الجواب: يعني: احتلم وما عرف أنه احتلم، وصلى الصبح وبعد صلاة الصبح وجد أثر الماء، هذه حصلت لـعمر رضي الله عنه، صلى بالناس ثم نظر في ثيابه فإذا أثر مني، فقال: لقد بليت بالاحتلام منذ وليت أمر الناس، فقام رضي الله عنه واغتسل وأعاد الصلاة لنفسه، وكانت الشمس قد طلعت، وقد ارتفع الضحى، فما هناك حرج إن شاء الله، يغتسل ويعيد الصلاة من آخر نومة نامها وليس عليه إثم؛ لأنه ما تعمد، والله عز وجل يقول: وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ [الأحزاب:5].

    العلة في ذكر (قال) مع النسوة مع كونه مختصاً بالذكور في قوله: (وقال نسوة في المدينة...)

    السؤال: في سورة يوسف في الآية الثلاثين نجد قوله تعالى: وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ [يوسف:30]، ذكر (قال) مع النسوة مع أن (قال) تكون للذكور؟

    الجواب: إذا كان الجمع جمع تكسير فإنه يجوز إثبات التاء وحذفها، سواء للمذكر أو للمؤنث، يعني: يمكن أن تقول: قال العرب ويمكن أن تقول: قالت العرب؛ لأن العرب: جمع عربي فهذا جمع تكسير، أما الالتزام فإنما يكون في جمع السلامة للمذكر أو جمع السلامة للمؤنث، لكن جمع التكسير كما في هذه الكلمة النسوة، وكلمة الرجال ونحو ذلك فيجوز إثبات التاء ويجوز حذفها.

    حكم من أخذ زكاة الفطر عن غيره ليدفعها لشخص معين فدفعها إلى غيره

    السؤال: في ليلة عيد من رمضان الماضي أعطاني شخص زكاته للفطر، وحدد لي شخصاً معيناً لإعطائها له، ولم أستطع إيصالها للشخص لظرف العيد، لكنني أعطيتها لإنسان آخر في وقت زكاة الفطر ولم أبلغ صاحب المبلغ، ثم توفي ذلك الشخص، فماذا علي في ذلك؟

    الجواب: على كل حال ما كان ينبغي لك أن تتصرف فأنت وكيل، والوكيل مقيد بالحدود التي بينها من وكله، فلا يجوز لك أن تصرف مالاً لغير الجهة التي أمرت بأن تصرفها إليه، لكن على كل حال استغفر الله ولا يلزمك شيء.

    قراءة دعاء الاستفتاح في كل ركعتين من التراويح أو الوتر

    السؤال: هل يُقرأ دعاء الاستفتاح في كل ركعتين من تراويح ووتر؟

    الجواب: دعاء الاستفتاح يقرأ في الركعتين الأوليين؛ لأنها أصلاً صلاة واحدة، فصلاة القيام صلاة واحدة مجزأة أجزاء، مثنى مثنى، ويصح لنا أن نصليها كلها سرداً، فممكن أن نصلي إحدى عشرة ركعة ولا نسلم إلا في آخرها، حتى أن الناس الذين ينصرفون بعد الأربع ركعات لا يجدون سبيلاً.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755977522