الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فنتكلم في هذا اليوم على شيء من أحكام الطلاق مما ذكره الله عز وجل في سورة البقرة في قوله سبحانه وتعالى: وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ [البقرة:231], تقدم الكلام معنا فيما مضى في الكلام على الطلاق والرجعة وفي البينونة، وتكلمنا على مسألة نكاح المحلل وحكمه، وتكلمنا على مسألة العدد بالنسبة للحرائر، وبالنسبة للإماء.
ذكر الله عز وجل هنا شيئاً من مسائل الطلاق, فقال الله سبحانه وتعالى: وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ [البقرة:231], النساء في ذلك شاملة لجميع أصنافهن؛ سواء كن حرائر أو كن إماء، فإنه يجب على الزوج أن يعطيهن حقهن الذي كتب الله عز وجل عليه لهن، والأجل الذي ذكره الله سبحانه وتعالى هنا في هذه الآية: فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ [البقرة:231], المراد بذلك هو: مقاربة نهاية العدة، وليس المراد بذلك انتهاء المرأة من عدتها.
ذكر الله عز وجل بلوغ الأجل هنا في هذين الموضوعين في هذه الآية وفي الآية التي تليها، في هذه الآية المراد بذلك: المقاربة، وفي الآية التي تليها المراد بذلك هو: الخروج من العدة، وذلك أن الله عز وجل قد رتب بعد ذلك حكمين مختلفين على بلوغ الأجل، والحكم المترتب على بلوغ الأجل في ذلك هو أن الزوج يمسكها أو يسرحها.
ولا يمكن للزوج أن يمسك زوجته ويملك الحرية بإرجاع زوجته إلا وهي في العدة, فدل على أن المراد ببلوغ الأجل المقاربة, ولا خلاف عند المفسرين في هذه الآية أن المراد ببلوغ الأجل هو قرب العدة وليس الخروج منها، بخلاف الآية التي تليها فالمراد ببلوغ الأجل هو انتهاء وانقضاء الأجل, فلا خلاف عند العلماء في هذين المعنيين.
هذه الآية نزلت دفعاً لظلم الجاهليين لأزواجهم, لأنهم كانوا يطلقون المرأة فإذا شارفت على انقضاء عدتها قاموا بإرجاعها, ثم إنزال طلقة عليها, ثم تستأنف عدة جديدة حتى يطول أجلها بلا زوج، وهذا قد جاء عن غير واحد من السلف لبيان حال الجاهلية، وكذلك سبب النزول.
جاء هذا عن عبد الله بن عباس كما روى ابن جرير الطبري من حديث العوفي عن عبد الله بن عباس , وجاء عن مسروق بن الأجدع , وجاء عن الحسن و قتادة , وكذلك عن مجاهد بن جبر وعن غيرهم من المفسرين، ولا خلاف عندهم في هذا المعنى.
أما سبب النزول في ذلك عيناً أن الله عز وجل أنزلها على رجل بعينه، فالحديث في ذلك مرسل، وقد رواه الإمام مالك عن ثور بن زيد الديلي : ( أن رجلاً طلق زوجته, فلما شارفت على انقضاء عدتها أرجعها, ثم أنزل عليها طلاقاً آخر كيما يطول أجلها, فأنزل الله عز وجل هذه الآية ), وذلك بدفع الضرر عن الزوجة، فإما أن يمسكها الزوج بمعروف، وإما أن يسرحها بمعروف.
في هذه الآية دلالة على مسألة من المسائل ويتكلم عليها بعض الفقهاء، وهي: مسألة إيقاع الطلاق على الزوجة في عدة طلقة ماضية, هل هذه الطلقة مما تقع شرعاً وتجوز أم لا؟ هذا موضع خلاف.
كذلك إذا طلق الرجل زوجته وهي في عدة طلقة ماضية, هل تستأنف عدة جديدة أم لا بد من إرجاعها؟ الله عز وجل هنا بيَّن أن الرجل إذا طلق الزوجة فإما أن يمسكها بمعروف أو يسرحها بمعروف, وهذين الأمرين من الله سبحانه وتعالى هي للتسريح, وللإمساك.
ولكن الجاهليين يجعلون الطلاق الثاني لا ينزل إلا بعد رجعة، فهم يرجعونها ثم ينزلون الطلاق عليها مرة أخرى, مما يدل على أن الطلقة الثانية لا تعتبر عندهم إلا برجعة, ولو كانت تقع عليها لطلقها من غير إرجاع.
قال بعض الفقهاء: في هذه الآية دليل على أن الطلقة إذا أنزلها الزوج على زوجته في عدة طلقة سابقة أنها لا تقع، ويستدلون بظاهر هذه الآية, قالوا: لأن الجاهليين لا يطلقون الزوجة بقصد الإضرار إلا بعد إرجاعها, يرجعونها ثم ينزلون عليها طلقة, وأما إذا كانت في عدة طلاق سابق فإنها ليست في عصمته، وإنما في عدتها ترقب انقضاء الأجل، إلا أن الله عز وجل جعل له فسحة بإرجاعها، فلا يقع عليها الطلاق.
ومن العلماء من قال: بوقوع الطلاق, ولكن لا تستأنف من ذلك عدة, لأن الله عز وجل قال: وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ [البقرة:231], قالوا: إن ما يتحقق به الإضرار هو استئناف عدة جديدة لا يكون إلا بالرجعة، وهذا قال به جماهير الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة، أن الرجل إذا طلق زوجته على عدة طلقة سابقة فلا تستأنف عدة جديدة والطلاق واقع.
القول الآخر في هذه المسألة قالوا: إن الطلاق في ذلك لا يقع، ومن باب أولى لا تقع في ذلك العدة حتى يرجعها, ولكلا القولين حظ من النظر في هذه الآية، إلا أنهم يتفقون على أن الشارع ينهى عن تطليق الزوجة في عدتها حتى يمسكها.
وثمة مسألة أخرى في هذا، وهي: أن الرجل إذا طلق زوجته وهي في عدة ثم أرجعها وجامعها ثم طلقها بعد ذلك, فهل هذا الجماع له أثر على استئناف عدة جديدة أم لا؟
نقول: إن الجماع في مثل هذا الموضع الأرجح أنه لا أثر له على استئناف العدة من عدمها وإنما العبرة بنزول الطلاق, مع أن العلماء يقولون: إنزال الطلاق على امرأة في طهر جامعها فيه أن هذا منهي عنه، لكن لو أنه طلقها ثم أرجعها ثم جامعها ثم حاضت ثم طهرت ثم طلقها, فالعلماء حينئذٍ لا يختلفون أنها تستأنف عدة جديدة.
عمل الجاهليين أنهم يرجعونها ولكن لا يجامعونها ثم يطلقونها؛ لأنهم يريدون من ذلك الإضرار، أن تبقى الزوجة بلا زوج فليست لزوجها الأول ولم تخرج من عدتها.
والعلماء الذين يقولون: إن الجماع له أثر, قالوا: إن الله عز وجل منع من إمساكهن بقصد الضرار, ولكن الذي يمسك زوجه ثم يجامعها لا يقصد من ذلك إضراراً بها فانتفى من ذلك الضرر, والله سبحانه وتعالى قيد ذلك بالإمساك بقصد الضرار، وهذا من مواضع الخلاف عند الفقهاء، إلا أنهم يتفقون على أن الشارع ينهى عن طلاق الزوجة في طهر جامعها فيه، سواء كان إمساكاً بعد طلاق أو كان طلاقاً ابتداء في طهر جامعها فيه، باعتبار أن هذا لم يطلقها لعدتها التي أمر الله سبحانه وتعالى بها.
الله جل وعلا يقول: فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ [البقرة:231], الإمساك المراد به: الرجعة بعد طلاق, والتسريح المراد به هو: الإرسال, فالتسريح في لغة العرب هو: الإرسال, سرح فلان كذا إذا أرسله, وكذلك في قوله جل وعلا: وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ [النحل:6], المراد بذلك هو: إرسال الماشية من بهيمة الأنعام حتى تسرح مع راعيها، فيسمى بذلك إسراحاً وتسريحاً فهو إطلاق, فالمراد بالتسريح هو: الطلاق وتكون العصمة في ذلك بيد الزوج في قوله: أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ [البقرة:231].
الإمساك بمعروف يجب في ذلك أن يكون بغير قصد الإضرار, والإضرار له صور متعددة, ومن صوره: أن يبين طلاقها فلا يريدها لحاجته ولا لمصلحتها, وإنما يريد بذلك إلحاق الضرر بها.
ومن ذلك أيضاً: التقصير في نفقتها، يريد أن يرجعها ليذيقها بأس فقر أو جوع أو ربما عدم إنفاق في كسوة أو سكن أو غير ذلك من متاعها، يريد أن يلحق ضرراً بها ولو كان ممسكاً لها على وجه الحقيقة, فهذا منهي عنه؛ لأنه داخل في دائرة قصد الضرار, فالله عز وجل يقول: وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا [البقرة:231], فنهى الله جل وعلا عن إمساك الزوجة بقصد الإضرار لها، وسماه الله جل وعلا عدواناً وظلماً.
وكذلك في قوله سبحانه وتعالى: فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ [البقرة:231], قال بعض الفقهاء: المراد بالمعروف هو الإشهاد على الإرجاع، أن الزوج لا يرجع زوجته بعد طلاقه لها ولو كانت في عدتها إلا بعد إشهاده على ذلك، أي: يتعارف الناس ويعلموا ويتعالموا على أن فلاناً أرجع زوجته بعد طلاقها.
وثمة مقصد شرعي في الإشهاد على ذلك, من هذه المقاصد: دفعاً للخصومة والنزاع؛ حتى لا تدعي الزوجة أو يدعي الزوج على زوجته شيئاً من المدد سواء قصرت أو قلت، أو إثبات الرجعة أو عدمها، أو إثبات القصد الحسن أو عدمه, فإذا أشهد على ذلك دفع جملة المفاسد اللاحقة في أحد الزوجين أو في أهليهما, فأمر الله عز وجل بالإمساك على وجه المعروف.
ومن العلماء من قال: إن المعروف شامل لكل خير واحتراز لمصلحة الزوجين، ويدخل في ذلك الإشهاد, ومن العلماء من أوجب الإشهاد ومنهم من استحبه.
ونقول: إن الإشهاد في ذلك على حالين: يكون واجباً، ويكون مستحباً.
يكون واجباً: إذا اشتهر الطلاق وجب عليه أن يشهد وأن يشهر الرجعة؛ حتى لا تكون ثمة فتنة ومنازعة, فإنه إذا طلق زوجته وبين لأهلها وعرف الناس في ذلك, فإنه يجب عليه أن يعلمهم برجعتها حتى لا يكون ثمة نية سوء في مقصده, أو يكون ثمة دعوى لا تتكئ على حق في ذلك.
ويستحب الإشهاد إذا كان الطلاق لم يشتهر, إذا طلق الرجل زوجته ولم يعلم بذلك أحد, فنقول: إنه يستحب أن يشهد على رجعته لزوجته, وإذا لم يشهد فلا شيء عليه، فكما وقع الطلاق بينهما تكون الرجعة بينهما، ولا يجب عليهما حينئذٍ الإشهاد إلا أنه يبقى في ذلك الاستحباب.
وأما إذا خشي الإنسان من ضرر أو من إبلاغ وليها أو نحو ذلك من فساد بينهما أو في عشرتهما أو بقائهما مع بعضهما ورغبتهما بالبقاء، فإذا علم وليها بذلك أفسد عليهما تلك المصلحة، حينئذٍ قد يترجح القول بالبقاء من غير إشهاد, ولكن هذه الأحوال لا تكون قسيمة للأصل في ذلك، فإن الإشهاد يتشوف إليه الشارع.
ومن العلماء من يقول: إن من وجوه المراد في قوله جل وعلا: فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ [البقرة:231], أي: بقصد الإحسان إليهن وبذل الحق لهن، وذلك من الطعام، والشراب والكسوة والمسكن وللمعشر بالخطاب وغير ذلك, أي: أنه لا بد أن يقصد الإنسان برجعته هذه وإلا فإذا نقص شيء من ذلك فإن إرجاعه لها ليس بشرعي، وهل هو صحيح أو ليس بصحيح؟ صحيح لكنه آثم في مقصده ذلك؛ لأن الشريعة تؤخذ بالعقود في الظاهر. فيقال: يصح العقد إذا تمت شروطه الظاهرة, وأما المقاصد الباطنة فيأثم الإنسان بها وأمره إلى الله سبحانه وتعالى.
وإذا قصد إرجاعها مع الإضرار بها في باب النفقة من جهة التقليل عليها في جانب الطعام والكسوة ونحو ذلك, فهل يجوز لها أن تمتنع من الرجوع إلى زوجها أم لا؟
المرأة إذا كانت في عدة طلاقها عصمتها بيد زوجها، فله أن يرجعها من غير إذن وليها, وله أن يرجعها من غير إذنها باعتبار أنها في عصمته, فبمجرد إرجاعها ورغبته في ذلك فإنها تصبح لاغية تلك العدة التي تعد بها، وهي في عصمته، ولكن إذا قصد الإضرار بها بالإجحاف في جانب الطعام أو الكساء أو غير ذلك, فهل لها أن تمتنع أو لها أن تطلب الطلاق أم لا؟
نقول: إن الفقر الذي يكون فيه الزوج هل هو مسوغ لطلب الطلاق, أو أن يطلق الحاكم والقاضي الزوجة من زوجها أم لا؟
اختلف الفقهاء في هذه المسألة على قولين:
القول الأول: إذا أفقر الزوج زوجته في طعامها وشرابها حتى يفسد عليها المأكل والمشرب من الجوع ونحو ذلك، فإنه يجب على الزوج أن يطلقها، وإذا امتنع من طلاقها فعلى الحاكم أن يطلقها منه، وذهب إلى هذا جماهير الفقهاء، وهو قول الإمام مالك و الشافعي والإمام أحمد وذهب إلى هذا جماعة من الفقهاء من السلف، وبهذا كان يقضي عمر بن الخطاب و علي بن أبي طالب وجاء هذا عن أبي هريرة عليه رضوان الله، وبه يقضي سعيد بن المسيب وغيره من أئمة السلف.
القول الثاني في هذه المسألة: يذهب إليه الفقهاء من أهل الرأي, ومروي عن بعض الفقهاء من التابعين, مروي عن عطاء بن أبي رباح ومروي عن الزهري أن المرأة إذا افتقر زوجها، فإنه لا يجب عليها أن تطلب الطلاق ولا يلزم الزوج في ذلك ويتأكد عليها الصبر.
ويستدلون ببعض الأدلة من ظواهر الأدلة من كلام الله سبحانه وتعالى, أن الله جل وعلا حث على التزويج ولو كان الزوج فقيراً، وقد جاء في ذلك جملة من النصوص في كلام الله سبحانه وتعالى, كما في قول الله جل وعلا: وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [النور:32], فالله جل وعلا حث على الإنكاح ولو تحقق الفقر, فالله جل وعلا وعد من نوى خيراً بالغنى ولو كان فقيراً, وكذلك فإن الشريعة تتشوف إلى الإنظار, قالوا: بأنه ينظر ويمهل بالسعة عليها بالنفقة ونحو ذلك، وألا يكون الفسخ في ذلك أولاً, ولو ثبت عليه الإجحاف عليها زمناً، ويستدلون بما يأتي من كلام الله عز وجل بأهمية الإنظار بين صاحب الحق, والمعسر: وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ [البقرة:280], أي: فالشريعة تتشوف إلى الإنظار، يعطى مهلة وتصبر الزوجة وتحث على ذلك, أما الفسخ ولو تحقق فقر الزوج ابتداءً فلا يتشوفون إلى ذلك.
ولكن نقول: إن الزوجة إذا افتقر زوجها أو قصد الإضرار بها من جهة عطيتها من جهة الطعام والشراب أم لا؟ نقول: لا تخلو من ثلاثة أحوال:
الحالة الأولى: أن يكون فقر الزوج فقراً مدقعاً، فتتضرر من جهة مطعمها فتجوع وتعطش وتعرى, فإنه يجب على الزوج أن يطلق ويتأكد في حقها, ومنهم من يوجب عليها طلب الطلاق, ويستدل بذلك فيما جاء في البخاري من حديث أبي هريرة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( اليد العليا خير من اليد السفلى, وابدأ بمن تعول )، قال: تقول المرأة: إما أن تطعمني وإما أن تطلقني, فيجب على الزوج أن ينفق على زوجته، فإذا أضر بها من جانب طعامها أو شرابها أو كسائها فلها أن تطلب الطلاق.
ولكن في هذه الحال نقول: إذا كان فقره في ذلك شديداً فأضر بها من جهة الطعام والشراب والكساء فتجوع وتعرى، فهذا يجب عليه أن يطلق، ولها أن تطلب الطلاق إلا في حالة واحدة، كأن يكون في البلد التي هي فيها فقر عام, كعام سنة تلحق بأهل البلد أو بلدان المسلمين, فحينئذٍ تكون أسوة بغيرها من الناس.
الحالة الثانية: أن يكون فقر الزوج في ذلك لا يدعو إلى الجوع ولا يدعو إلى التعري إلا أنه ينقصها عن قدر الكفاية، فسد الجوع شيء، والشبع شيء آخر، فهل لها أن تطلب الطلاق في مثل هذه الحالة أم لا؟
نقول: إنه يستحب لها الصبر في مثل هذه الحالة إلا إذا قصد الزوج الإضرار بها عمداً, وظهر ذلك، فإن هذا مما نهى الشارع.
الحالة الثالثة: أن يكون الزوج فقيراً ولكنه يسد حاجة الزوجة بما لا يوصله إلى الغنى، فلا تجوع ولا تعرى إلا أنه لا يعطيها زيادة عن ذلك وهو فقير لكنه لا يصل إلى الغنى؛ فهل لها أن تطلب الطلاق في مثل هذه؟
إذا قلنا: إنه يستحب لها أن تصبر في الحالة الثانية، فيتأكد ذلك في الحالة الثالثة, ويستثنى من هذه حالة، وهي: إذا كانت الزوجة من أسرة غنية وزوجها أخذها على هذه الحال, فإنه يجب أن ينفق عليها أسوة بنسائها, ولو كان الزوج في ذلك فقيراً.
ولهذا نقول: النفقة التي ينفقها الزوج على زوجته بالمعروف الذي هي عليه لا بالمعروف الذي هو عليه, فإذا تزوج الفقير امرأة غنية فإنه ينفق عليها بالمعروف عند أهلها, وإذا تزوج الغني امرأة فقيرة فإنه لا يجب عليه الزيادة عليها أسوة بالمعروف عنده، إلا أن الزيادة على ذلك كرامة ومروءة.
ولهذا نقول: إن المعروف في حق النفقة على الزوجة هو بالنظر إلى أهلها ونساء قومها, وهم الحكم في ذلك, ويستثنى من هذا: الزوجة إذا تزوجت رجلاً فقيراً وهي غنية ثم أسقطت حقها برضاها ابتداءً، ثم أرادت بعد ذلك أن يقسم لها من النفقة أسوة بأهلها, فهل لها ذلك أم لا؟
نقول: لها ذلك؛ لأن مثل هذه الأحوال مجلبة للفتنة, أن تفتن المرأة في دينها, وربما تسامحت المرأة قبل زواجها ثم رأت بعد ذلك حالاً تختلف عن حاله، فكان في ذلك ضرر عليها في نفسها، وضرر عليها في دينها أن تتشوف ربما إلى غير زوجها, والشريعة جاءت بإغلاق هذه الأبواب, فنقول: لها ذلك ولا حرج عليها.
وفي قول الله جل وعلا: فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ [البقرة:231], تقدم الكلام معنا على أن المراد بالسراح هنا هو الطلاق, ولكن في قول الله جل وعلا: أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ [البقرة:231], الطلاق واحد, فكيف يكون فيه المعروف؟
نقول: إن المراد بالمعروف بالتسريح هنا هو: أن يطلقها من غير إلحاق ضرر بها ولا بأهلها، وذلك من كشف سرها أو بيان عيبها مما لا يطلع عليها أحد من الناس، أو الإساءة إليها عند من لا ينتفع بأمرها، فتتأذى بنفسها ويتأذى في ذلك أهلها, وربما كان في ذلك إساءة لها عند من أراد أن يتزوجها بعد ذلك، والله عز وجل أمر بالستر إلا إذا استنصح الإنسان بزوجة قد تزوجها فإنه يبدي ما يدفع الزوج إلى الإقبال عليها أو النفرة منها، أما ما تجبل عليه النفوس أو يغلب من أحوال الناس فلا يجوز للإنسان أن يبديه، فإن ذلك من عدم التسريح بالمعروف.
وليس المراد بذلك هو أن ينزل الإنسان طلقة جديدة عليها, فالله جل وعلا بيَّن أن الرجل قد طلق: وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ [البقرة:231], هو طلقها ولكن المراد بالتسريح هنا: أن يبقيها على طلاقها الماضي, وهذا دليل على أن إنزال الطلاق الجديد في عدة طلاق ماضٍ هو طلاق بدعي وهو منهي عنه, بل يبقيها على ما هي عليه.
وفي قوله سبحانه وتعالى: وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا [البقرة:231], نهى الله سبحانه وتعالى أن يتزوج الرجل الزوجة يريد الإضرار بها, والإضرار على ما تقدم يمسكها ونفسه لا تريدها, أو يبيت عدم النفقة عليها أو الإساءة إليها، فيريد إرجاعها بتجويعها أو تعريتها أو ضربها أو سبها أو شتمها, فقد بيت شيئاً من السوء لها فهذا من الإمساك ضراراً، وسماه الله جل وعلا عدواناً في قوله: لِتَعْتَدُوا [البقرة:231].
ثم قال الله جل وعلا: وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ [البقرة:231] جعله الله جل وعلا ظلماً, ولكن في هذه الآية معنى لطيف بقوله سبحانه وتعالى: ظَلَمَ نَفْسَهُ [البقرة:231], مع أنه ظلم غيره, الظلم يتعدى إلى الغير, ولكن جعله الله جل وعلا لنفس الإنسان.
والسبب في ذلك أنه يجب على الظالم أن يستحضر أثر ظلمه على نفسه قبل أن يستحضر ظلمه على غيره, فإنه ربما يتلذذ الإنسان بتعديه على غيره تشفياً ولا يردعه من ذلك، ربما يزيده في ذلك إذا علم أن من اعتدى عليه يتأذى بذلك, ولكن لو استحضر أثر ظلمه عليه وعاقبته عليه ولو كان في آجل أمره لردعه ذلك.
ثم في هذه المعاني أن الله جل وعلا ذكر ظلم الإنسان لنفسه إشارة إلى أن زوجه ولو سرحها فهي من نفسه ولها حق عليه ولو بانت منه.
ومن المعاني في: فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ [الطلاق:1] أن الإنسان إذا ظلم غيره فقد تحقق فيها الظلمان: ظلم الإنسان لنفسه، وظلم الإنسان لغيره؛ لأن الظلم على نوعين: ظلم الإنسان لنفسه، وظلم الإنسان لغيره.
ظلم الإنسان لغيره: هو ظلم لغيره وظلم لنفسه, فكل ظلم من الإنسان يقع على غيره هو ظلم لنفسه قبل أن يكون لغيره، وظلم الإنسان لنفسه لا يلزم من ذلك أن يكون ظلماً لغيره, فذكر الله جل وعلا ظلم الإنسان لنفسه لهذا الوجه؛ حتى يشمل المعنى التام في ذلك.
وكذلك فيه ترهيب أن الله سبحانه وتعالى أقرب بأن ينزل عليك الجزاء من إنزالك العقوبة والظلم والتعدي على زوجك.
ولهذا فإن الله سبحانه وتعالى ذكَّر عبده بأنه سينزل عليه عقوبة، فعليه أن يتذكر أثرها عليه قبل أن يتذكر أثر ظلمه وعدوانه على زوجه، وهذا من الله سبحانه وتعالى تذكير وعدل وإنصاف.
ولهذا ذكر الله جل وعلا هنا تحذيره من التلاعب بحكمه سبحانه وتعالى والتساهل بأوامره: وَلا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا [البقرة:231] .
آيات الله سبحانه وتعالى هي أحكامه وحدوده وفصوله التي فصل فيها بين الأزواج، وفصل الله عز وجل بها بين الناس, فالمراد بالآيات هنا هي الأحكام والحدود، وكذلك الفصول التي يقضي الله عز وجل بين عباده.
وفي هذه الآية دليل على أن الإنسان ربما يستهزئ بدين لله ولم ينطق بذلك لعدم اكتراثه بحكم الله سبحانه وتعالى.
وذلك أن الإنسان يرى آيات الله عز وجل ثم يتنكبها غير مبالٍ بها، فهذا نوع من الاستهزاء الفعلي, والاستهزاء على نوعين: استهزاء قولي، واستهزاء عملي.
الاستهزاء العملي: أن الإنسان يرى آيات الله عز وجل ثم كأنها لم توجد معرضاً عنها, ولهذا يذكر بعض السلف أن من الاستهزاء واتخاذ آيات الله هزواً الذي يستغفر وهو على ذنب فهذا يستهزئ بآيات الله سبحانه وتعالى تطلب التوبة وأنت مقبل على ذنب! وإنما اسأل الله عز وجل أن يصرفك عن ذلك الذنب.
ولهذا نقول: إن الاستهزاء واتخاذ آيات الله عز وجل هزواً ربما تكون من الإنسان عملاً ولو لم تقع منه قولاً.
ثم هنا في هذه الآية: وَلا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا [البقرة:231], استدل بها بعض الفقهاء على أن الطلاق الذي يطلقه الإنسان هازلاً أنه يقع؛ لأن الله عز وجل نهى عنه وغير معتبر به وفي سياق الآية أنه واقع لا محالة وأن الاستهزاء لا يزيد الإنسان في ذلك حكماً إلا إثماً عليه.
ويستدل بهذا بما جاء عند الإمام أحمد و أبو داود و الترمذي وغيرهم من حديث عطاء عن يوسف بن ماهك عن أبي هريرة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( ثلاث جدهن جد وهزلهن جد: الطلاق والعتاق والرجعة ), وهذا الحديث قد جاء من عدة طرق واختلف فيه، والصواب فيه الإرسال.
قد أخرجه عبد الرزاق في كتابه المصنف من حديث ابن جريج عن عطاء قال: كان يقال، فذكره بمعناه, و ابن جريج هو من أوثق أصحاب عطاء , ولو كان لديهم أصول لأسنده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولكن هذا الحديث يذكر غير واحد من العلماء أنه لا اختلاف في معناه عند السلف، قد أشار إلى هذا ابن عبد البر عليه رحمة الله كما في كتابه الاستذكار أنهم لا يختلفون أن طلاق الهازل واقع, وذلك أن الجاهليين من وجوه إضرارهم بالأزواج وبالعبيد الموالي أن الرجل يطلق زوجته، فإذا أخذت أياماً قال: إني كنت هازلاً, أو يعتق عبده فإذا تشوف قال: إني كنت هازلاً، فهذا من الإضرار.
والطلاق والرجعة والعتق هذه تؤخذ بالظواهر لا يرجع فيها إلى البواطن، هذا في الأصل إلا عند النزاع.
وهذه المسألة هي مسألة الطلاق مما يحكى فيه الاتفاق، ولكن يتكلمون في الخلاف في مسألة العتق: إذا أعتق الرجل عبده ثم قال: إني كنت هازلاً هل يقع أو لا يقع؟ الخلاف في هذا وجد, وأما في مسألة الطلاق فإن السلف كادوا يتفقون أو يحكى عدم معرفة الخلاف في هذا عند الفقهاء من السلف عليهم رحمة الله.
ثم ذكر الله سبحانه وتعالى: وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ [البقرة:231], الله سبحانه وتعالى ذكر عباده بنعمه؛ إشارة إلى أن الإنسان لا ينسى نعمة الله عز وجل إلا ولنسيان نعمة الله أثر عليه وأولها الاستهزاء بآيات الله وعدم الاكتراث بها, وأن سبب إعراض الناس عن دين الله عز وجل أو وقوع السخرية والاستهزاء بدين الله سببه هو نسيان نعمة الله عز وجل على العبد.
ولهذا الله عز وجل لما نهى عن الاستهزاء أمر العباد بأن يذكروا نعمة الله، فمن ذكر نعمة الله عرف الله، ومن عرف الله أقام حدوده وعرف هيبته وأثره على عباده فالتزم أمره ونهيه, فالله جل وعلا ذكر العباد بذلك، قال: وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ [البقرة:231], فنعمة الله سبحانه وتعالى في ذلك، أن فصل لهم الدين وأكرمهم بهذه الملة, وكذلك ما رزقهم الله عز وجل فيه من خير, فإذا تذكر الإنسان نعمة الله عز وجل التزمها.
وأثر ذلك: أن الرجل إذا أراد إضراراً بزوجته أن يرجعها ليفقرها فتذكر أن النعمة من الله، فالذي جعلك مقتدراً على إفقارها قادر على أن يمنعك من ذلك فيفقرك, كذلك الذي جعلك قادراً على أن تعريها أو تؤذيها أو تبطش بها أو تضربها أو غير ذلك، فالله عز وجل قادر على أن ينزل بك ذلك، فالله عز وجل يُرجع عبده إلى ذكر نعمته سبحانه وتعالى حتى لا يبغي في ذلك أحد على أحد.
ثم ذكر الله عز وجل أعظم نعمة على عباده: وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ [البقرة:231], فذكر الله عز وجل بذكر النعمة عموماً, ثم ذكر على سبيل الخصوص أعظم نعمة أكرم بها جميع البشر وهي الوحي والتي يفرق بها الإنسان حاله عن حال سائر الحيوان, فالله عز وجل أكرمه بهذا الكتاب العظيم وكذلك بالوحي.
إذا أطلق الكتاب في كلام الله منفرداً فيراد بذلك الوحي كله: الكتاب والسنة, وإذا جاء الكتاب مع الحكمة فالمراد بالكتاب القرآن والمراد بالحكمة السنة, وإذا أطلق الكتاب مفرداً فيراد به عموم الوحي, وهذا كما جاء في حديث زيد بن خالد الجهني وحديث أبي هريرة في الرجل الذي جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ( يا رسول الله! إن ابني كان عسيفاً على هذا -يعني: أجيراً يرعى له الغنم- فزنى بامرأته، فقيل لي: على ابنك الرجم، ففديت ابني بمائة من الغنم ووليدة، فقال ذلك الأعرابي: اقض بيننا بكتاب الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لأقضين بينكما بكتاب الله, فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أما الغنم والوليدة فرد عليك، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام، واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها ) .
قال: (لأقضين بينكما بكتاب الله) فقضى النبي صلى الله عليه وسلم بالتغريب، دليل على أن كتاب الله المراد بذلك هو الوحي الذي أنزله الله عز وجل على نبيه، سواء كان من القرآن أو كان من الحكمة، ولكن إذا عطفت الحكمة على الكتاب فالمراد بذلك بالكتاب القرآن، والمراد بالحكمة هي السنة, وإنما سميت السنة بالحكمة؛ لأن فيها التفصيل وفيها العمل.
وذلك أن الحكمة في لغة العرب: هي وضع الشيء في موضعه، ويسمى الرجل حكيماً إذا كان يضع الأمور في نصابها، ويضع الأشياء في مواضعها التي أمر الله عز وجل بوضعها فيه, فالله عز وجل أنزل الوحي وتطبيقه وتنزيله وتفصيله ووضعه فيما يناسبه كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم, فكان الكتاب هو القرآن والحكمة هي سنة النبي عليه الصلاة والسلام.
وفي هذا: أنه ينبغي للإنسان أن يستحضر أعظم النعم وهي الإسلام وما أنزله الله عز وجل في كتابه وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم أن يرعاها حق رعايتها, فالله جل وعلا أتمها وأكملها، وكما في قول الله جل وعلا: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي [المائدة:3], فأتم الله عز وجل على أهل الإسلام النعمة، والنعمة المراد بذلك هي الإسلام.
وفي قوله جل وعلا: يَعِظُكُمْ بِهِ [البقرة:231], إشارة إلى أن أعظم واعظ هو القرآن وهو الوحي, فمن لم يتعظ بما أنزله الله عز وجل في كتابه والنبي صلى الله عليه وسلم في سنته فلا تنفعه مواعظ الواعظين.
وفي هذا إشارة إلى أن المواعظ التي يهتدي بها الناس من غير الكتاب والسنة إذا لم تتجذر بالوحي فهي خفيفة ينصرف فيها الإنسان.
ولهذا كثير من الناس يتأثرون بالمواعظ من غير الوحي ثم ينتكسون ويرجعون؛ لأنهم ما ارتبطوا بأعظم واعظ وهو الكتاب والسنة, فأصبح واعظاً يسيراً أخذ بقلوبهم في موقف أو حياة أو قصة أو حكاية أو غير ذلك فرققتها ثم بعد ذلك لم يربطوها بالوحي.
ولهذا نقول: إذا قرب قلب الإنسان بعد انصراف فعليه بقصة أو بحكاية أو بآية من آيات الله عز وجل، فرأى شيئاً من علامة الكون والأبراج أو رأى الحوادث أو نجاة أحد من موت من آيات الله عز وجل ولطفه أو القصص أو غير ذلك من المواعظ التي لا يكون أصلها من الوحي من الكتاب والسنة، فعليه أن يجعلها باباً إلى معرفة الوحي, لا أن يبقى على ذلك, وأما إذا تعلق بالحوادث فإنه سيجد حادثة أخرى هي في ظاهرها تناقض تلك الحادثة, فيتقلب حينئذٍ بين لين وقسوة ما لم يربط نفسه بالكتاب والسنة.
ولهذا نقول: إن أعظم واعظ هو الكتاب العزيز، وما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في سنته.
وفي قول الله جل وعلا: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [البقرة:231], أمر الله سبحانه وتعالى بتقواه؛ لأن هذه الآية تضمنت أوامر وتضمنت نواه، فأمر الله عز وجل بالتزامها, والتقوى أن يحترز الإنسان من غضب الله عز وجل فيجعل بينه وبينه وقاية.
وفي هذا لطيفة جليلة وهي: أن الله سبحانه وتعالى أمر بالتقوى، ثم أمر عباده بالعلم أن الله عالم, أي: أن مما يعين الإنسان على تقوى الله أن يعلم بسعة علم الله.
فإذا علم سعة علم الله أعانه ذلك على خشية الله عز وجل فلا يعص الله في السر مستتراً عن الله؛ لأنه يعلم أن الله عز وجل يراه, وكذلك لا يتساهل بدقائق الأمور لأنها عند الله عز وجل عظيمة لعظم من يعصي, فلا ينظر إلى حقارة العمل وإنما ينظر إلى عظم من عصى.
كذلك أيضاً من اللطائف في قوله جل وعلا: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [البقرة:231], ذكر علم الله سبحانه وتعالى هنا في قوله: بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [البقرة:231], أن الآية في غالبها مرجعها إلى البواطن وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا [البقرة:231], الضر يأتي من القلب، فالله عز وجل يعلم ما في قلبك من تبييت الضر أو تبيت الخير، تريد الإمساك بمعروف أو تريد الإمساك بسوء, تريد التسريح بإحسان أو التسريح بضر, هذه كلها أمور باطنة، فمحلها القلب.
فعليك أن تعلم أن الله عز وجل بكل شيء عليم، يعلم ما تسر في نفسك وكذلك ما تبديه للناس، سواء للزوجة أو لأوليائها, فالله عز وجل يعلم بذلك على حد سواء, فالله سبحانه وتعالى ذكَّر عبده بذلك فعليه أن يستحضر مثل ذلك حتى يلتزم حكم الله عز وجل وأمره.
نكتفي بهذا القدر, ونسأل الله عز وجل الإعانة والسداد والتوفيق والهداية والثبات على دينه, إنه ولي ذلك والقادر عليه, وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر