الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فشرعنا في الدرس الماضي في سورة آل عمران، وتكلمنا على صدر الآيات المتعلقة بالأحكام منها، وتكلمنا على ما يتعلق بالمحكم والمتشابه من كلام الله سبحانه وتعالى، وتكلمنا على الأحكام الواردة في قصة امرأة عمران، وتكلمنا على مسألتين مشهورتين في هذه القصة ما يتعلق بالأحكام الفقهية، تكلمنا على ما يتعلق بمسألة النذور، ونقضها وإبطالها، وذلك لورود محرم، وأن الواجب لا ينقضه إلا وجود محرم.
وتكلمنا على مسألة سبب نقض النذر، وأنه بسبب محرم، وذكرنا المحرم في ذلك أنه وجود المرأة بين الرجال، وذكرنا ما يتعلق ببقاء الحائض في المسجد، لأنه قد جاء عن بعض السلف عليهم رحمة الله القول بأن سبب منع امرأة عمران مريم من بقائها في الكنيسة لكيلا تكون بين الرجال، وألا تطيل المكث، وما يطرأ على المرأة من نزول الحيض مما يتنجس به المكان.
ثم قال الله سبحانه وتعالى بعدما ذكر دعاء امرأة عمران لربها، قال الله سبحانه وتعالى: فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا [آل عمران:37]، الله سبحانه وتعالى لما دعته امرأة عمران دعاءً أجابها جل وعلا بالقبول الحسن والنبات الحسن.
ومن هذا يؤخذ أنه يستحب الدعاء عند الولادة أن ينبته الله عز وجل نباتاً حسناً، وأن يتقبله الله جل وعلا، وذلك أن الله سبحانه وتعالى أظهر منته لامرأة عمران بقبوله لتلك الإجابة، وذلك أن الله سبحانه وتعالى دعي من امرأة عمران أن يعيذها جل وعلا من الشيطان، فبين له سبحانه وتعالى أن غاية العصمة من الشيطان أن يتقبلها الله جل وعلا وأن ينبتها نباتاً حسناً، ولم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاء للمولود عند ولادته بالتبريك لوالديه، وهذا من الأدعية التي تستحسن.
ويؤخذ من ذلك أن الله سبحانه وتعالى لما استجاب لامرأة عمران بين وجه الاستجابة، وذلك أن الله سبحانه وتعالى قد تقبل مريم بقبول حسن وأنبتها نباتاً حسناً، وهذا مما يؤخذ منه حسن الدعاء عند المولود لوالديه.
وفي قوله سبحانه وتعالى: فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا [آل عمران:37]، ذكر الله عز وجل الكفالة هنا وهذه الآية أصل في أبواب الحضانة، والحضانة تكون للمولود بعد ولادته إذا فقد والديه أو عند عجز والديه عن كفالته والقيام بشأنه، وذلك أنهما إذا عجزا، إما لمرض من إعاقة أو اغتربا بإكراه أو حبس لعلة، فإنه يقوم بذلك غيرهما، والكفالة التي ذكرها الله سبحانه وتعالى هنا في قوله: وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا [آل عمران:37]، هي المرادة بالحضانة، والحضانة ذكرها الله سبحانه وتعالى في عدة مواضع، إما على سبيل الإشارة، وإما التصريح، فالتصريح كما هنا في قول الله جل وعلا: وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا [آل عمران:37]، والإشارة تقدم في آية الرضاع: وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ [البقرة:233]، وكذلك في قول الله سبحانه وتعالى: وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ [النساء:23]، الله سبحانه وتعالى ذكر الربائب التي في الحجور، ولا يكون في الحجر إلا الصبي الصغير، والمراد بالحجر هو ما يحتويه الإنسان بين صدره وفخذيه، وهذا هو حجره، ولا يكون في ذلك إلا الصغير، فيربى يقال: فلان في حجري، أي: أضعه في حجري فأحتويه، فهذا من الحضانة.
وهذه الآية أصل في مشروعية الحضانة وحق الأم فيها، وإنما كانت الكفالة لـمريم عليها السلام لزكريا لأن أمها وأباها ماتا، واختلف في سبب الموت، والعلماء عليهم رحمة الله يتفقون أنها كانت يتيمة بعد ولادتها، واختلفوا في سبب اليتم، فمنهم من قال: إن ذلك بسبب سنة أصيبوا فيها بأمراض كالجذام، ومنهم من قال: إنها ميتة كسائر ميتة الناس، وعلى كلٍ نقول: إنه قد اتفق العلماء على أن الكفالة ما انتقلت لزكريا إلا بسبب موت أم مريم، وهي على ما تقدم اسمها حنة أو حِنة .
والكفالة إنما كانت لـزكريا لا لذاته فيما يظهر وإنما لقرابة مريم من زوجته، وزوجة زكريا بينها وبين مريم قرابة، واختلف في تعيين هذه القرابة، قيل: إن مريم هي أخت زوجة زكريا، وذلك أن امرأة عمران قد أنجبت قبل مريم بنتاً فتزوجها زكريا، ثم جاءت بـمريم وماتت عنها فلحقت مريم بأختها، وعلى هذا فنقول: إن عيسى بن مريم يكون أخاً لـيحيى بن زكريا، لأن يحيى هو ابن زكريا، وأن عيسى هو ابن مريم، و مريم هي أخت زوجة زكريا، وعلى هذا يكونان أبناء خالة، كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح: ( فإذا بـعيسى و يحيى وهما أبناء خالة )، وقد اختلف العلماء في القرابة في تحديدها مع اتفاقهم في كونها من جهة الأم، ولكن يختلفون في تعيينها، قد جاء عن قتادة وعن السدي أن مريم هي أخت زوجة زكريا، يعني: أن أبناءهما من أبناء الخالة، ومنهم من قال: إن خالة مريم وهي أخت حنة أنها تحت زكريا، وعلى هذا يقولون: إن مريم هي ابنة خالة لـيحيى بن زكريا، وعلى هذا يكون عيسى بن مريم هو ابن خالة لـيحيى بن زكريا تجوزاً في لغة العرب؛ لأن العرب يتجوزون في أبناء العمومة وأبناء الخالة، ولكن الذي يظهر والله أعلم في ظاهر الحديث الذي جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام في الصحيح في قوله: ( فإذا عيسى و يحيى وهما أبناء خالة )، أنه يحمل في ذلك على الأصل.
فجعل الله سبحانه وتعالى الكفالة في امرأة زكريا لأنها أقرب النساء إلى مريم .
في هذه الآية دليل على أن أحظ النساء في الكفالة والحضانة هي الزوجة، وذلك لأن الكفالة هنا لم تنتقل إلى زكريا إلا عند فقد أم مريم ، ويتفق العلماء على أن أم مريم ماتت وبسببها استحقت الكفالة وانتقالها إلى زكريا .
وهنا في مسألة الحضانة ذكرنا اتفاق العلماء على أن الحضانة تكون عند الأم عند طلاق الأبوين، عند طلاق الأب لأم الولد فإنها تكون عند أم الولد بالاتفاق، إلا إذا تزوجت الأم، فإنه يسقط حقها في ذلك، ويتفق العلماء عليهم رحمة الله على أن الأم أحق بالحضانة من الأب، وقد حكى الإجماع على ذلك جماعة من العلماء كـابن المنذر و ابن عبد البر عليهم رحمة الله، ويجعلون ذلك مقيداً ببعض القيود.
وهذه القيود أولها: ألا تتزوج الأم.
القيد الثاني: أن تكون الأم مسلمة، وألا تكون كافرة، وهذا أيضاً من مواضع الخلاف، وهذا محل اتفاق.
الثالثة: أن تكون الأم قادرة على الحضانة، لا تكون الأم مريضة بسفه، أو مريضة بجنون، أو فيها شلل يقعدها عن القيام بشأن ابنها، أو يكون بها فسق وفجور وسوء تربية، وشهد عليها في ذلك، فإنها تضر بالابن أكثر من أن تحسن إليه، فنقول حينئذٍ: الحضانة من جهة الأصل تكون في الأم لا تكون في الأب، وهذا محل اتفاق عند العلماء، ولكنهم اختلفوا في الأمد الذي تحضن فيه الأم ولدها، مع اتفاقهم على أن الحضانة في حق الأم إلى التمييز، واختلفوا فيما بعد ذلك، فهم يتفقون على أنه من عند الولادة يكون عند الأم، فإذا طلقت الأم على سبيل المثال وهي حامل، ثم وضعت، فإن الحضانة تبتدئ من عند وضعها إلى حين التمييز باتفاقهم، أو طلقها بعد شهر أو سنة أو سنتين من الولادة ثم بقيت، فإنها تستكمل في ذلك إلى التمييز، وهذا محل اتفاق، وإنما وقع الخلاف فيما بعد ذلك.
اختلف العلماء عليهم رحمة الله في الحضانة بعد التمييز على قولين: ذهب الإمام مالك رحمه الله إلى أن الحضانة إذا بدأت بها المرأة قبل التمييز فإنها لا تنفك عنها حتى يبلغ الغلام، وحتى تتزوج الجارية أو تتزوج أمها، فإذا تزوجت الجارية أو تزوجت أمها فأيهما سبق سقطت حينئذٍ الحضانة، وهذا قول الإمام مالك رحمه الله، وذهب جمهور العلماء وهو قول الإمام الشافعي والإمام أحمد إلى أن الحضانة تنتهي بالتمييز، فإذا ميز الصبي أو الجارية فإنهما يخيران بين أبويهما.
أما بالنسبة لإجماع العلماء عليهم رحمة الله في هذه المسألة، وذلك لثبوت النص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما جاء في حديث عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لامرأة: ( أنت أحق به ما لم تنكحي )، وجاء في رواية: ( ما لم تتزوجي )، وهذا دليل على بقاء ذلك، وأن البقاء هل هو باقٍ إلى الرشد أو إلى البلوغ أو إلى التمييز؟ هو على ما تقدم.
والأظهر والله أعلم أن ذلك يكون إلى التمييز، فإذا ميز الصبي وميزت الجارية فإنهما يخيران بين أبويهما، وهذا قد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما جاء عند النسائي في حديث أبي هريرة ، أن امرأة جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: ( إن ولدي ثديي له وعاء، وإنه لما كبر وسقاني من عين كذا وكذا أراده أبوه مني، فجاء أبوه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هذا أبوك وهذا أمك فخذ بيد من شئت منهما، فأخذ بيد أمه، فأخذته تقوده )، وهذا فيه أنه في حال تخييره، إذا سار إلى أبيه أو سار إلى أمه بقي الحكم في ذلك.
والعلة في تغليب جانب الأم في جانب الحضانة على الأب، لأن هذا فيه صلاح الولد، وصلاح الأم، وصلاح الأبوين، جهات ثلاث في مصلحة الترجيح في باب الحضانة:
الجهة الأولى بالنسبة لصلاح الأم، كيف تكون الحضانة فيها صلاح الأم؟ لأن الأم تجد في نفسها من جهة الولد ما لم يجده الأب، فهي تجد تعلقاً بابنها وبنتها ما لم يجده الأب من جهته، وذلك لضعف الأم، وانكسار نفسها بخلاف الأب، ما أتاه الله عز وجل من شدة وجلادة وشغل وانصراف ذهن، فإن الشريعة قد جعلت ذلك أرفق بها وأحن إلى قلبها وألين لها.
وأما الجهة الثانية: فمن جهة صلاح الابن أو البنت، أن الأم أرفق بالولد من الأب، وذلك في حال صغره من جهة الرضاع؛ فإن الأب لا بد أن يأتي بمرضعة لولده، فلا يمكن أن يستقل بنفسه الإطعام، ولهذا جاء الأمر من جهة الأم، فتأكد ذلك لصلاح الولد، كذلك من جهة عنايته بصحته، ولباسه، ونومه، وقيامه، لا يمكن أن يستقل الأب بذلك بنفسه، فلا بد أن يستعين وأن يشرك غيره من أمٍ، أو زوجة، أو أختٍ، أو جدةٍ، أن ترعى معه، وهذا يضعف جانب الرعاية وصلاح الولد، فإن إصلاح الأم لولدها أحضى وأعظم من إصلاح البعيدة عنه، وكلما بعدت القرابة ضعفت العناية والرغبة في ذلك، وكذلك بمعرفة صالح الولد مما يفسده أو يضر به.
وأما الجهة الثالثة، وهي بالنسبة لصلاح الأبوين: أن الشريعة تتشوف في حال فراق الأبوين بطلاق أو بخلع إلى رجوعهما إذا كان الطلاق رجعياً، لأن الولد إذا كان عند أمه في ذلك كسر لنفس الرجل أن يأتي إلى ولده، بخلاف إذا كان الولد في حضانة أبيه وفي حجره، فإن الأب لا يصل أهل ولده من جهة أمه، وإنما تصله في ذلك الأم، وأما بالنسبة للأب فإنه يصل أهل الولد، وذلك بولي الزوجة ما لم تتزوج، وهذا أحضى لرجوع الأبوين، بخلاف إذا جاءت الأم إلى ولدها أو بنتها فلا يعني من ذلك أن تأتي إلى أهل الولاية، وأهل الولاية والعصمة في ذلك هو الزوج، والحرمة في ذلك قائمة بين الزوجين، وأما إذا كان الزوج يأتي إلى أهل زوجته أو طليقته، فإنه يقابل أولياءها، والمرأة إذا جاءت إلى ولدها لا تقابل الولي في ذلك ممن بيده عصمة النكاح في حال العودة وهو الزوج، ولهذا تشوفت الشريعة وجعلت الحضانة تكون للزوجة؛ لأن ذلك فيه صالح الأمر، وكذلك فيه حفظ للمودة السابقة، وإحسان المعشر، وغير ذلك من المقاصد الشرعية.
وإذا تزوجت الأم سقط حقها الحضانة، وإذا طلقت مرة أخرى، وبقي مدة الحضانة هل يرجع إليها ولدها أم لا؟
نعم، يرجع إليها ولدها، وذلك أن الحقوق تعود بزوال مانعها، كما توجد وتتحقق بوجود أسبابها، ومعلوم أن سبب وجود الحق في الحضانة هو عدم زواجها، وكذلك الأمومة، فإذا ارتفعت لسبب من الأسباب فإنها حينئذ ترجع إليها بزوال المانع، وهذا محل خلاف عند العلماء في مسألة المرأة إذا تزوجت ثم طلقت هل ترجع في حقها في الحضانة أم لا؟
والأرجح في هذا الرجوع، وكذلك إذا أسقطت المرأة حقها من نفسها في الحضانة، أرادت أن تتنازل لأبيه، لأي علة، إما أمراً نفسياً أو لمرض أو لشغل، أو غير ذلك، ثم انتظرت عاماً، ثم أرادت حقها فلها ذلك؛ لأن الحق في ذلك لا يسقط، وأما إذا كانت الزوجة ليست بمسلمة والأب مسلماً، فهل يسقط حق الحضانة في ذلك أم لا؟ هذا من مواضع الخلاف.
جمهور العلماء يرون أن الإسلام شرط في حضانة الأم لولدها، خلافاً لـأبي حنيفة الذي لا يفرق بين الدينين: الإسلام والكفر، والصواب في ذلك التفريق، وأنه لا بد من الإسلام، لأن المولود يولد على الفطرة، فإذا كانت الأم نصرانية أو يهودية أو على ملة من الملل الكفرية، فإنها ستربي ابنها على ذلك، وينشأ، ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم يقول كما جاء في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة ، قال عليه الصلاة والسلام: ( ما من مولود إلا ويولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه )، فإذا كانت الحاضنة في ذلك كافرة كنصرانية أو غير ذلك، فإنها تصوغ ابنها على خلاف الفطرة، وتصبغه على ذلك، ومعلوم أن الله سبحانه وتعالى قد فطر الناس على الفطرة الصحيحة، وهي: الإيمان بالله سبحانه وتعالى، وعلى هذا نقول أيضاً: إن الأم إذا كانت فاجرة أو فاسقة أو غير ذلك فإنها تسقط حضانتها كذلك، كالتي تربي الابن، أو البنت على فساد، إما من تعرٍ الجارية، أو الرقص، أو شرب الخمر، أو أكل لحم الخنزير، أو غير ذلك من الأمور المحرمة، فينشأ على ذلك ويستسيغها، فإن هذا مما يسقط الحضانة.
وهنا في زكريا الله سبحانه وتعالى ذكر الكفالة فيه فقال: وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا [آل عمران:37]، وثمة قراءتان في هذا، كفلها بالتخفيف وهذه قراءة أهل الحجار: مكة والمدينة، وقراءة البصريين، وكفَّلها بالتشديد وهي قراءة الكوفيين وبعض أهل المدينة: وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا [آل عمران:37] ، والكفالة هنا إنما هي بسبب امرأة زكريا، وإنما ذكر الله عز وجل الكفالة لـزكريا وباسمه؛ لأن زكريا يكفل زوجته، وزوجته تكفل مريم فكفالة الجميع إنما هي في زكريا، وهذا فيه دليل على القوامة، فلما استحق زكريا كفالة مريم لأجل زوجته وزوجته يكفلها زكريا، جعل الله عز وجل كفالة الجميع في زكريا، والكفالة في زكريا هنا إنما كانت بالاستهام وهي الاقتراع، والله سبحانه وتعالى يسر السبيل أن تكون لـزكريا، لمقامه في قومه، ولنبوته، وسيادته فيهم، وكذلك يهيئ الله عز وجل أمر مريم تثبيتاً وتقوية، لأنها ستجد شدة قدرها الله عز وجل عليها، وذلك من إنجابها لـعيسى بلا زوج، وما في ذلك من شدة، وتحتاج إلى قوة عزيمة وتعبد لله سبحانه وتعالى وصبر، ولا يكون ذلك إلا في من نشأت في كنف نبي بعد عون الله عز وجل وتثبيته.
وفي قوله سبحانه وتعالى: فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا [آل عمران:37]، هذا فيه إشارة إلى عظم التربية في البيوت الصالحة وأثرها، ولهذا امتن الله سبحانه وتعالى على أم مريم و مريم، أن جعل الكفالة في بيت زكريا، فترى أمر الصلاح والديانة والتعبد لله عز وجل، ولا ترى من مخالفة أمر الله سبحانه وتعالى والخروج عن حدوده شيئاً، لأن المولود يتطبع على ما يرى في بيت تربيته من مخالفة أمر الله سبحانه وتعالى.
وهنا في ذكر المحراب المراد بذلك: هو موضع العبادة، وليس المراد بذلك المحاريب الموجودة في زماننا، وهي التي تكون مستديرة أو مربعة في مواضع أو في أماكن العبادات، وإنما هو موضع الصلاة التي يضعه الإنسان.
وفي قول الله سبحانه وتعالى: قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا [آل عمران:41]، في هذه الآية مسألتان من مسائل الفقه:
أولها: ما يتعلق بالهجر، الله عز وجل جعل الأيام ثلاثة التي لا يكلم فيها الناس؛ لأنه أقصى الهجر، ولا يوجد سبب شرعي يتعلق بالمهجورين، فجعل الله عز وجل في ذلك الهجر على ثلاثة أيام؛ لمصلحة شرعية قائمة فيه، والهجر قد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنه، لما جاء في الصحيح قال عليه الصلاة والسلام: ( لا يهجر أحدكم أخاه فوق ثلاث )، وكذلك جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام كما في السنن قال: ( من هجر أخاه سنة فهو كسفك دمه )، وقد صحح هذا الحديث غير واحد من العلماء.
فالهجر إما أن يكون لأمر قائمٍ في الهاجر، وإما أن يكون لأمرٍ قائم في المهجور، وإذا كان لأمر قائم في الهاجر فإنه يجوز لليوم واليومين والثلاثة، ولا يجوز فيما عدا ذلك، ولهذا الله سبحانه وتعالى جعل هنا صيامه يعني: إمساكه عن الحديث مع الناس لثلاثة أيام، وهذه العلة التي قامت في هذا الأمر على ما تقدم أن الإنسان ربما يعجز عن بيان حجة لعظم الإعجاز فيها، والإمساك في ذلك أولى عن بيان سبب ظاهر للأمر القائم فيه، فبيانه للناس شاق.
وأما العلة الثانية التي تكون في المهجور، فالهجران في ذلك إما أن يكون بسبب شرعي فيجوز فوق ثلاث بمقدار المصلحة، وأما إذا كان من غير سبب شرعي فإنه لا يجوز فوق ثلاث، ويجوز فيما دونها، وعلى خلافٍ عند العلماء عليهم رحمة الله في الهجر بلا سبب دون ثلاث.
والصواب في ذلك أن للإنسان أن يهجر دون ثلاث إذا لم يكن في ذلك سبب شرعي، مع أنه خلاف الأولى، وهذا محل اتفاق أنه خلاف الأولى، وذلك أنه إذا وجد الإنسان في نفسه مأخذاً على أحدٍ أو شيئاً في أمر الدنيا أو نحو ذلك، ولكنه لم يخدش شيئاً من أمر الدين، فله أن يهجره يوماً أو يومين أو ثلاثة، ويحرم عليه أن يهجره فوق ثلاث، والهجران بسبب ذنب ومخالفة أمر الله سبحانه وتعالى جائز، وقد هجر النبي صلى الله عليه وسلم جماعة من أصحابه كما هجر الثلاثة الذين خلفوا لما تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أمرهم بالنفير، وكذلك في هذا أن الهجران إنما زاد عن ثلاث لأمر يتعلق بحق الله سبحانه وتعالى لا بحق الإنسان، ولهذا هجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهجر أصحابه، فقد هجر سعد بن أبي وقاص عمار بن ياسر، وهجر عثمان بن عفان عبد الرحمن بن عوف، وهجر جماعة من التابعين في هذا، فقد هجر سعيد بن المسيب عليه رضوان الله تعالى أباه، وكذلك هجر سفيان الثوري ابن أبي ليلى، وهجر الإمام أحمد رحمه الله عمه وأولاده لما أخذوا جائزة السلطان، وقد جاء في الهجر في ذلك عن جماعة من الأئمة إذا كان لسبب شرعي، ولهذا نقول: إن الهجر فوق ثلاث يجوز بشرطين:
الشرط الأول: أن يكون ذلك لحق الله سبحانه وتعالى لا لحق الإنسان.
الشرط الثاني: أن يكون الهجر مؤثراً، فلا يهجر الإنسان من لا يتأثر، أو من يغلب على الظن عند هجرانه أن الإنسان يزداد سوءاً، فإذا ازداد الإنسان سوءاً بهجره فيحرم حينئذٍ أن يهجره الإنسان، بل يقوم الإنسان بالتلطف معه، ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم خولف كثيراً، وأوذي كثيراً، وما هجر إلا نادراً، فأوذي النبي عليه الصلاة والسلام بمكة، وبالمدينة أذىً حسياً وأذى معنوياً، وما هجر النبي عليه الصلاة والسلام إلا أفراداً معدودين، لأن الهجر يؤدبهم ويعودون إليه، بخلاف إذا كان الهجر يبعد المهجور، فلو هجر النبي عليه الصلاة والسلام أهل مكة لما خالفوه لفرحوا بذلك؛ لأنهم لا يريدون أن يسمعوا قوله ولا قربه، وكذلك من خالف النبي عليه الصلاة والسلام من المنافقين وغير ذلك، وكذلك من اليهود فإنهم أكفر أهل المدينة، ومع ذلك النبي صلى الله عليه وسلم تألفهم وتودد إليهم تأليفاً لقلوبهم، حتى لما قوي النبي عليه الصلاة والسلام وأيس من هدايتهم أجلاهم من المدينة إلى خيبر، ولهذا نقول: لا بد من النظر إلى هذين، أن يكون ذلك بسبب حق الله عز وجل لا بسبب حق الإنسان، والثاني: أن يكون في ذلك أثر على المهجور، ولهذا الناس يتباينون فلا يقدم الإنسان حظ نفسه، فإذا وجد مخالفة في أحدٍ تخالف أمر الله جل وعلا يقوم بهجره لأجل نفسه لا لأجل تلك المخالفة، فكأنه يتحين فرصة للقطيعة قبل الوقوع في المخالفة، فإذا وجد مخالفة هجره لحظ نفسه، فهو يريد أن يجد سبباً في ذلك، وهذا من الأهواء التي تتستر بالمقاصد الشرعية وبالأسباب الشرعية، وهذا ما ينبغي للإنسان أن يحذر منه، والهجران في ذلك يتجزأ، منه هجران تام بالمخالطة البدنية، وهجران ناقص، وذلك إما أن يكون بهجران الكلام مع المخالطة البدنية، وهذا يقع من النبي صلى الله عليه وسلم، فربما هجر النبي صلى الله عليه وسلم بعض أزواجه بالكلام، وربما هجر النبي صلى الله عليه وسلم بعض أزواجه بالمخالطة البدنية مع الكلام، كما هجر النبي صلى الله عليه وسلم بعض أزواجه وآلى منهن، وهجر النبي صلى الله عليه وسلم عائشة كما في حادثة الإفك إلا أنه عليه الصلاة والسلام ما هجرها بقوله.
ونأخذ من هجران النبي صلى الله عليه وسلم وما وقع بينه وبين عائشة أن الإنسان إذا هجر بالمخالطة، ولم يهجر بالقول فإنه لا يتحقق الهجر المنهي عنه، فإذا بذل السلامة وسأل عن الحال، ولو لم يخالط البدن، فإن ذلك ينفي الهجران الذي نهى الله سبحانه وتعالى عنه، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم لما هجر عائشة ببدنه وقل ما يراها عليه الصلاة والسلام هجر المخالطة البدنية، وكان يسأل عنها بين وقت وآخر، وهذا يدفع الهجران.
وكذلك فيه إشارة أن الإنسان لا حرج عليه أن يهجر بغلبة الظن لا هجراناً تاماً، وإنما ناقصاً، إما أن يكون ذلك بالبدن، أو يكون بالقول.
وهنا في الهجران في قوله: أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا [آل عمران:41]، ظاهره أن الهجران هجران تام في الكلام؛ لأنه ذكر تكلم الناس إلا رمزاً، فاستثنى الرمزية وهو الإشارة، هل يجوز أن يسلم الإنسان إشارة؟
ظاهر هذه الآية الجواز.
وهل هذا جائز في شرعة الإسلام أم لا؟
الله سبحانه وتعالى ما نهى هنا عن الخلطة البدنية، وإنما نهى عن الكلام، نقول: جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أسماء بنت يزيد عليها رضوان الله تعالى: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء إلى المسجد وعصبة من النساء جلوس فيه، فألوى رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده )، وهذا من النبي صلى الله عليه وسلم إشارة باليد، ولكنها ليست صريحة أن النبي عليه الصلاة والسلام اكتفى بالسلام باليد، فربما تلفظ عليه الصلاة والسلام مع إشارته باليد، وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن السلام بالإشارة باليد، كما جاء عند النسائي وغيره من حديث أبي الزبير عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تسلموا سلام اليهود والنصارى، فإن سلامهم بالأكف والرءوس والإشارة )، وجاء: ( بالأكف، والرءوس والأصابع )، وهذا نهي، والإسناد في ذلك صحيح، وقد صحح هذا الحديث غير واحد من العلماء.
وعلى هذا نقول: إن السلامة بالإشارة من غير تلفظ يكره، لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عنه، والنهي هنا هل هو بكل حال، بحيث أن الإنسان إذا كان بعيداً، أو كان في موضع لا يسمع، كالذي يشير وبينه وبين أحدٍ حاجزٍ من زجاج أو غير ذلك ولا يسمع، فهل له أن يكتفي بالإشارة؟
نقول: إذا سمع فإنه يتعين عليه أن يقرن اللفظ بالإشارة، لظاهر نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك أن في حديث أسماء لما مر النبي صلى الله عليه وسلم بعصبة من النساء فألوى بيده، جاء في بعض الروايات قال: ( فسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم يلوي بيده )، وكأن النبي صلى الله عليه وسلم تلفظ بالسلام، وجعل مع تلفظه إشارة باليد، فربما النبي عليه الصلاة والسلام كان بعيداً عنهن فأراد أن يبلغ من يراه سلامه، فربما لم يسمع قوله.
وعلى هذا كانت الإشارة تبعاً للقول، وليس القول تبعاً للإشارة؛ لأن السلام إنما هو بالقول من جهة الأصل، فالإشارة في حال عدم السماع، ولهذا نقول: إنه لا يستحب للإنسان إذا دخل على قوم يسمعونه أن يكتفي بالإشارة؛ لأنه اكتفى بالتبع وترك الأصل، ولكن إذا قرن الإشارة بالسلام جاز ذلك، والأولى أن يكتفي بالسلام إذا سمع قوله، وهذا هو ظاهر فعل النبي صلى الله عليه وسلم.
وفي هذه الآية في أمر الله عز وجل بالإمساك عن الكلام ثلاثاً إلا رمزاً، يعني في ذلك الإشارة، وعلى هذا نقول: إن سلام الإشارة إنما هو في شرعة بني إسرائيل، وليس في شرعة الإسلام، ولهذا أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يتمايز أهل الإسلام عن غيرهم، ولهذا نقول: إن لفظ السلام، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، إنما هو من خصائص هذه الأمة على الأرجح، ولهذا جعله الله عز وجل سلام أهل الجنة.
وفي قوله أيضاً في هذه الآية: وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ [آل عمران:41]، في هذا أن ذكر الله سبحانه وتعالى والتسبيح والتهليل والصلوات مما يعين الإنسان عند الكربات والشدائد، فإذا وجد الإنسان هجراناً أو عزلة، فليلجأ إلى الصلاة فإن في ذلك تثبيتاً له، ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم ما أمر أحداً من أنبيائه أن يتحنث وأن يعتزل الناس إلا لأجل العبادة، كما في قصة مريم هنا، وكذلك في تحنث رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار، لأن الله عز وجل أمره بالانشغال بالتعبد، ولهذا نقول: إن أعظم ما يثبت الإنسان عند الشدائد وانعزال الناس وانفصالهم عنه: هو أن ينشغل بذكر الله سبحانه وتعالى، وذلك أن القلب عند انعزاله عن الناس يكون خالياً، فإذا كان خالياً ولم يملأ ملأه الشيطان بالوهم والوسواس، فلا بد أن يملأ بذكر الله، وأن يملأ بعبادته، وذلك من الصلاة، ولهذا قال الله سبحانه وتعالى: وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ [آل عمران:41]، والمراد بالتسبيح هنا بالعشي والإبكار هو شامل لنوعي العبادة، العبادة القولية، وهو ذكر الله سبحانه وتعالى صباحاً ومساءً، والعبادة العملية البدنية، وهي الصلاة، أن يصلي الإنسان في البكور، وأن يصلي في العشي، وهي شاملة لصلوات النهار وصلوات الليل، فإن ذلك من أعظم ما يعين الإنسان على الثبات على أمر الله سبحانه وتعالى.
وفي قول الله سبحانه وتعالى: وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ [آل عمران:42].
في هذا معنى جليل، وذلك أن الله سبحانه وتعالى ذكر فضل مريم وميزتها واصطفاءه لها، وقرن الله عز وجل مريم بنساء العالمين، ما قرنها برجال العالمين، وإنما خص النساء دون الرجال، والسبب في ذلك أن تفاضل الرجال يكون فيما بينهم، وتفاضل النساء يكون فيما بينهن لاختلاف الجنس، وذلك أن المرأة تقارن ببني جنسها، والرجل يقارن ببني جنسه، وهذا إرجاع الناس إلى الفطرة، وذلك أن الله عز وجل حينما خلق الرجال وجعلهم ذكوراً، وخلق النساء وجعلهن إناثاً، جعل لكل أحدٍ خصائص من جهة البنية والعقل، والخلقة، فجعل الله عز وجل المرأة مفطورة على حال، فلا يقال: إن المرأة أحظ بالرجل بهذه الحال، ولا يقال: إن الرجل هو أحظ من هذه المرأة بما آتاه الله سبحانه وتعالى، إلا ما يتعلق به حكم شرعي، فجعل الله عز وجل ذلك فضلاً للرجال على النساء.
ولهذا نقول: إن التفضيل المطلق لا يجوز أن يكون لامرأة إلا على النساء، ولهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا أربع )، وهنا في تفضيل الله سبحانه وتعالى لـمريم في قوله: وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ [آل عمران:42] ؛ لأن الشيء لا يفضل إلا على جنسه، وهذا ما اختل لدى من غير فطرة الله سبحانه وتعالى من أهل الفكر الغربي، الذين يقولون بأنه لا فرق بين الجنسين، فاختل ذلك الأمر عندهم، ففرقوا فلم يروا الفوارق بين الذكر والأنثى، فاختل الميزان لديهم، وهذا اختلال في جانب الفطرة؛ لأن الله عز وجل قد طبع الرجل على صفة وخلقة، وطبع النساء على صفة وخلقة، وهذه الصفة والخلقة هي التي يقول الله سبحانه وتعالى في قوله جل وعلا: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا [الروم:30]، وفي قول الله جل وعلا: صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً [البقرة:138]، المراد بصبغة الله هي فطرة الله عز وجل، وكأن الله عز وجل صبغ الرجل وخلقه على صفة وصورة معينة، فإذا غير إلى غيرها فإنه لا يفهم مراد الله سبحانه وتعالى، ولهذا الشريعة إنما نزلت على الفطرة، فإذا اختلت الفطرة ما عرفت الفطرة شرعة الله سبحانه وتعالى، فإذا رأت المرأة أنها كالرجل سواء، ما فهمت النص، وإذا رأى الرجل أنه كالمرأة ما فهم النص الذي يميزه الله جل وعلا به، ولهذا حرصت الشريعة على التأكيد في جانب الفطرة، والانفصال والانفكاك بين الجنسين، حتى في الصورة الظاهرة، فلعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل يلبس لبسة المرأة، والمرأة تلبس لبسة الرجل.
بل فرق بينهما حتى في الطيب وفي المجالس، حتى لا يختلط الناس في الفطرة فتختلط عليهم حينئذٍ الأحكام، لما اختلطت الفطرة عند الغرب اختلطت لديهم الأحكام الشرعية، فلا يتصورون أحكام الله عز وجل الخاصة بالمرأة، وكذلك الخاصة بالرجل، فصراع المسلمين اليوم مع الغرب إنما هو صراع فطرة قبل أن يكون صراعاً مع الدين، ولهذا الغرب بحاجة إلى أن يعادوا إلى فطرتهم حتى يتعرفوا على الشريعة، ولهذا الشريعة نصوص ووحي، فإذا كانت الفطرة مبدلة لا يمكن أن تتعرف الفطرة على النص الشرعي، لأن الفطرة قد تبدلت، والله عز وجل خلق الفطرة وأنزل الشرعة، والفطرة إذا تبدلت ما فهمت الشرعة، ولهذا نجد بمقدار بعد الإنسان وتغير الفطرة لديه لا يفهم الشريعة بمقدار نقصانها، ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم حينما جاءه فتىً فقال: ( ائذن لي بالزنا، قال له النبي صلى الله عليه وسلم: أترضاه لأمك؟، قال: لا، جعلني الله فداك، قال: كذلك الناس لا يرضونه لأمهاتهم، قال: أترضاه لبنتك؟ قال: لا، جعلني الله فداك، قال: كذلك الناس لا يرضونه لبناتهم؟، قال: أترضاه لخالتك؟، قال: لا. جعلني الله فداك، قال: كذلك الناس لا يرضونه لخالاتهم، قال: أترضاه لعمتك؟ قال: لا. جعلني الله فداك، قال: كذلك الناس لا يرضونه لعماتهم )، هذا الرجل تبدلت فطرته أو لم تتبدل، فطرته صحيحة، لكن لو تأتي إلى رجل غربي الآن تقول: أترضاه لعمتك؟ يقول: نعم، أترضاه لخالتك؟ يقول: نعم، هل فهم النص وتعرف عليه أم لا؟ الخلل في الفطرة، ولهذا الله عز وجل خلق الإنسان وأنزل الشرعة، فجعل له خلقة وفطرة، وجعل له شرعة، فتفهم الشرعة الفطرة، فإذا اختلت لا يمكن أن يفهم، ولهذا لا يمكن أن يفهم أصحاب الفطر المبدلة الأحكام الشرعية، أصحاب الفكر الليبرالي أو العلماني أو غير ذلك، إذا خاطبته بشرعة الله سبحانه وتعالى بمقدار بعده لا يدرك، تحتاج أن تقرب منه إلى حيث الفطرة المبدلة، ولهذا لو جئت إلى بعض المتأثرين بالفكر اللبرالي والعلماني وقلت له عن حكم الله عز وجل في مصافحة المرأة أنها حرام، هل يفهم؟ لا، لأنه يبيح الزنا، فلا يفهم معنى تحريم المصافحة، وإذا قلت له: تحريم الخلوة، أو الاختلاط، لا يمكن، بل ربما يستغرب، بل يجب أن يستغرب، لأن الفطرة مبدلة، فوضعه العقلي والفكري لا يمكن أن يفهم هذا النص؛ لأنه متغير، فتحتاج أن تناقشه في الزنا، ثم تأتي به على سبيل التدرج، وهكذا في الأحكام الشرعية، وهذا أحياناً تجد أنهم لا يفهمون أحكام الاختلاط، الخلوة، عدم حضور النساء مع صفوف الرجال في الجماعة، وإمامة النساء للرجال، لا يدركون هذا الأمر؛ لأن الأصل لديهم قد اختل، ولهذا الله سبحانه وتعالى يؤكد على الفطرة والحفاظ عليها، ولهذا نقول: إن الحفاظ على الفطرة آكد من الحفاظ على الشرعة، لأن الشرعة لا تقوم بلا فطرة صحيحة، والفطرة الصحيحة قد تقوم بلا شرعة، ويعذر الإنسان، كحال الإنسان الذي لم تبلغه شرعة الله سبحانه وتعالى، فإنه يوحد الله ويؤمن بوجود الخالق، ويعذر في هذا، أما الإنسان إذا جاءته شرعة ولم يكن على فطرة سوية فإنه يكفر بالشرعة ولا يعذر، ولهذا الله سبحانه وتعالى هنا لما ذكر مريم عليها السلام ذكر تفضيله واصطفاءه لها على النساء على سبيل الخصوص؛ لأن الرجال جنس مختلف، كذلك جانب الرجال فإنهم يتفاضلون فيما بينهم.
وعقيدة أهل السنة أنهم لا يتكلمون على تفاضل أفراد الرجال، وإنما يتكلمون على فضل جنس الرجال، كما يتكلمون على جنس العرب، ويدخل في فضل جنس العرب على العجم، ولا يتكلمون على فضل أعيان العرب على أعيان العجم، فحينما يقولون: فضل جنس العرب على جنس العجم هذا محل اتفاق عند أهل السنة، فيدخل في جنس العرب الذكور والإناث، الرجال والنساء، وحينما يقولون في جنس الرجال في فضله على النساء، فإنهم لا يجعلون من ذلك الأعيان، وذلك لتقدم أناس بالفضل من النساء على كثير من الرجال في هذا، وقد فضل الله عز وجل من ذلك صفوةً من النساء في هذا على الرجال بأعيانهن، وقد شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضاً لجماعة من النساء بالجنة، وشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لجماعة من الرجال بالنار.
وسنتكلم في الدرس القادم في قول الله عز وجل: يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ [آل عمران:43] في قوله عز وجل: وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ [آل عمران:43] عن صلاة الجماعة بالنسبة للنساء، وحكمها، وهل كانت موجودة في الأمم السابقة في جماعة النساء مع الرجال، وما المراد في قول الله عز وجل: وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ [آل عمران:43]، المراد بذلك أن تركع حكماً فتتلبس بحكمهم، فتصلي بمواقيتهم، وكذلك بعبادتهم التي شرعها الله عز وجل قبل أن توجد مريم ، فأراد الله عز وجل بذلك أن تتعبد بالشرعة السابقة، أما المراد بذلك أن تركع معهم فتأتم بهم، فجعل الله عز وجل المرأة في ذلك تابعة للرجل.
هذا نتكلم عليه بإذن الله عز وجل في المجلس القادم، ونكتفي بهذا القدر، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر