إسلام ويب

أحوال النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان [5]للشيخ : عبد الحي يوسف

  •  التفريغ النصي الكامل
  • كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم مع أهله وبقية المسلمين أحوال في شهر رمضان، فكان يحرص على تعليمهم، وإرشادهم إلى ما يصلح دينهم ودنياهم، وكان يحثهم على الإكثار من العبادات في رمضان وغيره، ولم يكن الصيام يمنعه من ذلك كله.

    1.   

    أحواله صلى الله عليه وسلم مع زوجاته في رمضان

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    الحمد لله رب العالمين، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما يحب ربنا ويرضى، وكما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، عدد خلقه ورضا نفسه، وزنة عرشه ومداد كلماته.

    اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد عدد ما ذكره الذاكرون الأخيار، وصل وسلم وبارك على سيدنا محمد ما اختلف الليل والنهار، وصل وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى المهاجرين والأنصار.

    سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا علماً نافعاً، وارزقنا عملاً صالحاً، ووفقنا برحمتك لما تحب وترضى.

    أما بعد:

    فقد مضى معنا الكلام عن أحوال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم -قبل قدوم رمضان، وعن أحواله- عليه الصلاة والسلام مع ربه في رمضان، وسنوجز هنا الكلام عن أحوال نبينا المختار مع أزواجه ومع أمته فنقول:

    أما أحواله مع أزواجه رضوان الله عليهن: فإنه منطلق من قول ربنا جل جلاله: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا[طه:132]، ومن قوله جل جلاله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ[التحريم:6]. ومما تعلمناه منه صلوات ربي وسلامه عليه أنه قال: ( ألا كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته ).

    ومن هنا نجد أنه صلوات ربي وسلامه عليه مع حسن عشرته لأزواجه وشفقته عليهن وإحسانه إليهن، وقيامه بحقوقهن وإعراضه عما يبدر منهن من تقصير أو أذى، إلا أنه صلوات ربي وسلامه عليه كان قائماً بحق الله معهن، يأمرهن بالمعروف وينهاهن عن المنكر، ويعلمهن أحكام الدين وآدابه، ويجيب على أسئلتهن، ويطلعهن على أحواله وهن الثقات المأمونات.

    تعليمه صلى الله عليه وسلم لهن الأحكام الشرعية

    ومن أحواله مع زوجاته تعليمه لهن؛ فإننا نجد روايات كثيرة عن أمهات المؤمنين رضوان الله عليهن ينقلن فيها أسئلة طرحنها على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكيف أجاب عنها صلوات ربي وسلامه عليه؟

    ومن ذلك مثلاً: أن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وهي أعلم نسائه، بل هي أعلم نساء الأمة، بل هي أعلم نساء العالمين بإطلاق؛ كما قال ذلك الذهبي رحمه الله في كتابه سير أعلام النبلاء.

    فهذه المرأة الصالحة الطيبة، سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: ( أرأيت إن علمت أي ليلة هي ليلة القدر؛ فما أقول فيها؟ فقال عليه الصلاة والسلام: قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني )، وفي لفظ: ( اللهم إنك عفو كريم تحب العفو فاعف عني ).

    وكذلك لما سألتها معاذة بنت عبد الله العدوية رضي الله عنها، وقالت لها: ( ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟ قالت لها عائشة رضي الله عنها: كنا نحيض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة). ومعنى هذا: أن النبي صلى الله عليه وسلم علم نساءه أن يقضين الصوم الذي فاتهن أيام الحيض، ولا يقضين الصلاة، وهذا من تعليمه لهن صلوات ربي وسلامه عليه.

    وكذلك هذا التعليم من النبي صلى الله عليه وسلم لأزواجه ولنساء المؤمنين قاطبة، كما قال الله له: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ[الأحزاب:59]، فهذا التعليم منه صلوات الله وسلامه عليه لهؤلاء النسوة ظهر أثره على الصبيان، كما جاء في حديث الربيع بنت معوذ رضي الله عنها، قالت: ( فكنا نصومه، ونصوم صبياننا -يعني: كان النساء يأمرن الصغار بالصيام- فإذا بكوا جعلنا لهم اللعبة من العهن - أي: من الصوف - حتى يكون عند الإفطار).

    اطلاعهن على أحواله صلى الله عليه وسلم لينقلنها إلى الأمة

    وكذلك كان النبي عليه الصلاة والسلام يطلع أزواجه على أحواله من أجل أن يتعلمن وينقلن ذلك للأمة، ومن ذلك ما جاء في حديث عائشة رضي الله عنها، أنها قالت: ( كان نبي الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى صلاة أحب أن يداوم عليها، وكان إذا غلبه نوم أو وجع عن قيام الليل صلى من النهار اثنتي عشرة ركعة، ولا أعلم نبي الله قرأ القرآن كله في ليلة ولا صلى ليلة إلى الصبح، ولا صام شهراً كله إلا رمضان ). فالسيدة عائشة تخبر هذا الخبر، وهو خبر الخبير العارف، المطلع على أحوال من يخبر عنه، فتقول رضي الله عنها: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى صلاة أحب أن يداوم عليها )، فلم يكن عليه الصلاة والسلام يصلي صلاة في يوم ثم يدعها في يوم آخر؛ وإنما يداوم على تلك الصلاة، ما عدا الصلوات ذوات الأسباب، كصلاة الكسوف، أو صلاة الاستسقاء، ونحوهما من الصلوات، لكن عامة حاله صلوات ربي وسلامه عليه أنه كان إذا صلى صلاة داوم عليها، ثم قالت: ( وكان إذا غلبه نوم أو وجع عن قيام الليل صلى من النهار ثنتي عشرة ركعة). يعني: كان إذا مرض، أو إذا غلبته عيناه؛ لشدة تعب فنام ولم يستيقظ بالليل كان يصلي في الفترة ما بين طلوع الشمس إلى زوالها اثنتي عشرة ركعة، بدلاً من صلاته بالليل إحدى عشرة ركعة.

    وتقول رضي الله عنها: ( ولا أعلم نبي الله صلى الله عليه وسلم قرأ القرآن كله في ليلة، ولا صلى ليلة إلى الصبح، ولا صام شهراً كاملاً إلا رمضان ). ولما سئلت رضي الله عنها عن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان، قالت: ( ما كان يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة، يصلي أربعاً لا تسل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي أربعاً لا تسل عن حسنهن وطولهن، ثم يوتر بثلاث ) صلوات ربي وسلامه عليه؛ ثم قالت: ( فقلت: يا رسول الله! أتنام قبل أن توتر؟ قال: يا عائشة ! إن عيناي تنامان ولا ينام قلبي )، وهذه من خصوصياته صلوات ربي وسلامه عليه.

    ولما حدثت رضي الله عنها عن صلاته في بعض ليالي رمضان فقالت: ( وبات رسول الله صلى الله عليه وسلم غير غافل، وبات الناس في مكانهم حتى خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الصبح )، والحديث الذي مر معنا من أنه: ( صلى بهم ليلتين أو ثلاثاً، ففي الليلة التي تليها صلى العشاء ودخل بيته، فلما طال انتظارهم بدءوا يحصبون بابه عليه الصلاة والسلام، فما خرج إليهم إلا بعدما طلع الفجر، وقال: ما بت غافلاً؛ ولكني خشيت أن تفرض عليكم ).

    فالسيدة عائشة رضي الله عنها كانت مطلعة على حاله عليه الصلاة والسلام؛ ولذلك قالت: ( وبات رسول الله صلى الله عليه وسلم غير غافل ).

    حث النبي صلى الله عليه وسلم لأزواجه على العبادة

    وكان عليه الصلاة والسلام يحرضهن على العبادة؛ فكان: ( إذا دخلت العشر الأواخر من رمضان أيقظ أهله، وأحيا ليله، وجد وشد المئزر ) فلم يكن يكتفي بأن يصلي بنفسه؛ بل كان يوقظ أهله، وهكذا في سائر الليالي.

    وتقول أمنا عائشة رضي الله عنها: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي وأنا معترضة بين يديه ) أي: نائمة ( فكان إذا سجد غمزني فطويت رجلي، فإذا رفع بسطتها، فإذا أراد أن يوتر أيقظني )، يعني: إذا وصل إلى صلاة الوتر كان عليه الصلاة والسلام يوقظ عائشة لتوتر.

    وكذلك أخبرت زوجاته رضوان الله عليهن ببعض من أحواله الخاصة التي لا يطلع عليها غيرهن، وهذا من حكم تعدد أزواج الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن له أحوالاً مختلفة، وهذه الأحوال تحتاج إلى من ينقلها ويخبر الأمة عنها، وهذه الأحوال لا يطلع عليها أبو بكر ولا عمر ولا عثمان ولا علي ولا سعد ولا سعيد ولا أبو عبيدة ولا الزبير ، ولا غيرهم من الصحابة رضوان الله عليهم.

    فتقول عائشة رضي الله عنها، وكذلك أم سلمة رضي الله عنها: ( إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصبح جنباً من جماع غير احتلام في رمضان ثم يصوم ).

    وقد مضى بأنه ليس من مبطلات الصيام أن يصبح الإنسان وهو جنب. فلا حرج على الإنسان أن يصبح جنباً فيغتسل بعد طلوع الفجر وصومه صحيح، والدليل على هذا هو: ( إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصبح جنباً من جماع غير احتلام في رمضان ثم يصوم ).

    ومن أحواله الخاصة: حديث أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل بعض نسائه وهو صائم. قلت لـعائشة: في الفريضة والتطوع؟ قالت عائشة: في كل ذلك). ولا يستغرب من سؤال أبي سلمة بن عبد الرحمن فإنه كان من تلاميذ عائشة ، والتلميذ قد يجترئ على الأستاذ في مسألة ما لا يجترئ بها على غيره، وقد كانت عائشة أحياناً تزجره، ففي مرة من المرات لما قال ابن عباس قولاً، قال أبو سلمة : وأنا أقول بكذا، يعني: بخلاف قول ابن عباس . فقالت له عائشة : ما أنت إلا كالفروج الذي سمع الديكة تصيح فصاح. يعني: هذا نوع من الزجر.

    ومثله أيضاً: لما قال أشهب بن عبد العزيز بأن أبا حنيفة قال كذا، ومالكاً قال كذا، وأنا أقول: كذا، فقال له بعض العلماء: يا أشهب ! ما أنت إلا كرجل وجد بحرين فبال بينهما وقال: هذا بحر ثالث.

    فأحياناً طالب العلم قد يحتاج إلى من يزجره؛ من أجل أن يتطامن ويتواضع.

    ترغيبه لهن في الأجر والثواب

    كذلك كان النبي عليه الصلاة والسلام يرغب أمهات المؤمنين في الأجر، ويبين لهن الثمرة المترتبة على العمل؛ ومن ذلك: ( أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا بقي من الشهر عشرة أيام، يعني: العشر الأواخر، لم يذر أحداً من أهله يطيق القيام إلا أقامه). فكان عليه الصلاة والسلام يوقظهم ويحرضهم على قيام الليل في العشر الأواخر من رمضان.

    وهنا مسألة لا بد من التنبيه عليها، وهي: أن بعض الناس يقول: ما حكم مجيء النساء إلى صلاة التراويح، أو إلى صلاة التهجد؟

    فأقول: ثبت في السنة: ( أن النساء كن يشهدن صلاة الصبح مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان وفي غير رمضان، متلفعات بمروطهن، ما يعرفن من الغلس ).

    وثبت: أن النساء كن يشهدن صلاة الجمعة، وقال عليه الصلاة والسلام: ( أيما امرأة مست بخوراً فلا تشهدن معنا العشاء الآخرة )، ومعناه: أن النساء كن يأتين إلى صلاة العشاء، وورد أنه: ( لما تأخر عليه الصلاة والسلام عن صلاة العشاء يوماً، وجاء الصحابة رضي الله عنهم، وقالوا: يا رسول الله! قد نام النساء والصبيان ) يعني: شق ذلك على النساء والصبيان، ومعنى ذلك: أن النساء كن يشهدن صلاة العشاء معه في المسجد.

    ومما يدل على هذا: أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( إني لأدخل في الصلاة وأنا أشتهي أن أطول، فأسمع بكاء الصبي فأتجوز رحمة بأمه )، ومعنى ذلك: أن أم الغلام في المسجد تصلي خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    ولذلك نقول: إذا كانت الطريق آمنة، وكان الأمن مستتباً -والحمد لله-، وليس ثمة اختلاط بين الرجال والنساء، ولم تخرج المرأة متزينة، ولا متبرجة ولا متعطرة، فإنها تخرج إلى بيت الله مأجورة غير مأزورة، وزوجها الذي أذن لها مأجور غير مأزور، وستنتج هذه الصلوات وهذا التردد على المسجد رحمة وخيراً وبركة على الأسرة.

    ولكن ليحذر النساء تمام الحذر من أن يرجعن مأزورات غير مأجورات؛ وذلك إذا خرجن متبرجات، فبعض النساء يخرجن وقد كشفن عن أقدامهن، أو سوقهن، أو نحورهن، أو بعض شعورهن، والواحدة منهن تعزم أنها خرجت للصلاة، وليست هذه صفة الخارجة إلى الصلاة.

    وبعض النساء يخرجن متزينات، قد تكحلت وتمكيجت ولطخت وجهها بالأصباغ، وليست هذه صفة الخارجة إلى الصلاة.

    وبعضهن يخرجن وقد تعطرن وتبخرن وتدخن، وبعضهن يخرجن مخالطات للرجال، مختلطات بهم، وما ينبغي هذا.

    وبعضهن يأتين إلى المسجد فيؤذين المصلين بكثرة حديثهن، وارتفاع أصواتهن، واشتغالهن بما لا ينبغي الاشتغال به في المسجد.

    وبعض النساء تأتي وتسلم على صاحبتها وتسألها: ماذا صنعت في فطور هذا اليوم؟ وماذا صنعت في سحور الأمس؟ وتلك تقول لها: وأنت؟ ويتحول بيت الله إلى: طبق اليوم! البرنامج التلفزيوني الذي يذاع! فهذا لا يصلح، وما بنيت بيوت الله لمثل هذا، إنما بنيت لذكر الله وتلاوة القرآن وتعليم العلم.. وما إلى ذلك. فأقول: ينبغي لنا أن نأذن لنسائنا، وأن نبين لهن أحكام المساجد، وما ينبغي وما لا ينبغي.

    أما الرجال الذين يسمحون لزوجاتهم بأن يغشين الأسواق ويترددن على الحوانيت، وأن يدخلن ويخرجن، ثم بعد ذلك إذا خرجت إلى المسجد ورمت أنف الواحد منهم، ويردد الحديث: ( وبيوتهن خير لهن )، فهل بيوتهن خير لهن من الذهاب إلى الأسواق، والركوب في وسائل النقل المختلطة؟ أم بيوتهن خير لهن إذا أردن أن يخرجن إلى بيت الله؟!

    ثم إذا جلس النساء في البيوت فهل يصلين؟ ما أكثر الصوارف لهن عن الصلوات، فالآن توجد المسلسلات والمسرحيات والأفلام والقنوات، وغير ذلك من الأمور الكثير التي تصرف النساء عن طاعة الله عز وجل.

    إذنه لهن في الاعتكاف معه

    ومن هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أزواجه: أنه أذن لهن في الاعتكاف معه، ومن ذلك: حديث عائشة رضي الله عنها: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر أن يعتكف العشر الأواخر من رمضان، فاستأذنته عائشة فأذن لها، وسألت حفصة عائشة أن تستأذن لها ففعلت )، وفي رواية: ( فاستأذنته فأذن لي، واستأذنته حفصة فأذن لها )، وفي هذا دليل على أن الاعتكاف ليس خاصاً بالرجال، بل هو للرجال والنساء، حتى بعد موته عليه الصلاة والسلام، كما قالت أمنا عائشة : ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان واعتكف أزواجه من بعده )، أي: من بعد وفاته صلوات ربي وسلامه عليه.

    قيامهن ببعض العبادات معه صلى الله عليه وسلم

    ومن ذلك قيامهن معه ببعض العبادات، فزوجاته كن يشاركنه في بعض العبادات، ومن ذلك:

    قيام الليل في بعض ليالي رمضان جماعة في المسجد، ومن ذلك حديث أبي ذر رضي الله عنه، وفيه: (ثم لم يصل بنا حتى بقي ثلاث من الشهر، وصلى بنا في الثالثة، ودعا أهله ونساءه فقام بنا حتى تخوفنا الفلاح، قيل: وما الفلاح؟ قال: السحور )، يعني: تخوفنا أن يفوتنا السحور.

    وكذلك: اعتكفن معه صلوات ربي وسلامه عليه؛ كما قالت عائشة : ( إن النبي صلى الله عليه وسلم اعتكف معه بعض نسائه وهي مستحاضة ترى الدم، فربما وضعت الطست تحتها من الدم )، يعني: معلوم بأن الاستحاضة لا يترتب عليها شيء من أحكام الحيض، فمعلوم أن المرأة الحائض تمتنع من الصلاة، فلا تجب عليها ولا تصح منها؛ فتمنع من وجوب الصلاة وصحة فعلها وصحة فعل الصوم دون وجوبه، وتمنع كذلك من دخول المسجد، والمكث فيه مثلما تمنع من الطواف بالبيت، ومس المصحف، وتمنع كذلك من الجماع، وتمنع من الطلاق، وإذا طلقت فلا تحتسب أيام حيضتها من عدتها.. إلى غير ذلك من الأحكام.

    ولكن الاستحاضة معناها: أن يأتي الدم في غير أوان الحيض؛ وهو ما يسميه الناس بالنزف، ويقولون: امرأة نازف، يعني: ينزل عليها الدم في غير وقته.

    والمقصود بأن النساء كن يشاركن رسول الله صلى الله عليه وسلم في كثير من عباداته صلوات ربي وسلامه عليه.

    حسن عشرته لأزواجه

    ومن هديه في الصيام: حسن عشرته لهن؛ ومن ذلك: حرصه على استقرار الأسرة، ودوام الألفة بين الزوجات؛ ولذلك ترك الاعتكاف لما ظهر له أنهن يتنافسن على القرب منه، ويحملهن على ملازمة الاعتكاف معه غيرة بعضهن من بعض، وذلك: ( لما جاءت عائشة فضربت خبائها ثم جاءت حفصة ثم جاءت زينبفأمر صلى الله عليه وسلم بخبائه فقوض، وأمر بتلك الأخبية فقوضت، وترك الاعتكاف من عامه ذاك)؛ وذلك حرصاً منه على استقرار الأسرة، ودوام الألفة بين الزوجات.

    قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: وكأنه صلى الله عليه وسلم خشي أن يكون الحامل لهن على ذلك المباهاة والتنافس الناشئ عن الغيرة؛ وحرصاً على القرب منه خاصة، فيخرج الاعتكاف عن موضعه؛ لأن شرط العمل الصالح هو الإخلاص، والإخلاص هو: ألا تشوب العمل شائبة.

    ومن حسن عشرته لهن: إشراكه صلى الله عليه وسلم لهن في اعتنائه بمظهره وتنظيفه لجسده؛ ويدل على ذلك حديث عائشة الذي مر معنا: ( أنه صلى الله عليه وسلم كان يدني رأسه وهو معتكف فترجله وهي حائض ) هي في بيتها والنبي عليه الصلاة والسلام يدخل رأسه.

    واستفدنا من ذلك: أن خروج بعض جسد المعتكف من المسجد لا يبطل الاعتكاف، وإنما يبطل الاعتكاف إذا أخرج جسده كله. فلو جاءت إليك زوجتك وأنت معتكف في المسجد، وقالت: أريد أن أسلم عليك! فخرجت إليها ومددت يدك، ولم تخرج جسدك كله من المسجد، وإنما من فوق السور، أو من بين الحديد، كحال السجين، وأخرجت يدك، فسلمت عليك وحادثتها حيناً من الزمان؛ فلا حرج في هذا، واعتكافك صحيح إن شاء الله.

    ومن حسن عشرته: تقبيله لزوجاته ومباشرته لهن صلوات ربي وسلامه عليه، ومواقعته لهن في ليالي العشرين الأولى من رمضان وترك ذلك في العشر الأواخر. فلم يكن يعتزل أزواجه في رمضان؛ بل يعتزلهن فقط في العشر الأواخر؛ لأنه في الغالب يكون معتكفاً، والله عز وجل قال: وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ[البقرة:187]، وهذا غاية التوازن من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    ومن ذلك: زيارة أهله له في المعتكف، وتبادله للحديث معهن صلوات ربي وسلامه عليه.

    خدمة نسائه له عليه الصلاة والسلام

    ومن هديه عليه الصلاة والسلام مع أزواجه في الصيام: خدمة نسائه له.

    وينبغي أن نعلم أن القول الصحيح في ذلك: أن المرأة يجب عليها أن تخدم زوجها الخدمة المعقولة من مثلها لمثله، وذلك بطبخ طعامه، وغسل ثيابه، وترتيب فراشه، والقيام عليه. فهذا كله يجب على المرأة أن تقوم به؛ وهو من حسن التبعل؛ ويدل على ذلك: أن سيدات نساء العالمين كن يخدمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك قول أم سلمة : ( أعددت لرسول الله صلى الله عليه وسلم غسله). أي: الماء الذي يغتسل به.

    ومن ذلك قوله لـعائشة : ( اشحذي المدية )، أي: سني السكين، يأمرها عليه الصلاة والسلام.

    ومن ذلك: قوله لها: ( ناوليني الخمرة من المسجد )، ومن ذلك: ( أنه صلى الله عليه وسلم كان يسألها: هل من طعام؟ )، ومن ذلك: حديث بريرة رضي الله عنها: ( لما سألها النبي صلى الله عليه وسلم عن رأيها في عائشة ؟ قالت: يا رسول الله! ما علمت عليها إلا خيراً، سوى أنها جارية حديثة السن، تعجن العجين ثم تنام عنه، فتأتي الداجن فتأكله )، فمعنى ذلك: أن عائشة كانت تعجن، وكذلك: ( لما جاءت فاطمة تشكو إليه أن يديها قد مجلتا -تشققتا من كثرة ما تطحن بالرحى- وتطلب من النبي صلى الله عليه وسلم خادماً، قال لها: والله! لا أعطيك وأدع أهل الصفة، ثم لما جن الليل جاء فجلس بينها وبين علي فقال: إذا أويتما إلى فراشكما فسبحا الله ثلاثاً وثلاثين واحمداه ثلاثاً وثلاثين وكبراه أربعاً وثلاثين خير لكما من خادم )، قال العلماء: وفي هذا دليل على أن ذكر الله يقوي البدن ويعين على العمل.

    أقول هذا الكلام؛ لأن بعض الناس يقول: بأن خدمة المرأة لزوجها ليست واجبة! حتى إن بعض العلماء المتقدمين قال: ولا يجب على المرأة خدمة زوجها في شيء أصلاً، لا في غسل ولا عجن ولا طبخ، بل يجب عليه أن يقدم لها الطعام مطبوخاً، والكسوة مخيطة.

    ولكن معلوم بأن القسمة يجب أن تكون عادلة، وهي: بأن الرجل يخدم خارج البيت، والمرأة تخدم داخل البيت، وبذلك يحصل التكامل وتطيب الحياة بين الزوجين، ولا ينبغي للرجل أن يبالغ فيجعل من زوجته خادمة، وفي كل يوم يأتي بضيوف؛ من أجل أن يلعبوا معه الورق أو غير ذلك، فهذا كله لا يجوز.

    ومن أمثلة خدمة أزواج النبي صلى الله عليه وسلم له: تغسيلهن لرأسه وترجيلهن لشعره؛ كما جاء في حديث عائشة : ( وكان يخرج رأسه من المسجد وهو معتكف فأغسله وأنا حائض )، ومر معنا: الترجيل وهي حائض، وهذا من الخدمة، يعني: كأن تغسل لك زوجتك رأسك وتسرح لك شعرك.

    ومن ذلك: ضرب زوجته الخباء له في المسجد ليعتكف فيه، قالت عائشة رضي الله عنها: ( كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان، فكنت أضرب له خباءً فيصلي الصبح ثم يدخله ).

    وكذلك ضرب زوجته الحصير له ليصلي عليه وطيها له، قالت عائشة : ( كان الناس يصلون في المسجد في رمضان أوزاعاً؛ فأمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم فضربت له حصيراً فصلى عليه ).

    ومن الخدمة أيضاً: إيقاظ أهله له. فقد جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( أريت ليلة القدر - أي: في المنام - ثم أيقظني بعض أهلي فنسيتها، فالتمسوها في العشر الغوابر )، معنى ذلك: أن أهله كن يوقظنه أحياناً صلوات ربي وسلامه عليه.

    زواجه في رمضان

    وكذلك لا مانع من أن تتزوج في رمضان: فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج بأم المؤمنين زينب بنت خزيمة المعروفة بـأم المساكين رضي الله عنها في شهر رمضان على رأس واحد وثلاثين شهراً من الهجرة.

    يعني: بعدما هاجر عليه الصلاة والسلام بنحو من سنتين ونصف السنة تزوج بـزينب بنت خزيمة رضي الله عنها، وتوفيت في حياة النبي صلى الله عليه وسلم زوجتان من زوجاته، وهما: خديجة و زينب بنت خزيمة رضي الله عنهما، وهي لم تعش مع النبي صلى الله عليه وسلم زماناً طويلاً، ونساء النبي صلى الله عليه وسلم كلهن مدفونات في بقيع الغرقد في المدينة، سوى اثنتين، وهما خديجة و ميمونة بنت الحارث الهلالية ، التي هي خالة عبد الله بن عباس وخالة خالد بن الوليد، فـخالد و ابن عباس أولاد خالة.

    ولذلك كان ابن عباس رضي الله عنه يقول: بت عند خالتي ميمونة ، وقد مر معنا هذا الحديث.

    وعلى ذكر الزوجات أقول: بأن زوجات النبي صلى الله عليه وسلم كلهن قد زوجن الزواج المعروف إلا واحدة، وهي زينب بنت جحش . وكيف زوجت؟ قال تعالى: فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا[الأحزاب:37].

    ولذلك كانت تقول لزوجات النبي صلى الله عليه وسلم الأخريات: زوجكن أهاليكن، وزوجني الله من فوق سبع سموات. فعندما تحدث مشكلة بينها وبينهن كانت هذه حجتها رضي الله عنها.

    وهناك زوجة من زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت تفاخر بأن أباها نبي، وعمها نبي، وزوجها نبي، وهي: صفية بنت حيي بن أخطب ؛ فأبوها هارون وعمها موسى وزوجها محمد صلى الله عليه وسلم، يعني: هي من نسل هارون عليه السلام؛ ولذلك: ( كان زوجات النبي صلى الله عليه وسلم يعيرنها فيقلن لها: يا ابنة اليهودي! فلما شكت للنبي صلى الله عليه وسلم قال لها: قولي لهن: أبي هارون وعمي موسى وزوجي محمد ) صلى الله عليهم وسلم أجمعين.

    فالمقصود بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد تزوج بـزينب بنت خزيمة في رمضان رضي الله عنهن أجمعين.

    فهذه هي أحوال النبي عليه الصلاة والسلام مع أزواجه في رمضان.

    1.   

    أحواله صلى الله عليه وسلم مع أمته في رمضان

    وأما أحواله مع أمته صلوات ربي وسلامه عليه.

    حرصه على تعليمهم

    فقد كان حريصاً على تعليمهم، وهذا جاء كثيراً في السنة، فمن تعليم النبي عليه الصلاة والسلام لأصحابه؛ كقوله عليه الصلاة والسلام لهم: ( لا يغرن أحدكم نداء بلال من السحور، ولا هذا البياض حتى يستطير )، يعني: يقول لهم: بلال يؤذن الأذان الأول الذي يكون في السدس الأخير من الليل. ثم قال: ( ولا يغرنكم هذا البياض حتى يستطير )، أي: حتى ينتشر، وفي لفظ آخر، قال: ( إن بلالاً يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم ).

    وقوله عليه الصلاة والسلام: ( كلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم )، وفيه دليل على أنه يجوز لنا أن نأكل ونشرب إلى طلوع الفجر الصادق، وليس هناك وقت اسمه: وقت الإمساك الذي يظنه كثير من الناس؛ فيقول لك: أذان الصبح في الساعة الخامسة وعشر دقائق، والإمساك في الساعة الخامسة إلا خمس دقائق، وتجدون هذا كثيراً؛ ولذلك حتى في التقويم الذي يوزعونه يسمونه: الإمساكية؛ فنقول: هذا غير مشروع؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ( كلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم )، يقول الصحابة: ( وكان رجلاً أعمى لا يؤذن حتى يقال له: أصبحت، أصبحت ). فهو أعمى لا يرى، فيقول له الصحابة: إن الفجر قد طلع، فيؤذن.

    ومن تعليمه لهم صلى الله عليه وسلم: حثهم على الإفطار، وتعجيله بمجرد الغروب، وذلك حين قال: ( إذا أقبل الليل من هاهنا وأدبر النهار من هاهنا فقد أفطر الصائم ).

    ومن تعليمه لهم ما جاء في حديث شداد بن أوس رضي الله عنه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى على رجل بالبقيع وهو يحتجم وهو آخذ بيدي -أي: بيد شداد - لثماني عشرة خلت من رمضان، فقال: أفطر الحاجم والمحجوم ).

    وهناك أمور يعتقدها الناس أنها مفطرة وليست بمفطرة، ومن ذلك: الحجامة، فالحجامة ليست مفطرة، ومثلها نقل الدم؛ فلو أن الإنسان تبرع بدمه وهو صائم فصومه صحيح؛ لأنه ثبت: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم، وأعطى الحجام ديناراً )؛ ولذلك أكثر العلماء ومنهم الجمهور، من الحنفية والمالكية والشافعية قالوا: إن هذا الحديث منسوخ، وهو قوله: ( أفطر الحاجم والمحجوم ).

    وبعضهم تأوله فقال: بل كان الحاجم والمحجوم يغتابان الناس، يعني: كعادة الحلاقين الآن، مستحيل أن يحلق رأسك وهو ساكت، وإنما لا بد أن يحدثك في السياسة والاقتصاد والكرة! فيدخل في مجالات شتى ورأسك تشكو لربها ظلم العباد، فالحجام ومن كان يحجمه كانا يغتابان الناس؛ ومن أجل هذا قال خير الناس: ( أفطر الحاجم والمحجوم ).

    وكذلك من تعليمه عليه الصلاة والسلام لأصحابه قوله: ( من أكل أو شرب ناسياً فليتم صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه، ولا قضاء عليه ولا كفارة )، وهذا الذي عليه الحنفية والشافعية والحنابلة، ولم يخالف في ذلك إلا المالكية رحمهم الله.

    وكذلك حديث أبي ذر رضي الله عنه: أن النبي عليه الصلاة والسلام حث أصحابه على أن يقوموا الليل مع الإمام، ولا ينصرفوا حتى ينصرف، وقال لهم: ( إن الرجل إذا صلى مع الإمام حتى ينصرف حسب له قيام ليلة ).

    وكذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ( من ذرعه القيء فلا قضاء عليه، ومن استقاء فليقض ).

    (من ذرعه) أي: غلبه فخرج منه القيء غلبة، فصومه صحيح، ومن استقاء: إما بأن يدخل الصائم شيئاً في حلقه أو بأن يشم شيئاً يعلم بأنه يحرك بطنه فيقيء بسببه، أو يتعمد إدامة النظر إلى شيء يعلم أن ذلك يعقبه قيء؛ فهذا كله مفسد للصيام.

    تحفيزهم وتشويقهم إلى المبادرة بالعمل الصالح

    وكان يرشد أصحابه ويعظهم، فقد كان معتكفـاً فعلت أصواتهم فرفع خباءه وقال: ( أيها الناس! ألا كلكم مناج ربه، فلا يجهرن بعضكم على بعض ).

    ومن ذلك: تحفيزه لأصحابه على المبادرة بالعمل الصالح، فكان عليه الصلاة والسلام كثيراً ما يحدثهم عن رمضان، ويشوقهم إلى الصيام، فيقول لهم: ( قال الله تعالى: كل عمل ابن آدم له، الحسنة بعشر أمثالها إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به، يدع طعامه وشرابه وشهوته لأجلي ).

    ومن ذلك قوله لهم: ( الصوم جنة، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب ولا يجهل، فإن سابه أحد أو شاتمه فليقل: إني امرؤ صائم مرتين )، أي: يقول ذلك بلسانه.

    ومن ذلك: قوله عليه الصلاة والسلام: ( للصائم فرحتان؛ فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه ).

    ومن ذلك قوله: ( إن للصائم عند فطره دعوة لا ترد ).

    ومن تشويقه عليه الصلاة والسلام لأصحابه أنه قال لهم: ( من صام يوماً في سبيل الله باعد الله وجهه من النار سبعين خريفاً ).

    ومن ذلك قوله: ( الصيام والقرآن يشفعان للعبد، يقول الصيام: أي ربي! منعته طعامه وشرابه فشفعني فيه، ويقول القرآن: أي ربي! منعته النوم بالليل فشفعني فيه، فيشفعانه ).

    ومن ذلك قوله: ( إن لله تبارك وتعالى عتقاء في كل يوم وليلة ) يعني: من رمضان، ( وإن لكل مسلم في كل يوم وليلة دعوة مستجابة ).

    ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: ( عمرة في رمضان تعدل حجة معي )، عليه الصلاة والسلام، والحديث رواه البخاري و مسلم .

    اشتغاله صلى الله عليه وسلم بالفتوى وبيان الأحكام لأصحابه

    ومن ذلك: اشتغاله بالفتوى عليه الصلاة والسلام، فلم يكن الصوم يحجبه عن أن ينفع الناس بالفتوى؛ ولذلك: ( لما جاء الأعرابي يخمش وجهه، وينتف شعره، ويقول: هلكت وأهلكت! فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: وما ذاك؟ قال: وقعت على أهلي وأنا صائم؛ فقال له صلى الله عليه وسلم: هل تجد ما تعتق به رقبة؟ قال: والله! لا أملك إلا هذه -وأشار إلى رقبته!- قال له: فهل تستطيع صيام شهرين متتابعين؟ قال له: وهل أوقعني فيما وقعت فيه إلا الصيام؟! فقال له صلى الله عليه وسلم: فهل تستطيع إطعام ستين مسكيناً؟ قال: ما عندي إلا ما أفترشه وألتحفه )، لو كنت أنا لقلت له: ماذا أصنع لك؟ أنت رجل لئيم، فكلما وضعت لك حلاً واجهتني بجواب شديد، لكن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: ( اجلس، فجلس الرجل فأهدي إلى النبي صلى الله عليه وسلم عرق من تمر -والعرق يعني: المكتل- فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: اذهب فتصدق به، قال: على أفقر مني يا رسول الله؟! والله! ما بين لابتيها أهل بيت أفقر منا! فضحك صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه، ثم قال: اذهب فأطعمه أهلك ).

    وفي بعض الروايات أن هذا الرجل لما فعل فعلته التي فعل، ذهب إلى ناس من قبيلته وحكى لهم، قالوا له: اخرج عنا قبل أن ينزل الله بنا قارعة من السماء بشؤمك، يعني: اذهب، فأنت رجل مشئوم! فلما ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ورجع بالتمر جاء إلى أولئك فقال لهم: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدته رءوفاً رحيماً؛ عليه الصلاة والسلام، فالنبي عليه الصلاة والسلام كان يفتي.

    وكذلك كان يداعب أصحابه: فـ( لما جاء عدي بن حاتم قال له: يا رسول الله! إن الله تعالى يقول: حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ[البقرة:187]، وإني أخذت عقالين: أحدهما أبيض والآخر أسود، فوضعتهما وجلعت آكل فما تبين لي؟! فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: إنك لعريض القفا )، يعرض بأنه لم يفهم المقصود؛ فقال له: ( إنما أراد الله بياض الفجر من سواد الليل )، أو قال له: ( إنما هو الليل والنهار )، أو قال له: ( إن وسادتك إذاً لعريضة ).

    فأقول: بـأن النبي صلى الله عليه وسلم كان رفيقاً رءوفاً.

    وكذلك من إفتائه صلى الله عليه وسلم: حديث عمر بن أبي سلمة رضي الله عنهما: ( أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيقبل الصائم؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: سل هذه )، لـأم سلمة التي هي أمه.

    وأم سلمة كانت زوجة لـأبي سلمة بن عبد الأسد المخزومي وهي: هند بنت أبي أمية بن المغيرة رضي الله عن الجميع.

    ولما مات أبو سلمة علمها النبي صلى الله عليه وسلم أن تقول: ( اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيراً منها، فقالت في نفسها: ومن يكون خيراً من أبي سلمة ؟ ثم دعت بهذا الدعاء، فلما انقضت عدتها خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله! وددت ولكن يمنعني أمران: أني امرأة غيرى -شديدة الغيرة- وأني امرأة مصبية )، يعني: عندي أولاد، وتخاف على النبي صلى الله عليه وسلم من إزعاجهم له؛ ( فقال لها: أما غيرتك فسأدعو الله يذهبها عنك، وأما صبيانك فأضمهم إلي، فأنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم ). فتزوجها؛ ولذلك كان يعلم عمر بن أبي سلمة فيقول له: ( يا غلام! سم الله وكل ... )، فقد كبر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم جاء يسأل هذا السؤال: ( يا رسول الله! أيقبل الصائم؟ قال له: سل هذه. فأخبرته أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصنع ذلك، أي: يقبل وهو صائم، فقال عمر بن أبي سلمة: يا رسول الله! قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر )، يعني: أن التقبيل قد يكون ذنباً وأنت قد غفر لك! ( فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أما والله! إني لأتقاكم لله وأخشاكم له ).

    إمامته صلى الله عليه وسلم لهم في الصلاة

    ومن أحواله مع أمته إمامته لهم في الصلاة:

    فقد كان يصلي بالناس في رمضان عليه الصلاة والسلام، والأحاديث في ذلك كثيرة ثابتة في الكتب الصحاح.

    أما إمامته بهم في الصلوات المفروضة فلا شك فيها؛ وقد تقدم معنا الكلام أنه صلى بهم صلاة القيام ليلتين أو ثلاثاً؛ ومن الأحاديث الدالة على ذلك: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى في المسجد ذات ليلة فصلى بصلاته ناس، ثم صلى من القابلة فكثر الناس، ثم اجتمعوا من الليلة الثالثة أو الرابعة فلم يخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أصبح قال: قد رأيت الذي صنعتم، فلم يمنعني من الخروج إليكم إلا أني خشيت أن تفرض عليكم، قال: وذلك في رمضان ).

    موعظته لهم بعد الصلوات

    وكان يعظ الناس أحياناً بعد الصلوات في رمضان؛ ويدل على ذلك حديث عائشة أنها قالت: ( فطفق رجال منهم يقولون: الصلاة، الصلاة، فلم يخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى خرج لصلاة الفجر، فلما قضى الفجر أقبل على الناس، ثم تشهد فقال: أما بعد: فإنه لم يخف علي شأنكم؛ ولكني خشيت أن تفرض عليكم صلاة الليل فتعجزوا عنها ). فهذا كله مما كان من أحوال النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان.

    أسأل الله عز وجل أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأن يبلغنا رمضان، وأن يعيننا على الصيام والقيام، وأن يوفقنا لصالح الأعمال، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى جميع المرسلين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756025742