الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فأول أحاديث هذا المجلس: حديث أبي هريرة عليه رضوان الله أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إذا صلى أحدكم ركعتي الصبح فليضطجع على شقه الأيمن ).
هذا الحديث جاء من حديث أبي هريرة عليه رضوان الله تعالى، ورواه عنه أبو صالح ، وقد رواه الإمام أحمد في كتابه السنن، وكذلك الإمام الترمذي وغيرهم من حديث عبد الواحد بن زياد عن سليمان الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذا الحديث منكر بهذا اللفظ, وذلك أنه جاء بصيغة الأمر من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الإنسان إذا صلى ركعتي الفجر فليضطجع على شقه الأيمن، ومعلوم أن الاضطجاع على شق الإنسان الأيمن بعد ركعتي الفجر إنما جاء من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم كما جاء في حديث عائشة .
وأما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم للإنسان أن يضطجع على شقه الأيمن بعد ركعتي الفجر فهذا لم يأت أمراً عن النبي عليه الصلاة والسلام إلا من هذا الوجه من حديث عبد الواحد بن زياد عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة ، وجاء ذلك عن أبي هريرة عليه رضوان الله تعالى من غير هذا الطريق من حديث سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة , ولكنه ذكر ذلك من فعل النبي صلى الله عليه وسلم وما ذكره من قوله.
وقد جاء أيضاً من وجه آخر من حديث محمد بن إبراهيم عن أبي صالح عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكره من فعله ولم يذكره من قوله، وهذا الحديث جزم بنكارته وضعفه غير واحد من العلماء، أعله الإمام أحمد رحمه الله كما نقل ذلك عنه الأثرم فيما نقله ابن عبد البر رحمه الله في كتابه التمهيد.
وكذلك قد أعله شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فقال: هذا حديث باطل ليس بصحيح، يعني: الأمر بالاضطجاع بعد ركعتي الفجر، ظاهر الإسناد الحسن أو الصحة, وذلك أن هذا الحديث يرويه عبد الواحد بن زياد وأحاديثه جيدة وهو في ذاته مستقيم، يروي هذا عن سليمان بن مهران الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة ، ولكن إنما أخذنا النكارة, وهذا ما ينبغي أن ينتبه إليه أن ثمة عللاً دقيقة في هذا الحديث.
أن هذا الحديث جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بصيغة الأمر والثابت عنه عليه الصلاة والسلام الفعل، وهذه العلة الأولى، وذلك أن النبي عليه الصلاة والسلام كما في حديث عائشة وهو في الصحيحين أنها قالت: ( كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل فإذا أوتر فإن كنت مستيقظة حدثني وإلا اضطجع على شقه الأيمن بعد ركعتي الفجر ) ، وهذا من فعل النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن الأمر قد جاء من زيادة عبد الواحد بن زياد .
ولهذا في هذه الطبقة المتأخرة وفي تفرد عبد الواحد بن زياد وهي العلة الثانية في هذا الحديث عن سليمان الأعمش، وعبد الواحد بن زياد ليس من الرواة المكثرين، والأئمة عليهم رحمة الله يتحفظون بمفاريد الراوي المقل وكيف وقد جمع عبد الواحد بن زياد مع قلة حديثه تأخر طبقته؟ و عبد الواحد بن زياد من الطبقة المتأخرة، ومفاريده مفاريد مثل هذه الطبقة مما لا يقبلها العلماء.
ومن العلل أيضاً: أن عبد الواحد بن زياد بصري، وعناية البصريين والكوفيين بفقه الحديث أكثر من عنايتهم بروايته؛ ولهذا ربما يروون الحديث على غير وجهه من معنى تبادر إلى ذهنهم، فهذا الحديث وهو حديث الاضطجاع بعد ركعتي الفجر هو جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام فعلاً، لكن لما كان عبد الواحد بن زياد من المقلين بالرواية وليس أيضاً من المشهورين بالفقه فليس ممن ينقل عنه الفقه من البصريين، كان مع قلة الفقه كذلك أيضاً قلة الرواية فإنه لم يفرق بين رواية الحديث بالفعل وروايته بالقول، فأوجد معنى جديداً في هذا.
ولهذا نقول: إن بعض الفقهاء أخذاً بظاهر رواية عبد الواحد بن زياد قال بوجوب الاضطجاع بعد ركعتي الفجر، وهو قول ابن حزم الأندلسي رحمه الله، وذهب بعض العلماء إلى أن الاضطجاع بعد ركعتي الفجر ليس من السنة أصلاً وإنما كان يفعلها النبي استراحة بعد قيام الليل، فكان يصلي من الليل فإذا أوتر انتظر ثم صلى ركعتين فإن كانت عائشة مستيقظة وإلا اضطجع، ولو كانت سنة لفعلها النبي عليه الصلاة والسلام وما نظر إلى عائشة أمستيقظة هي أم لا؟ ولهذا عائشة قيدت الضجعة بعدم استيقاظها وأنها إذا كانت مستيقظة تحدث إليها وإذا لم تكن مستيقظة فإن النبي صلى الله عليه وسلم يضطجع على شقه الأيمن.
ولهذا الإمام أحمد رحمه الله يقول: هذا الحديث لا يرويه إلا عبد الواحد بن زياد عن الأعمش ، وقال عليه رحمة الله في رواية: هذا ليس بذاك، يعني: حديث أبي هريرة عليه رضوان الله تعالى في الأمر، وهذا الخلاف الذي نشأ في كلام العلماء عليهم رحمة الله في أمثال هذا الفهم لحديث أبي هريرة إنما نشأ بهذا الوهم الذي طرأ على عبد الواحد بن زياد في روايته عن الأعمش .
ثم أيضاً أن عبد الواحد بن زياد في روايته عن الأعمش عن أبي صالح خالفه سهيل بن أبي صالح ، و سهيل بن أبي صالح هو أوثق بالرواية عن أبيه، فروى هذا الحديث سهيل عن أبيه عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من فعله، وما ذكر ذلك أمراً من قوله.
وبعض المحدثين يجعل سهيلاً يخالف الأعمش ، و سهيل لم يخالف الأعمش وإنما خالف رواية عبد الواحد بن زياد في روايته عن سليمان الأعمش وذلك أن من القواعد عندنا أن الحديث إذا روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجه ثم خولف أحد الرواة فيه فوجدنا أن الراوي الذي خولف ثقة حافظ ويوجد في الإسناد من هو دونه ولكن في غير هذه الطبقة فنلحق العلة بالضعيف أو من دون ذلك الثقة باعتبار أنه أقرب إلى الوهم، كما ألحقنا هنا التفرد. وألحق الإمام أحمد رحمه الله الوهم هنا في عبد الواحد بن زياد في روايته عن الأعمش مع أن ظاهر المخالفة أن الأعمش يعتبر قريناً لـــــسهيل بن أبي صالح في روايته عن أبي صالح .
العلة الأخرى في هذا: أن عبد الواحد بن زياد مما يخطئ في صيغ السماع ويجعل ما ليس مسموعاً يجعله مسموعاً، كما نقل ذلك أبو داود الطيالسي رحمه الله عنه فقال: عبد الواحد بن زياد يحدث عن الأعمش ما يرسله يجعله موصولاً، أي: ما يرسله الأعمش يجعله موصولاً؛ ولهذا الإمام أحمد رحمه الله في أحد أقواله يقول: هذا حديث مرسل، يعني: حديث أبي هريرة في الأمر.
ولكن من العلماء من قال: إن الإرسال في ذلك هو بين أبي صالح وبين أبي هريرة ، ومن العلماء من قال: إنه كان بين الأعمش وبين أبي صالح . ذكر ابن المنذر رحمه الله أن الإرسال بين أبي صالح وبين الأعمش ، وذكر أبو بكر بن العربي أن الإرسال في موضعين: أن الإرسال بين الأعمش و أبي صالح ، وبين أبي صالح و أبي هريرة عليهم رضوان الله.
ثم أيضاً وهذا من العلل أن عبد الواحد بن زياد وإن كان بصرياً إلا أنه من المقلين بالرواية عن البصريين والكوفيين؛ ولهذا يقول يحيى بن سعيد القطان : لم نر عبد الواحد بن زياد يحدث أو يطلب حديثاً واحداً في البصرة والكوفة، ثم أيضاً إن عبد الواحد بن زياد يخطئ في حديثه عن الأعمش كما قال ذلك يحيى بن سعيد القطان رحمه الله فقال: كنا نجلس كما كنا نجلس عند بابه بعد صلاة الجمعة ونسأله عن حديث الأعمش فلم يكن يعرف منه شيئاً، وبهذا نعلم أن الوهم إنما هو من عبد الواحد بن زياد .
فبعض الحفاظ ينظر إلى حال عبد الواحد بن زياد في ذاته وتوثيق العلماء له، فالعلماء يوثقونه في ذاته ولكن ينبغي أن ننظر إلى عدة اعتبارات: من هذه الاعتبارات في مخالفة عبد الواحد بن زياد لغيره، وقد خالف هنا من هم أولى منه، وأن ننظر أيضاً لمفاريده فيما يأتي في هذه المعاني، ومفاريده هنا ظاهرة في الأمر بالاضطجاع بعد ركعتي الفجر، ومعلوم أن الأمر بالاضطجاع بعد ركعتي الفجر إما أن يكون على سبيل الوجوب، وإما أن يكون على سبيل التأكيد، أي: أن يكون من السنن المتأكدة.
ومثل هذا لا ينبغي أن يتفرد فيه عبد الواحد بن زياد بمثل هذا الإسناد فضلاً عن أن يأتي هذا الحديث في البصرة قبل أن يأتي مثل الحديث في البصرة بمثل هذه الطبقة، والعلماء عليهم رحمة الله لا يقبلون مثل هذه المفاريد إذا كان لا يوجد لها أصل في مكة والمدينة، والمعلوم أيضاً من فعل النبي عليه الصلاة والسلام أنه كان يفعل ذلك عادة واستراحة ولم يكن يفعلها تعبداً؛ ولهذا كان ابن عمر عليه رضوان الله ينهى من يضطجع بعد ركعتي الفجر في المسجد ويقول: هي بدعة. وقد جاء عن بعض السلف فعلها واستحبابها، وتبقى هي أيضاً من مسائل الاجتهاد في سنيتها لا بالأمر بها.
كذلك أيضاً من قرائن الإعلال: أن البخاري و مسلم قد أخرجا الاضطجاع من حديث عروة عن عائشة عليها رضوان الله تعالى أنها قالت: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل قال: فإذا صلى ركعتي الفجر فإن كنت مستيقظة تحدث إلي وإلا اضطجع ) ، فأخرجا الفعل وما أخرجا القول.
ومن شروط البخاري في إيراد الحديث أن يورد في الباب الأصح والأصرح، فإذا أخرج البخاري و مسلم في باب من الأبواب ما هو دون ذلك صراحة وصحة فإن هذا أمارة على علة ما كان صريحاً في غير الصحيحين؛ ولهذا في حديث الاضطجاع في حديث عائشة عليها رضوان الله هل هو صريح في سنية اضطجاع؟ وأيها أصرح حديث أبي هريرة أو حديث عائشة ؟ حديث أبي هريرة ، ولماذا تنكبه؟ هذا على معنى النكارة؛ لأن من شروط البخاري و مسلم في الباب أن يورد أصرح الأدلة في بابه، ولما كان حديث أبي هريرة أصرح في الدلالة وما أخرجاه دل على أن هذا الحديث ليس على شرطهما بل هو معلول.
ثم أيضاً وهذا من آثار إعلال الأحاديث أو روايتها بغير وجهها أن العراقيين يعرفون برواية الحديث بالمعنى فربما رووه وتغير معناه، فـــــعبد الواحد بن زياد بصري فروى الحديث بالمعنى في ظنه ولم يتعمد لأنه ثقة في ذاته, فرواه عن الأعمش وجعله من أمر النبي صلى الله عليه وسلم فانقلب معناه من فعل مجرد يحتمل العادة ويحتمل العبادة إلى عبادة محضة؛ ولهذا وجد عند الكوفيين والبصريين من المتأخرين من يقول بتأكيد الاضطجاع بعد ركعتي الفجر.
ثم أيضاً وهذا من وجوه الإعلال: أن مثل هذا الحكم لو كان مدنياً لابتغينا له عدداً من الطرق؛ لأن مثل هذا الفعل عن النبي صلى الله عليه وسلم أو التأكيد بالاضطجاع قال: فليضطجع لاحتجنا إلى ما هو أوسع من ذلك وجوهاً، فيأتي من حديث عائشة ، ويأتي من حديث أم سلمة ، ويأتي مثلاً من حديث أنس ، ويأتي من حديث ابن عمر وهكذا؛ لأن مثل ذلك أمر يتكرر كل يوم.
وتقدم معنا أن الأعمال المتكررة في عمل الناس إذا كان ذلك على سبيل التأكيد والأمر وجب أن تتعدد الطرق، فإذا كان حديث أبي هريرة عليه رضوان الله في الأمر بالاضطجاع بعد ركعتي الفجر على ظاهره نقول: لو كان مدنياً لوجب علينا أن نطلب له طرقاً متعددة، فكيف وهو بعيد عن الحجاز؟! ولهذا نقول: إن هذا الحديث منكر، بل جزم شيخ الإسلام ابن تيمية فيما نقل عنه ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد قال: هذا الحديث باطل وليس بصحيح.
وإذا نظرنا في كلام المتأخرين وعامة المخرجين نجد أنهم يحكمون على هذا الحديث بالصحة بالنظر إلى ظاهر الإسناد، وظاهر الإسناد في رواية عبد الواحد بن زياد عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة هؤلاء من الثقات، ولكن الأئمة عليهم رحمة الله نظرهم دقيق في مسائل العلل، فيحكمون على حديث بعلة قد تكون ظاهرة وقد تكون خفية؛ ولهذا من نظر إلى عبارة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وهي من أشد العبارات إطلاقاً في هذا الحديث في قوله: هذا حديث باطل، وهذا من فقهه رحمه الله ومن دقة نظره في أبواب العلل، ولو جرى أخذاً على طريقة المتأخرين في الحكم على الأحاديث لكان ممن يقول بالعمل بهذا الحديث، أو كان على الأقل يقول بصحته ويصرفه من جهة العمل.
وثمة قرائن دقيقة هي أدق من هذا فعمل الخلفاء الراشدين لهذا لم يكن معروفاً في عملهم وهم أقرب الناس اقتداءً أيضاً فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخالطهم وهم أقرب الناس إليه في غزواته وأسفاره وفي حجه عليه الصلاة والسلام ومع ذلك ما نقلوا ذلك عنه عليه الصلاة والسلام. وكما تقدم هو المعروف من فعل النبي عليه الصلاة والسلام.
جاء في حديث عبد الله بن عباس عليه رضوان الله في مبيته عند خالته ميمونة وهذا قد يدخل في باب هذه الأحاديث من وجه وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم اضطجع بعد ركعتي الفجر، وهذا غلط لأنه جاء من حديث رجل رواه البيهقي من حديث رجل عن سعيد بن جبير عن عبد الله بن عباس، وهذه الرواية منكرة، فجعل ضجعة النبي صلى الله عليه وسلم بعد ركعتي الفجر.
والصواب: أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما اضطجع بعد قيام الليل وفي أثنائه، اضطجع بعد قيام الليل قبل ركعتي الفجر، وهذا هو الأصح في حديث كريب مولى عبد الله بن عباس عن عبد الله بن عباس في قصة مبيت النبي صلى الله عليه وسلم عند خالته ميمونة .
وبهذا نقول: إن تلك الرواية التي ذكرها البيهقي رحمه الله في كتابه السنن من حديث رجل عن سعيد بن جبير عن عبد الله بن عباس أنها لا تصح، وبعض العلماء يرد بحديث عبد الله بن عباس حديث عبد الواحد بن زياد ، فنقول: حديث عبد الله بن عباس منكر أصلاً؛ لأن الضجعة رويت على غير وجه، والإسناد فيه جهالة، ولسنا بحاجة إلى جعل حديث عبد الله بن عباس يعل حديث عبد الواحد بن زياد باعتبار أن حديث عبد الله بن عباس خطأ ورواية سعيد بن جبير عن عبد الله بن عباس في جعل الضجعة بعد ركعتي الفجر خطأ، وحديث عبد الواحد بن زياد هو خطأ لدلالات متعددة في هذا الباب.
و ابن حزم الأندلسي رحمه الله يقول بوجوب الاضطجاع بعد ركعتي الفجر، ويستدل بهذا الحديث حديث أبي هريرة عليه رضوان الله تعالى، والخلاف الفقهي في هذا قد تكلم بما لا مزيد عليه ابن القيم رحمه الله في كتابه زاد المعاد, وذكر من جاء عنه القول بالسنية ومن قال بأن هذا عادة.
وقد سئل الإمام أحمد رحمه الله عنها فقال: لا أفعلها، فقيل له: إن فعلها أحد، فقال: حسن، ولو كانت عند الإمام أحمد رحمه الله لما قال لم أفعلها مع حرصه على السنة، ثم أيضاً ما قال لو فعلها لقال حسن يعني: أنه يقتدي ومجرد الفعل ولو كانت عبادة لقال: إنها سنة.
ومعلوم منهج الإمام أحمد رحمه الله في الإتباع وتقوية الأحاديث، ثم لو ثبت عنده حديث أبي هريرة عليه رضوان الله تعالى لقال به، وقد جاء الإنكار له من عدة روايات، جاء من رواية أبي طالب عنه، وجاء أيضاً من رواية المروزي عن الإمام أحمد رحمه الله.
الحديث الثاني: هو حديث قيس قال: ( صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الفجر, ثم قمت فرآني أصلي ركعتين, فقال النبي صلى الله عليه وسلم بعد انقضاء الصلاة: أصلاتين معاً؟ قال: فقلت يا رسول الله! إني لم أصل ركعتي الفجر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فلا إذاً )، يعني: صليها.
هذا الحديث رواه الإمام أحمد في كتابه السنن، و أبو داود ، و الترمذي ، و النسائي ، و ابن ماجه من وجوه متعددة، جاء من حديث سعد بن سعيد وهو أخو يحيى بن سعيد الأنصاري ، سعد بن سعيد عن محمد بن إبراهيم عن قيس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الحديث حديث معلول, وهو معلول بعدة علل: معلول بالانقطاع, فإن محمد بن إبراهيم لم يسمعه من قيس ، وسعد بن سعيد قد ضعفه بعض العلماء، ضعفه الإمام أحمد رحمه الله، وكذلك جرحه ابن حبان فقال: لا يحتج به، وقال: لا يحل الاحتجاج به، وقال النسائي : ليس بالقوي، وقال يحيى بن معين : ليس به بأس، وقول يحيى بن معين ليس به بأس أو لا أرى به بأساً، يحيى بن معين رحمه الله وكذلك أيضاً وهذا منهج عند ابن عدي رحمه الله أن إطلاقهما على بعض الرواة أنه ليس به بأس أننا إذا وجدنا هذا يخالف كلام الأئمة في الجرح فإنهم يريدون بذلك أنه لا يتعمد الكذب، فليس تعديلاً محضاً، فتحمل على التعديل تارة وتحمل على الجرح تارة، بحسب كلام العلماء في ذلك الراوي.
ثم أيضاً إن هذا الحديث قد اختلف في وصله وإرساله، فجاء من حديث سعد بن سعيد عن محمد بن إبراهيم عن قيس ، وجاء أيضاً مرسلاً من حديث سعد بن سعيد عن محمد بن إبراهيم مرسلاً عن النبي عليه الصلاة والسلام فلم يذكر فيه قيساً ، ذكره الترمذي رحمه الله في كتابه السنن.
وقد أعله بالانقطاع كما تقدم بأن محمد بن إبراهيم لم يسمعه من قيس الإمام أحمد و الترمذي فإن الترمذي قال: ليس إسناده بالمتصل، وهذا الحديث جاء أيضاً من وجه آخر رواه عبد ربه بن سعيد و يحيى بن سعيد أبناء سعيد الأنصاري ، يحيى بن سعيد الأنصاري وأخوه عبد ربه يرويانه عن سعيد ، وهذا الحديث رووه هكذا وظاهره الإعضال، لكنه جاء من وجه آخر موصولاً، جاء من حديث أسد بن موسى عن الليث عن يحيى بن سعيد عن أبيه عن جده قيس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
هذا الحديث تفرد بوصله ورفعه هكذا أسد بن موسى ، وهذا الحديث من مفاريده وغرائبه، جزم بذلك ابن منده رحمة الله، وقال تفرد به أسد بن موسى عن الليث عن يحيى بن سعيد ولم يروه غيره وهو غريب.
ولدينا من القرائن القوية: أن الراوي إذا تفرد بوصل حديث وهو متأخر وخالفه غيره بالإرسال أن المتأخر في ذلك لا يحتمل منه خاصة في طبقة متأخرة كحال أسد بن موسى ، فالأئمة عليهم رحمة الله لا يحملون منه مفاريد كيف لو انفرد بوصل وقد أرسل غيره ذلك الحديث؟
ولهذا نقول: إن وصل هذا الحديث من هذا الطريق من حديث أسد بن موسى عن الليث عن يحيى بن سعيد عن أبيه عن جده، فنقول: إن هذا الحديث من هذا الوجه مما لا يقبله العلماء، وقد أخرجه ابن حبان ، و ابن خزيمة ، و الحاكم من حديث أسد بن موسى من هذا الوجه وصححاه، وعمدة من صححه من المتأخرين هذا الوجه، فيصححون حديث قيس من هذا الطريق ويجعلونه عمدة في صلاة ركعتي الفجر بعد صلاة الفجر لمن فاتته، فيجعلان هذا الحديث في قضاء ركعتي الفجر بعد صلاة الفجر لمن فاتته وهو حديث منكر.
جاء هذا الحديث من وجه آخر من حديث أبي قيس عن محمد بن إبراهيم عن قيس رواه الشافعي رحمه الله، بعض العلماء يقول: إن هذه متابعة لـــــسعد بن سعيد ، ولكن نقول: إن أبا قيس هو سعد بن سعيد ؛ لأن سعد بن سعيد جده قيس وهو الصحابي الذي وقعت منه ذلك، فتكنيته بـــــقيس وهو جده ظاهر فإن الرواة يتكنون أو يفتخرون بأجدادهم من الصحابة؛ ولهذا ينتسب كثير من الرواة مثلاً إلى العمري كونه يرجع إلى نسب مثل عمرو بن العاص ، عمر بن الخطاب وغيرهم، وكذلك أيضاً ما جاء عن بعض الصحابة عليهم رضوان الله تعالى انتساباً إليهم فيتكنون بكنى أجدادهم من الصحابة، وهذا هو الظاهر.
فإن الشافعي رحمه الله رواه في كتاب الأم من حديث سفيان بن عيينة عن أبي قيس عن محمد بن إبراهيم عن قيس ، ثم أيضاً إن العلة فيه باقية ورواية محمد بن إبراهيم عن قيس فإنه لم يسمع منه على ما تقدم الكلام عليه.
جاء هذا الحديث من وجه آخر أيضاً من حديث الحسن بن ذكوان عن عطاء بن أبي رباح قال: أخبرني رجل من الأنصار أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم فذكر الخبر، وهذا الحديث لا يصح أيضاً, والرجل الذي حدث عطاء فيما يظهر لي أنه سعد بن سعيد ؛ لأن عطاء هو من رواة الحديث عن سعد بن سعيد عن محمد بن كثير عن قيس ، من رواة هذا الحديث عن سعد بن سعيد كما نقله الترمذي رحمه الله. وبعض العلماء يجعل هذا طريقاً آخر للحديث، يجعله طريقاً آخر يعضده به، ولكن عطاء قد روى هذا الحديث عن سعد بن سعيد كما نقله الترمذي رحمه الله في كتابه السنن.
ولهذا نقول: إن هذا الحديث مداره على سعد بن سعيد موصولاً ولا يصح، وبهذا نقول: إن حديث قيس في صلاة الركعتين بعد صلاة الفريضة لمن فاتته لم يثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام.
الحديث الثالث: هو حديث أبي هريرة عليه رضوان الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( من فاتته ركعتي الفجر فليصليهما بعد طلوع الشمس أو فليقضيهما بعد طلوع الشمس ).
هذا الحديث جاء عن أبي هريرة من حديث عمرو بن عاصم عن همام عن قتادة عن أبي النضر عن بشير بن نهيك عن أبي هريرة عليه رضوان الله، وهذا الحديث حديث تفرد به عمرو بن عاصم وإن كان ثقة إلا أن طبقته متأخرة، ولا يعرف إلا من هذا الوجه كما قال ذلك الترمذي وحكم عليه بالنكارة ابن رجب رحمه الله في الفتح.
ثم إن هذا الحديث قد وهم في لفظه وروي على غير ما لفظ، فجاء من فاتته ركعتي الفجر قبل أن تطلع الشمس يقضيهما، وجاء في رواية: ( فليقضيهما بعد طلوع الشمس )، وهذا اضطراب، وحديث أبي هريرة عليه رضوان الله بهذا اللفظ تفرد به عمرو بن عاصم .
وبهذا نقول: إن قضاء ركعتي الفجر لم يثبت فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر إلا ما جاء في حديث عمران وغيره في صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتي الفجر قبل صلاة الفجر حينما نام عليه الصلاة والسلام عن صلاة الفجر في غزوة تبوك فصلى ركعتي الفجر ثم صلى الفريضة بعدها.
ويبقى هنا لدينا مسألة وهي مسألة قضاء الركعتين بعد الفجر هل الإنسان يقضيها بعد الصلاة أو يقضيها بعد طلوع الشمس؟ نقول: إنه لا يثبت في هذا عن النبي عليه الصلاة والسلام شيء ولو صلاها الإنسان بعد ركعتي الفجر فقد جاء هذا عن بعض السلف، ولو صلاها بعد طلوع الشمس فقد جاء عن بعضهم أيضاً، ولكن ذلك لم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الحديث الرابع: حديث عائشة عليها رضوان الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا توتروا بثلاث فتشبهوا النافلة بالفريضة ).
هذا الحديث جاء مرفوعاً وموقوفاً، جاء من حديث أبي سلمة ، و الأعرج عن أبي هريرة و عائشة ، وجاء مرفوعاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاء موقوفاً من حديث عراك بن مالك عن أبي هريرة موقوفاً، وهذا هو الصواب.
وثمة أحاديث في الباب جاءت على سبيل العموم بأن النبي صلى الله عليه وسلم أوتر بثلاث وهي أحاديث صحيحة ومشتهرة، ولكن الإشكال في مسألة الجلوس هل يجلس الإنسان وهو يشبه بها أو يقوم يصل الثلاث بغير جلوس؟ بعض العلماء حمل النهي الوارد هنا بالجلوس أن يجلس الإنسان كهيئة صلاة المغرب.
لدينا مسألة: وهي أيضاً أحسبها مهمة ويغفل عنها كثير من طلاب العلم: وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ بسبح، و قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ [الكافرون:1] ، و قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1] ، في وتره، هذا في الثلاث المتصلة لا في الركعتين والوتر بعدهما، ويشيع عند كثير من الناس وطلاب العلم وربما علماء يصلون ركعتين يقرءون بـــــ(ـــسبح)، و قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ [الكافرون:1] ، ثم يسلمون ثم يقرءون قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1] ، فهل هذه تابعة لتلك؟ لا، منفصلة عنها، هذا أوتر بواحدة أو أوتر بثلاث؟ أوتر بواحدة.
إذاً: تلك الركعتين هل هي من الوتر؟ ليست من الوتر، إذاً: قراءة سبح، و قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ [الكافرون:1] فيها جاءت على الوجه المشروع عن النبي عليه الصلاة والسلام؟ لا، ما جاءت على الوجه المشروع، إما أن تصل الثلاث وتقرأ، وإما أن تفصل ولا تقرأ؛ ولهذا يخلطون بين النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يصلي ركعتين خفيفتين وبين أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ بسبح و قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ [الكافرون:1] ، و قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1]، نقول: قرأ هذه السور الثلاث في ثلاث ركعات متصلات، وإذا فصل لم تصبح التي قبلها تابعة للوتر ليست من الوتر وإنما هي من شفع الليل، وإنما هي من قيام الليل.
ومن الأخطاء أيضاً أنهم يسمون هاتين الركعتين شفع، وما بعدها وتر، ولا يوجد شيء اسمه شفع بمثل هذه الصورة، صلاة الليل كلها شفع ولكنها تختلف طولاً وتختلف قصراً، ثم يأتي بعد ذلك صلاة الوتر؛ ولهذا العمل الذي يشيع عند كثير من الأئمة أو أكثر الأئمة من قراءة هاتين السورتين ثم التسليم، ثم صلاة ركعة واحدة وقراءة سورة الفاتحة فيها هذا خلاف السنة فيما أراه.
والسنة في ذلك أن يقرأ في ركعتين خفيفتين على ما توقف قبل ذلك في قيام الليل إذا كان يقرأ ورده أو حزبه من الليل ثم في آخر ركعتين إذا كان يقرأ مثلاً وجهين أو يقرأ وجه ونحو ذلك يقرأ ثلاث آيات أو أربع آيات ثم يصلي ثم الركعة التي تليها، ثم بعد ذلك يقرأ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1] في ركعة، وإذا أراد أن يجمعهما يقرأ بهذه الصور فيكون هذا الوتر منفك ومنفصل عن صلاة الليل الماضية وبالله التوفيق.
وعوداً على ما سبق هناك سؤال يقول: ما هو الضابط في فعل النبي عليه الصلاة والسلام في عادة أو عبادة؟ نقول: لدينا أمر وهو أن أفعال النبي عليه الصلاة والسلام ثلاثة أقسام:
القسم الأول: فعل العبادة وهذا هو الأصل، فالأصل في أفعاله العبادة.
القسم الثاني: فعل العادة، فعل العادة الذي يشترك معه غيره، وهذا إنما أخرجناه لأنه اشترك مع فعل النبي غيره من الناس، وذلك كاللباس، فالإنسان يلبس لباساً ويلبسه غيره من الناس كالإزار والرداء والعمامة، والنعال أو الصندل، أو غيرها مما كان النبي عليه الصلاة والسلام يلبسها، فنقول: في مثل هذا هي من أفعال العادة.
القسم الثالث: فعل جبلة يفعله الإنسان جبلة لا إرادة له في ذلك وذلك كاشتهاء نوع من الطعام، أو طريقة المشي ونحو ذلك، فهذا يفطر عليها الإنسان؛ لهذا الإنسان لا يمكن أن يتكلف شهوة طعام لا تحبه نفسه، فأصناف الطعام لا يختارها الإنسان وهي موجودة مركبة فيه، يحب هذا النوع ولا يحب هذا، فيختلف فتجد مثلاً أخوين من بطن واحد هذا يحب هذا وهذا يكره هذا، هكذا تجبل النفوس على هذا.
ولهذا مما يدخل في هذا الباب من استحباب, النبي عليه الصلاة والسلام أكله من طعام معين وعدم أكله من طعام معين، ويخرج من هذا ما استحبه النبي بنص مستقل كالتمر، فالنبي عليه الصلاة والسلام فضل التمر في أحاديث كثيرة سواء جنس التمر أو عدد الأكلات أو عدد التمرات، فنقول: هذا قد خرج بدليل مستقل.
ولهذا نقول: إن فعل النبي عليه الصلاة والسلام في اضطجاعه هذا من فعل العادة، والإنسان يضطجع ليستريح إما أن يكون مثلاً بعد قيام طويل، أو بعد عناء، أو نحو ذلك فيضطجع في هذا، فيخرجه من الحكم من فعل العادة إذا وجد نص حث على هذا، لو صح حديث عبد الواحد بن زياد لقلنا به.
الأمر الثاني: يخرجه من هذا التكرر المستديم قصداً، أي: يتقصد مثل هذا الشيء، فإذا تقصد مثل هذا الشيء فنقول به، أو جاء أمر مخصوص به بعينه، مثلاً: قلنا باللباس أنه من أفعال العادات، يأتينا شخص يقول: إذاً الإسبال جائز، وتقصير الثوب تشميره عادة، هل يصح هذا؟ لا؛ لأنه أخرجه النص، والنص عن النبي عليه الصلاة والسلام في النهي عن الإسبال، وفي قوله: ( أزرة المؤمن نصف الساق, ولا بأس أن يبينه ما بين الكعبين )، وقول النبي عليه الصلاة والسلام: ( ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار ) . إذاً: خرج من هذه الدائرة.
لكن لو جعل النقل خاصاً بأن النبي عليه الصلاة والسلام لبس إزاراً، لبس رداءً، لبس عمامة، كان إزاره على كذا، فهذا نقول: من أمور العادات، ولكن جاء نص أخرجها من ذلك الحكم، فجاءت أحكام في الألبسة استثنى ذلك الأمر النهي عن لبس الحرير في نفس النهي عن الإسبال، النهي عن لباس الشهرة، وغير ذلك من أمور الألبسة كلبس الذهب والفضة للرجال وغيرها من الأحكام.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر