يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71]
أما بعد.. فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
فقد كان من خبر موسى عليه السلام أنه لما انكشف أمره، أنه هو الذي قتل القبطي، وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ [القصص:20]* فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ [القصص:21]، الفاء في قوله تعالى:(فَخَرَجَ).. فيها دلالة على المبادرة بالخروج. بمعنى أنه خرج بلا زاد، بلا أهبة استعداد، خرج بلا دليل يدله، وما بين مصر ومدين مسيرة ثمانية أيام، خرج على الفور، خرج جائعاً، طريداً، خائفاً، ولذلك قال الله عز وجل: وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ [القصص:22]، هو عار من قوى الأرض كلها، عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ [القصص:22]؛ لم تكن له عدة على الإطلاق، إنما خرج فاراً ناجياً بنفسه، وفي قوله تعالى: (تِلْقَاءَ مَدْيَنَ).. فيه دلالة على أنه لم يكن يعرف أين يتوجه؟! إنما خرج هارباً، ما قصد بلداً بعينه، وهذا واضح من كلمة تلقاء. تلقاء: أي في تلقائية، ليس هناك ترتيب، إنما خرج هارباً، وهذا أدعى للحيرة، وهو المناسب للخروج بلا عدة ولا ترتيب. فتصور رجلاً خرج بلا أي زاد، ولا يدري إلى أين يذهب، يحمله ليل ويحطه نهار، مثل هذا الذي صنعه الله عز وجل على عينه لا يكون معتمداً بقلبه إلا على الله، إنني أقول ذلك لتعيش هذا الدور، ولتعلم أن الذي يتوجه إلى الله عز وجل بقلبه فإنه لا يخيبه، إنك لو قصدت رجلاً شريفاً نبيلاً، وقلت له: احمني فإنه لا يسلمك إلى عدوك؛ لأن هذا هو المناسب لكرمه وحلمه ونبله وشرفه. لما خرج سفيان الثوري رحمه الله هارباً من الخليفة، لقيه أحد عمال الخليفة، وكان رجلاً جواداً كريماً اسمه معن بن زائدة ، فلما لقيه معنٌ وكان لا يعرفه، قال له: من أنت، قال: أنا عبد الله بن عبد الرحمن، فقال: نشدتك الله لما انتسبت إلي؛ لأنه بإمكان أي واحد في الدنيا أن يقول: أنا عبد الله بن عبد الرحمن، فناشده الله أن ينسب نفسه، فقال: أنا سفيان ، ومعلوم أن سفيان الثوري آنذاك كل الناس تبحث عنه، قال: أنا سفيان ، قال: سفيان بن سعيد ، قال: نعم. وكان من المفروض أن يقبض عليه، ومعن بن زائدة أحد عمال الخليفة، يعني بمثابة المحافظ الآن. فقال له: خذ أي طريق شئت، فوالله لو كنت تحت قدمي ما رفعتها.. يعني: أنا لا أسلمك. وهكذا جرت سنة الرجال النبلاء، فكيف برب العالمين!! قال صلى الله عليه وسلم: (لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله)، حسن الظن بالله عز وجل يقوي القلب على العمل.
لأنك تعلم أنه يقوي ضعفك وأنه محيط بعبيده، وأنه ذو القوة المتين. فالذي خرج بتلقائية بلا إعداد ولا ترتيب: قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ [القصص:22]، دخل مدين بعد ثمانية أيام، لم يكن له طعام في هذا السفر الطويل إلا ورق الشجر، قلنا: خرج بلا زاد، إذاً: دخل مدين وهو مكدود، متعب، مجهود، يتمنى الراحة، خرج خائفاً يطلب الأمن وهو لا يدري ما تخبئ له المقادير، خرج هذا الإنسان فاراً من الخوف فوقع في خطب أعظم مما فر منه؛ لأنه لا يدري ما يخبئ له القدر. فلما دخل مدين وجد أمة من الناس، أي: خلق كثيرون: وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ [القصص:23]، تذود: أي: تكف الغنم عن البئر. هذا يوم الورد، أي ورد الماشية على السقيا، وكل رجل من هؤلاء الرجال معه غنم ومعه بهائم، والكل حريص على أن يسقي ويرجع، والكل يتزاحم، لكنه وجد امرأتين تذودان الأغنام حتى لا تختلط بأغنام القوم: قَالَ مَا خَطْبُكُمَا [القصص:23]، لاحظ كلامه: قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ [القصص:23].
وهنا تظهر العضلات!! والشجاعة ما خطبكما؟ والمرأة الحرة لا تخالط الرجال. المرأة الحرة درة مكنونة وجوهرة مصونة، إنما يخالط الرجال الإماء اللواتي يُشترين من الأسواق، وإنما الحرة مخبأة، لا يراها أحد؛ لأنها حرة، والقائم عليها حر، فهو يستنكر أن تخرج امرأته ليراها الخلق، ولذلك قال موسى -حين رأى امرأتين حرتين تختلطان بالرجال- قال: ما خطبكما؟ الخطب الذي هو المصيبة، يعني: أيُّ مصيبة أوقعتكما حتى اختلطتما بالرجال، المرأتان كانتا مرهفتا الحس لما سمعتا: ما خطبكما؟ قالتا: وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ [القصص:23].
أخي الكريم! لست ملكاً كريماً ولست نبياً مرسلاً، ولم ينزل وحي بتأييدك، فلن تنجو من سوء الظن بك مهما كان قدرك، فلا تتلبس بالشبهات، ولا تستعلي وتقول: لا، أنا فلان الفلاني، أنا الذي يعرف الناس نبلي وقدري وديني وتقواي، لا. فرب العالمين سبحانه لم يؤمن به إلا القليل من عباده والأغلب كفروا به سبحانه وتعالى ويسبونه ليل نهار، قال الله عز وجل في الحديث الإلهي: (كذبني ابن آدم ولم يكن له أن يكذبني، ويشتمني ابن آدم ولم يكن ينبغي له أن يشتمني، فأما تكذبيه إياي فقوله: لن يعيدني كما بدأني، أوليس إعادة الخلق بأهون علي من ابتدائه وأما شتمه إياي فقوله: اتخذ الله ولداً، وأنا الله الأحد الصمد، لم أَلد ولم أُولد، ولم يكن لي كفواً أحد).. وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الروم:27]
يسبونه ليل نهار، ويشتمونه، حتى بعض الذين ينتسبون إلى الإسلام عندما تقع لأحدهم مصيبة، يقول: لماذا يا رب؟! أنا ماذا فعلت؟! لماذا اخترتني من دون الناس؟ تراه يعترض على أقدار الله وحكمته، يقول الباري عز وجل كما في الحديث القدسي: (خيري إلى العباد نازل وشرهم إليَّ صاعد).
ومع ذلك لم يسلم من ألسنة الخلق، وهو ربهم، ولا قوام لهم إلا برعايته إياهم، والنبي صلى الله عليه وسلم كفر به أكثر أهل الأرض، فلا تقل: أنا رجل محترم، أو أنا رجل لي مكانة، فتتلبس بالشبهات، وتظن أن الناس تحميك أو تدافع عنك، لا. فقد جاء في الحديث: (إن النبي صلى الله عليه وسلم كان معتكفاً فجاءته
فالمرأتان حرتان، ومن بيت كريم. ليستا ابنتي النبي شعيب كما ذهب إليه أكثر المفسرين. ليس هذا الرجل هو شعيباً النبي. لا. إنما هو رجل صالح، والدليل على ذلك أن شعيباً عليه السلام.. قال لقومه وهو يعظهم.. وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ [هود:89]، وجاءت قصة شعيب بعد قصة لوط، ولما يقول لهم: وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ [هود:89]، أي: أن هلاك قوم لوط كان قريب العهد بهم. حتى يتسنى لهم النظر والاعتبار، ولوط عليه السلام كان في زمان إبراهيم عليه السلام، قال تعالى بعدما ذكر قصة إبراهيم في سورة العنكبوت: فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ [العنكبوت:26]، ولما جاءت الملائكة إبراهيم عليه السلام وتوجهوا إلى القرية المؤتفكة ليقلبوها على من فيها، قال إبراهيم عليه السلام: إِنَّ فِيهَا لُوطًا [العنكبوت:32]، وما بين إبراهيم عليه السلام وصاحب مدين أكثر من أربعمائة عام، فالصواب أنه عبد صالح وليس شعيباً النبي، ويدل على ذلك أيضاً أنه لو كانت المرأتان ابنتي شعيب النبي لعرف أهل مدين قدرهما، وما تركوهما، إنما كانوا أعانوهما على السقيا؛ لأنهما ابنتا النبي الكريم، نبي مدين. إنما هو رجل صالح ممن آمن بشعيب عليه السلام وحمل رسالته. إذاً: المرأتان من بيت كريم سواءٌ كانتا ابنتي النبي شعيب، أو كانتا ابنتي رجل صالح، فهما من بيت كريم، بيت ملتزم، بيت يحمل لواء الدين في قرية أغلبها كفرة، فالمناسب أن لا تخرج هاتان المرأتان الحرتان إلا لضرورة.
انظروا إلى واقعنا الآن، فإنه يبعث على البكاء.
وأعداؤنا لا يتصرفون هكذا بعشوائية تلقائية. فحرب الخليج -مثلاً- هم يخططون لها من عشرين سنة، وهذا الكلام لا أخرجه من كيسي، إنما هذا في مذكرات القادة العسكريين، والساسة الغربيين، إنهم يخططون لحرب الخليج من عشرين سنة، فلو أن رجلاً قال: يا جماعة! إنهم يخططون لحربكم من مدة، لضحكوا عليه وقالوا: أنت رجل سيء الظن. مع أن كتاب: بروتوكولات حكماء صهيون، كل كلمة فيه نُفِّذت. وهذا الكتاب ترجم إلى العربية، وكأن العرب قوم لا يقرءون، وإذا قرءوا لا يفهمون، وإذا فهموا لا يعملون. والصهاينة هؤلاء، قالوا: سنفعل بالمسلمين كذا وكذا وكذا. وكل كلمة سطروها في هذا الكتاب فعلوها، فهم قوم لا يلعبون.
فخرج قاسم أمين من بلد الحريم، حيث لا يرى النساء، ولا يختلط بالنساء إلى بلد يعج بالسفور، وأول مرة يجد نساء سافرات لطيفات، خفيفات، ظريفات، يتكلمن معه، فهاب في أول الأمر، لماذا؟ لأنه ما اعتاد على ذلك، لكن سرعان ما وجد الجرأة والراحة النفسية، وأقبل على النساء بدون خوف.
تحرير المرأة لـقاسم أمين لم يصرح فيه بما يريد؛ لأنه خائف من التقاليد، ولأنه لو قال للرجال: أخرجوا نساءكم، واسمحوا لهن بالكلام مع الرجال لما سمحوا له بذلك، لماذا؟! لأن التقاليد كانت أقوى، ولما سكت عليه رجال الإسلام، قام وذكر في كتابه: تحرير المرأة. فقال مثلاً: لقد أهملنا المرأة فأهملنا تعليمها وتثقيفها، فأخرجت لنا أجيالاً ممسوخة، وقد كان على حق في هذا. فالأمة قررت فعلاً حرمان المرأة من التعليم والتثقيف، حتى كان قائلهم يقول في ذلك الزمان: إن المرأة لا تخرج إلا ثلاث مرات، المرة الأولى: من رحم أمها إلى الدنيا، والمرة الثانية: من بيت أبيها إلى بيت زوجها، والمرة الثالثة: من بيت زوجها إلى القبر.
أي شرع يقول هذا الكلام، وقد كان أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يخرجن معه في السفر، وكن نساء المسلمين يخرجن أيضاً للغزوات يسقين المسلمين، ويضمِّدن الجرحى، ويشاركن بالغزوات؟ من الذي قال: إن المرأة لا تخرج إلا ثلاث مرات؟ كانت المرأة قديماً تخرج لحاجتها؛ لأن العرب لم تكن تتخذ الكنف في البيوت، وذلك: (لما خرجت
فالمرأة ليست كما قال هذا القائل، والحق.. أن الأمة فرطت في تربية النساء فعلاً، فـقاسم أمين استغل هذا التقريط وقال: إن النساء يتكلمن في كل مكان، ولهن حق التعليم، وأنا لا أريد أن تخرج المرأة عن دينها، كما في كتابه : تحرير المرأة.
ونقل معارك الغرب إلى الشرق.
ما هي قضية المرأة في الغرب؟ إنها مسألة: المساواة في الأجور، المرأة في الغرب تعمل كالرجل جنباً إلى جنب، وتنتج نفس الإنتاج، وتشتغل نفس عدد الساعات؛ فلماذا يكون أجرها أقل من أجر كالرجل؟ هذه هي القضية التي كانت في الغرب، لكن ما هي القضية التي أثارها قاسم أمين في بلاد المسلمين بالنسبة للمرأة؟ ما هي القضية التي أراد أن ينقلها من هناك إلى بلادنا؟ هل تعرف ماذا كانت القضية؟ إنها قضية نزع الحجاب. وما علاقة الحجاب بمسألة المساواة في الأجور؟ لقد كانت الدعوى كلها قائمة على السفور، ونزع الحجاب من المرأة المسلمة، وما قرار وزير التعليم من سنتين منكم ببعيد، لما أصدر قراراً بمنع ارتداء الحجاب في المدارس، وقامت الدنيا ولم تقعد، وتراجع الوزير عن قراره، لكنه قال هذا الكلام قبل دخول المدارس بشهرين!! ماذا يعني هذا؟ يعني: لا تظن أن القرار خرج هكذا!! لا. فقبل دخول المدارس بشهرين، وفي الوقت الذي يفصل فيه أولياء الأمور الزي المدرسي للبنات، نزلت قرارات بلبس الزي، لكن الآباء فقراء، وليسوا على استعداد أن يفصلوا لبناتهم الزي المطلوب، ثم بعد ذلك يفصل لها الحجاب، وكان قد حصل الامتناع في بداية الأمر، لكن ما الذي حصل؟ حصل أنه لا بد أن يلبس البنات الزي المطلوب، ويمنعن البنات من أن يلبسن إلا خماراً واحداً، كان قبل ذلك لها أن تلبس خماراً واثنين، وكان النقاب زيادة على ذلك، فلما أصر الوزير على قراره لبسن البنات كلهن النقاب، ولبسن القميص على حسب التعليمات. وبعد ذلك يقوم الوزير ويصدر القرار بأنه ممنوع على البنت في الابتدائي أن تضع خماراً على شعرها، لماذا تمنعونها؟ قال: لأن الخمار يؤثر على عقلها: فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ [الزخرف:54]، استخفاف بالعقول كأننا لا نفهم!! امرأة تضع الحجاب على شعرها يؤثر على عقلها!! انظروا، كل شيء خالٍ من المنطق، وخالٍ من التفكير السديد.
وتكون الناظرة للمدرسة امرأة إنجليزية، كانت متشددة إلى أقصى درجات التشدد، بحيث لو خرجت البنت لمدة خمس دقائق تقوم بتحويلها للتحقيق، وتأتي بولي الأمر، وتقول له: البنت تلعب، البنت هذه أين كانت في الخمس دقائق؟ ما بعده التزام؟! فلماذا الرجل لا يسمح لابنته أن تذهب للمدرسة وهي تذهب في عربة إلى أن تصل، وتدخل المدرسة، وتقابلها ناظرة إنجليزية حازمة في التربية!! وبعد الانتهاء من الدرس تعود في عربة إلى البيت، إذاً: البنت لا تغيب عنهم طرفة عين، وفي نفس الوقت تتحصل على الآداب والعلوم، وتقرأ وتكتب وتستفيد، فما هو المانع. هكذا بدأ الأمر واستمر ثم خفت قليلاً قليلاً، وتصبح بعد ذلك الناظرة على المدرسة امرأة مصرية، وكان الآباء من كثرة اطمئنانهم على بناتهم لا يذهبون معهن إلى المدرسة، فصرنا نرى البنات زرافات ووحداناً يمشين وحدهن في الشوارع، واستمر الأمر هكذا حتى صار عرفاً عاماً، وإن الرجل الذي لم يدخل ابنته المدرسة كان ذلك عارٌ عليه، ولكن بعد أن تقضي البنت كل هذه السنوات من سن ست سنين إلى سن اثنين وعشرين سنة، وهي تدرس، وجئت بعد ذلك وقلت لها: اجلسي في البيت، تقول لك: إذاً: لماذا كنت أتعلم؟ إذا كان العلم إلا لمجرد أن أقرأ وأكتب فلا، تعلمت لأجل أن أعمل. يقولون: يجب أن تعلم المرأة حتى يكون معها سلاح. فيا ترى هل ستدخل في حرب؟! فصارت المسألة طبيعية تتعلم لتعمل، وهكذا أريد بأمتنا، حتى صار النساء إماءً في زي الحرائر، فأين نساءنا من هاتين البنتين كما في قوله تعالى:
قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ [القصص:23]. فلا تسئ الظن بنا وتقول: لماذا خرجتن من بيوتكن؟ إن الذي أخرجنا هو الضرورة القصوى: وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ [القصص:23] فأين الضرورة في خروج المرأة في عصرنا هذا؟!
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم.
أيها الإخوة الكرام! إن صلاح البنيان الاجتماعي لا يكون إلا بإعادة النظر في أمر المرأة، ولابد لكل دعوة إصلاحية من شهداء، أفلا تكون شهيداً، أفلا تكون طليعة من طلائع الفتح، إننا نحتاج إلى مراجعة أنفسنا فيما يتعلق بالنساء، إعادة النساء إلى البيوت مرة أخرى، نعلمهن كتاب الله تبارك وتعالى، وسنة النبي صلى الله عليه وسلم وكفى بهما، فالبنت لا تحتاج أن تتعلم الإنجليزي ولا الفرنسي، ولا جغرافيا، ولا تاريخ، ولا تربية قومية، ولا حساب مثلثات، ولا كيمياء، البنت لا تحتاج إلى هذا كله، لا في الدنيا ولا في الآخرة، نحن نحتاج إلى زوجات صالحات، الأمهات يعلِّمن البنات كل شيء؛ لأنهن سيكن زوجات بعد ذلك، كثير من البنات يتعثرن في بداية حياتهن الزوجية، لماذا؟ لأن الأم لم تعلمها كيف تطبخ، ولا كيف ترعى الزوج، لم تعلمها الكياسة، ولا الفطنة، ولا الذكاء، تدخل على زوجها ومعها سلاح، ولو أن المرأة معها شهادة عليا (ماجستير) أو (ليسانس)، وتقدم رجل معه دبلوم، وهو رجل صالح، ورجل فاضل، يقولون: لا. لماذا؟ لأن هناك تفاوت في الكفاءة، أي كفاءة هذه؟ لكن انظر إلى المرأة العاقلة التي تربت في البيت الملتزم فعلاً ماذا قالت؟! قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ [القصص:26]. هذه هي مواصفات الزوج الصالح، إذا ظفرت برجل قوي أمين فعلى بركة الله زوجه ولا تتوقف، أما قولهم: إنما هي داخلة ومعها سلاح ماضٍ، وهو سلاحه أقل منها، هل هم داخلون في معركة، هذا التغير الدماغي كان سببه النساء. فلا بد حينئذ من نساءٍ يعملن لله، يقلن: نحن سنرجع الأمر إلى قوامه فعلاً كما كان، فلا يسمحن لبناتهن ولا يسمحن لنسائهن، ولا لأخواتهن أن يختلطن بالرجال، فلا بد من طائفة نسائية تقوم بهذا وتفعله هذه المرأة عن رضا، وأنها نذرت نفسها لله عز وجل، وسيؤتي هذا الغرس ثماره ولو بعد حين.
الدعوى الخاصة به بدأت برحلته إلى فرنسا، ثم رجع، ودعا إلى تحرير المرأة، وإلى تعليمها، لكن العلماء هجموا عليه، فانزوى في بيته، ثم عاد إلى دعوته، أخذه السلطان، ثم خلصه سعد زغلول من يده، وقال له: أنا سأحميك، فانطلق من يومها داعياً إلى السفور والتبرج والاختلاط إلى آخر يوم من حياته كما مر معنا.
فنحن نستفيد من موقف هاتين المرأتين حيث قلن: وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ [القصص:23]: أنه لا ينبغي لأحد أن يلقي نفسه في مواطن التهم، ويعتمد على سيرته، وعلى مكانته بين الناس، فلستَ مرضياً عند كل الطوائف، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ومن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه).
وقال قبلها: (اتقوا الشبهات..) لماذا؟ لأن من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه، مهما كان قوياً.. ومهما كان أصيلاً ونبيلاً كاد أن يقع فيه، ألا وإن حمى الله محارمه.
لما قرأت مذكرات سعد زغلول ، وسعد زغلول تعرفون أنه زعيم وطني حسب زعمهم، وقاموا بتلميعه، وأنه قائد ثورة تسعة عشر، أراد هذا الرجل أن يخرج لنا ديناً ممسوخاً، إنه لا يعرف شيئاً عن الصحابة ولا التابعين ولا تابعيهم ولا أيام البطولات، عندما تقرأ في الكتب المدرسية تجد أنهم يعرضون تاريخنا بصورة مختصرة شوهاء، ليس فيها تمجيد، إنما فيها حكايات تلقى. مثلاً: كتب التاريخ عندما يتكلمون عن الجاهلية والإسلامُ، العبارة هذه حفظناها في الكتب، يقول لك: جاء الإسلامُ والجاهليةُ تَعُمُّ جزيرة العرب، فقد كانوا يشربون الخمر ويئدون البنات، ويلعبون بالميسر، هذا فقط!! يعني: الإسلام لما جاء كانت هذه هي أخلاق الجاهلية. فالجماهير عندما لا تجد وأد البنات، ولا تجد أن هناك أصناماً منصوبة تعبد. ولا تجد شرب خمر علني ولا ميسر علني، يتصورون أن الإسلام متربع في طول البلاد وعرضها، ولا يدرون أبداً أن الإسلام جاء ليحكم، فهذا غير معروف لديهم، حتى صارت مواصفات الجاهلية عند الجماهير هي: وأد البنات، وشرب الخمر، وعبادة الأصنام. وطالما أن الأصنام غير منصوبة ولا موجودة لنعبدها، فنحن على الإسلام، وتغافلوا عن إنما مسألة توحيد الألوهية، وأن الإسلام جاء ليهيمن، ويكون الحكم لله وحده، فالمسألة هذه لا يناقشونها، وحين يعرضون القضية يعرضونها بطريقة شوهاء مختصرة، ليس فيها تمجيد وليس فيها بطولات تسترعي الانتباه، فهذا العرض الذي هو لتاريخنا عندما يعرضه جاهل، ويأتي الزعماء الجدد، ويلمعون من كان خائناً لدينه وأمته، وكيف أن سعد زغلول لما نفاه الإنجليز صبر على النفي وعاد بطلاً، فحين نتتبع هذا الإنسان ونرى صفاته نرى أنه -سعد زغلول- يشرب الخمر، وكل الذين أرّخوا له اتفقوا على هذه الحقيقة. لكن اعتذر له عباس محمود العقاد وذلك بأنه كان عنده ألم في المعدة، وأن الأطباء نصحوه بشرب الخمر، هذا أحسن اعتذار عنده، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم جاءه رجل يسأله أن يتداوى بالخمر.. قال: (إنها داء وليست بدواء)، و: (إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم).
وهناك أدلة كثيرة تدل على حرمة التداوي بالخمر، فإذا حرم الله عز وجل شيئاً على الناس، فإنه لا يجعل فيه دواءً وذلك سداً للذريعة؛ لأنه قد يأتي شخص يريد أن يشرب الخمر ويقول: أنا مريض وقد نصحني الأطباء بشرب الخمرة، وإغلاقاً لباب الذريعة والتحايل لم يجعل الله شفاء الأمة فيما حرم عليها.
فلما نقرأ سيرة هؤلاء، نعلم أنهم لا يصلحون أن يكونوا قدوة، فأبناء أجيالنا متأثرون الشائعات الكاذبة والتضخيم والتلميع الذي يحصل لهذه الشخصيات، فإذا ذكر أمامك أحد هؤلاء في محل القدوة فلا تسكت ووضح للناس زيفه ومكره.
فلا بد أن نقرأ مذكرات الساسة الغربيين الذين يلعبون بنا لعب الكرة، والكلام هذا إنما يهتم به القائمون على الدعوات الإصلاحية، لا يعني ذلك أن كل الناس يذهبون ويشترون المذكرات، ويظلون يقرءون، لا. الأصل أننا نتفقه في ديننا، هذا هو الأصل، لكن الذين يدعون إلى الإصلاح لا بد أن يكونوا عالمين بأعدائهم، وبطرقهم التي يحاولون إفساد جيل المسلمين بها.
وزواج المسيار، هو أن يحضر الولي وشاهدان، وفيه إسقاط المرأة لمهرها ونفقتها، والرجل هذا ليس عليه أي مسئولية نهائياً، فالمرأة تقول: أنا أريد رجلاً فقط، أي: لا تريد أن تأكل ولا أن تشرب، تريد رجلاً يحميها، رجلاً يكون بجانبها، وعادة ما يكون هذا الرجل متزوجاً لكي لا تعلم المرأة الأولى بزواجه، وهذا الذي يحصل في الخليج والبلاد المجاورة. وهذا هو خلاصة زواج المسيار، فليس على الرجل أي مسئولية، فالمرأة تُسقط النفقة والمهر، وإذا أعطاها بعض المصروف فخير وبركة، وإن كان ليس معه مال فتقول له: أنا سأصرف على نفسي، بل هناك بعض النساء تنفق على الرجل. والرجل يقول: أنا لا أريد أولاداً منك، فتوافق على ذلك ولو أن هذه المرأة أنجبت من جراء هذا الزواج الشرعي، الذي فيه ولي وشهود، فالمرأة ستضحي؛ لأن الرجل أخلى مسئوليته ابتداءً من الأولاد، وبالتالي لا يهتم بهم، وهذا سيؤثر تأثيراً بالغ الخطورة في المجتمع فيما بعد، سيأتي أولاد ليس لهم أب يربيهم.
إذاً: زواج المسيار قائم على المتعة فقط، فإذا كان هناك زواج شرعي بولي وشهود، فسيكون مقابله مائة زواج غير شرعي، وذلك بحضور شاهدين اثنين، يقول لك: هذا على مذهب أبي حنيفة، كما هو الحاصل الآن!
إذاً: زواج المسيار حضور البنت مع الوالد مع الشهود، ويذهب الجميع إلى المحامي ويعملون عقداً، وكثير من الناس يتزوجون بهذه الطريقة، فكيف إذا كانت المرأة هي التي تعرض نفسها وتسقط حقها، فهذا مهانة كبيرة للمرأة حقيقة، فلو كانت هذه المرأة زوجة رابعة لكان أشرف لها؛ لأنها زوجة، والرجل متكفل بنفقتها وأولادها، ويقسم لها مع سائر زوجاته، ويقوم برعاية أولادها ورعايتها.
لكن هؤلاء المنحرفون كل يوم يستحدثون للنساء أشياء جديدة لم تكن معروفة من قبل ذلك، بقصد تقويض بنيات هذه الأمة.
الذي يميز هذه الأمة المسلمة أن النساء حتى الآن عندهن حياء.
وتأمل موقف المرأة مع موسى عليه السلام، فهي لم تضحك ولم تمزح معه، لكنها جاءت على استحياء: قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا [القصص:25]، إن أبي يدعوك، المرأة لم تقل: تعال لكي نجزيك، وأنت رجل أمين، وجزيت خيراً، ووجهك عليه نور، ولم تقل له: أخبرني ما حكايتك؟ لا. إنها بنت متربية ملتزمة. من بيت ملتزم والالتزام ليس في اللحية، ولا في لبس الثوب القصير، وليس معنى ذلك أن لا تعفي لحيتك، وأن تلبس الثوب المسبل، لا. الالتزام أن لا تتهجم على حكم الله، هذا هو لب الالتزام.
إذا قيل لك: افعل كذا، فافعل ما أمرت به، هذا هو حق العبودية، هذا حق الله على العبيد. قال في الحديث: (أتدري ما حق الله على العبيد؟ قال: الله ورسوله أعلم. قال: حقه أن يعبدوه لا يشركوا به)، لا في العبادة، ولا في القرارات، ولا في الأحكام، لا يشركوا به شيئاً، لا يتلقى الأوامر إلا من الله، فيُعرف قدر الإنسان وقدر التزامه بوقوفه عند الأوامر والنواهي.
فالذي يميزنا نحن الأمة المسلمة هو حياء نسائنا. وبعض الصحفيات الأمريكان اللاتي جئن إلى مصر وعشن فيها طويلة كتبن يقلن: إنهن يتمنين أن يرين في أمريكا ما رأينه في مصر، من احتجاب النساء، وعدم مخالطة النساء للرجال، وقالت إحداهن: إني رأيت في المرأة أموراً عجيبة هناك، بينما هي في الغرب مجرد سلعة، إن عملت أكلت، وإن لم تعمل لا تأكل، فيه تعمل أي عمل حتى البغي.
لكن هؤلاء الأولاد من حيث البنية الاجتماعية متحللون بسبب التربية المنحرفة، وهؤلاء الآباء لا يربون أولادهم إلا على الحرية المطلقة، وعلى استتمام الشهوات مائة بالمائة، هناك في أمريكا ممنوع على الأب ضرب ولده؛ إذا ضرب ولده فإنهم يضعونه في السجن.
هؤلاء الأولاد كلهم يحفظون هذا النظام، فلذلك تجدهم يفعلون ما يشاءون دون أي خوف، ولو أن الأب ضرب ابنه أو ابنته، واشتكى هذا الابن أو البنت إلى الشرطة، فإنهم يأتون ويقبضون على هذا الأب ويضعونه في السجن، ولا يخرجونه إلا بعد أن يأخذوا عليه تعهداً بأن لا يضرب ولده أو ابنته، فكيف يكون هذا الولد مستقبلاً؟!
وهذا الرئيس الأمريكي والفضيحة الكبيرة، لو عنده أدنى ذرة من الدم لقتل نفسه، والشعب الأمريكي كله يعتقد بأنه هو ولد زنا، والفضيحة التي عملها هي أمر عادي عندهم، وإنما أخذوا عليه كذبه عليهم فقط، ومع هذا فقد زادت شعبيته. وهؤلاء عالم لهم مقاييس عجيبة.
والشعب الأمريكي لم يؤاخذوا رئيسهم على جريمة الزنا، وإنما لماذا يكذب عليهم؟
فيأتي شخص ويكتب مقالة يمجد فيها الأمريكان، يقول لك: انظر إلى الأمريكان. الكذب عندهم جريمة نكراء، نقول: والكذب الذي يفعلونه في العالم كله، إنهم يكذبون على الحكومات وعلى الشعوب ويأكلونهم، أليس هذا كذب؟! أكل هذا صدق عندهم؟! قوم يا أخي! بلا تقاليد ولا أخلاق، حضارتهم قائمة على التهويش والبهائمية، ليس عندهم بنيان اجتماعي متماسك أبداً، هم مهتمون بسمعتهم المادية فقط، مثل الشخص الفتوة قديماً، الذي يعيش بسمعته.
عندما يذهب الرجل المسلم إلى أمريكا ليطلب الدنيا، يا لخسة ما طلب، ذهب الرجل الصعيدي إلى أمريكا يعيش هناك، فالبنت عندما جاءت بولد من الزنا، وقال لها: اخرجي من البيت ماذا صنعتِ؟ لقد قامت البنت ودفعت أباها للداخل وأرادت أن تدخل، فكل الذي فعله الرجل صاحب النخوة الصعيدي أنه دفعها إلى الخارج، قامت البنت واتصلت بالشرطة، جاءت الشرطة في لمح البصر، أخذوه، وقاموا بتعذيبه لمدة واحد وعشرين يوماً. فلما خرج الرجل طاف على كل صديقات ابنته من أجل أن يتوسطن له عند ابنته بأن تسمح له في المبيت في البيت، وتفعل الذي تريده.
قاعدة البنيان للأسر كلها قائمة على النساء، والنساء يقمن بأعظم دور، إذ الرجل لا يصلح إلا بامرأة على مذهبه، فدور النساء دور عظيم.
فالنتيجة لابد أن يصبر الرجل على المُر.
بدأت النساء يتفَرْعَنّ، تشتم الرجل وتهينه، وتقول له: إذا كنت راجلاً طلقني، وهو لا يستطيع، وهي تقولها وهي واثقة مائة بالمائة أنه لا يستطيع، فتخيل عندما يصير الرجل هكذا، والمسائل تنقلب، وتنتكس هذا الانتكاس، كيف يكون الجيل الذي يخرج؟ عندما يرى الولد أمه ويسمعها تقول لأبيه: إذا كنت رجلاً طلّقني. كيف يكون تصور الولد تجاه أبيه؟ الذي هو القدوة، الذي ينظر ويعتقد أن أباه في القمة؛ لأن أباه قدوة، ويفترض أن يكون سيداً للمرأة ولابنها، وهذا معنى كلمة البعل: أي الرجل المالك، السيد المالك. انظروا إلى مدى التغيير الخطير في البنية الاجتماعية، حسن! أليس لدينا خط دفاع مثل كريات الدم البيضاء، فكريات الدم البيضاء حين تجد الميكروبات تقوم بمقاومتها، فكريات الدم البيضاء استشهدت في المعركة ضد الجراثيم الغازية، كريات الدم البيضاء التي هي الجهاز المناعي، الجهاز المناعي لمواجهة الجراثيم والميكروبات. فهي تقتل نفسها حماية لهذا البدن. فمن الذي يتطوع، ويكون في خط الدفاع الأول؟ إنه أنت واحذر أن تستقل جهدك، وتقول: ماذا سأعمل مع كل هذه المخالفات.
فأهل مدْيَن كلهم يتزاحمون على بئر، وكل واحد عنده عدد من الغنم، ويريدون أن يسقوا حتى يعودوا، ماذا تفعل امرأة أو امرأتان في وسط هؤلاء الرجال؟ تَذُودَانِ [القصص:23]، لا يردن للغنم أن يختلطن مع الأخرى؛ لأنه لو اختلطت أغنامهما فقد تضيع الغنم: قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ [القصص:23]، وما أخرجنا إلا أن أبانا شيخٌ كبير، وهذا أيضاً من الأمارات أنه لم يكن شعيباً، لو كان شعيباً؛ لكان له مكانة عندهم، فعلى الأقل كان سيجد من الطائفة المؤمنة من يفعل ذلك..
فموسى لم يحتمل هذا المنظر؛ لأنه أبيّ النفس قام فَسَقَى لَهُمَا [القصص:24]، مكدود متعب جائع، ومع ذلك لما رأى المنظر هذا لم يتحمل، وهكذا أصحاب النفوس الأبية الكريمة، لا تبيت على الضيم طرفة عين، وتأباه فطرة وطبعاً، فَسَقَى لَهُمَا [القصص:24]، سقى لهما في وسط المجموعة هؤلاء، فما الذي فعله؟ قام موسى وأحضر البهائم وسقاهن، وهذا كان بقوة موسى عليه السلام، وكان أيضاً بالوقار والمهابة التي كانت عليه.. وفي نفس الوقت كان قوياً. يذكرون في الإسرائيليات: أن الجماعة بعدما سقوا أغنامهم قاموا كلهم ووضعوا صخرة عظيمة على فم البئر لكي لا يستطيع أن ينزعها، لكنه قام لوحده فنزع تلك الصخرة العظيمة، وسقى غنم المرأتين، فلذلك المرأة عرفت أنه قوي.
فلما سقى لهما، مشى ولم يلتفت إليهما، ولم يقل: أي خدمات، أنا موجود إذا أردتموني، سلموا لي على الوالد!! لا. لذلك عرفت المرأة أنه أمين.
فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ [القصص:24]، هذا في حر شديد، وقت قيلولة، فَقَالَ رَبِّ [القصص:24]، لاحظ لمن توجه؟ لم يطلب أجرة، ولا قال: أعطني خروفاً مقابل ما سقيت لكما، لا. جرّد القصد لله، لذلك ماذا قالت الآية بعد ذلك: فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ [القصص:25]، مباشرةً جاء الفرج، ليس بعد يوم أو يومين أو ثلاثة أو أربعة، لا. عندما يكون الرجل خائفاً؛ فإن الله عز وجل يؤمنه -كما تدين تدان- فَسَقَى لَهُمَا [القصص:24]... فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا [القصص:25]، الجزاء من جنس العمل.
فاحذر أن تستعجل! احذر أن تستعجل وتقول: هذا المجتمع كله مخالفات، وأنا لو التزمت وأجلست بناتي أو أجلست امرأتي في البيت وغير ذلك، فما الذي سأفعله أنا في هذا المجتمع كله؟! نقول: لا.
لا تحتقر نفسك ولا تحتقر جهدك؛ لأن الذي يبارك في الجهد القليل هو الله، وربنا سبحانه وتعالى قال: إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ [يونس:81].
اعلم أن كل هذا الذي يفعلونه سيكون كما قال الله عز وجل: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [الفرقان:23]، كل الذي يفعلونه، ها هو النقاب مثلاً الحرب ضده قائمة على قدم وساق، ما من صباح ينشق فجره إلا وترى النساء قد التزمن بالنقاب، هناك نساء تركن العمل حرصاً على النقاب، ولو قلنا لهن: اجلسن قبل أن يعتقدن ضرورة الالتزام بالحجاب لما جلسن، إن الله عز وجل هو الذي يبارك في هذه الصحوة، فأنت لا تحقر نفسك، واجعل لك دوراً؛ حتى تذهب إلى الله عز وجل وأنت مرفوع الرأس.
وهذا أحد الصحابة لما دخل على القتال قال: اللهم لقني عدواً شديداً حرده، -يعني: شديد الغيظ عليَّ- شديداً بأسه -شديد القوة عليَّ- فيقتلني ثم يبقر بطني، ويجدع أنفي، ويقطع أذني، فتسألني فيم يا عبد الله؟ فأقول فيك يا رب، هذا هو الجهاد، أنا لا أريده أن يقتلني فقط، أريده أن يمثل بجثتي. يفتح بطني، ويقطع منخري، ويقطع أُذُني، وتسألني لماذا يا عبد الله؟ فأقول: فيك يا رب.
وفي الحديث الصحيح لما تجلى الله عز وجل على الشهداء قال لهم: (تمنوا.. -ما الذي تتمنوا؟- يقولون: يا رب نرجع فنقاتل فنقتل فيك).
ربك عزيز جداً، عزيز.. لو فعلت ما فعلت، ما أعطيته حقه ولا عُشر حقه، لماذا أنت واقف هكذا؟ يقول لك: ارجع ولا تريد أن ترجع!! لماذا هكذا؟ لا يكن الجماد خيراً منك!! إن الله عز وجل قال للسماوات وللأرض: اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا [فصلت:11].. ائتيا هكذا أو هكذا، قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ [فصلت:11]، لماذا لا تعود وحدك، وترجع إلى ربك مختاراً، بدلاً من أن ترجع مكرهاً ولا جميل لك؟. فتكون راجعاً مكرهاً، فارجع مختاراً.
إذاً: الصحوة هذه لابد أن يكون لها قدوات، تقتدي الجماهير بها، وإذا كان أصحاب الالتزام لا يقومون بواجبهم حق القيام، فمن يقوم به؟.. فهل يقوم به أهل الدنيا الذين لم يحققوا الالتزام حتى الآن؟ لكن اصبر على الحق المر ولو كنت وحدك، فإن الصبر من اسمه مُر.
نحن نحتاج يا إخواننا! أن ننقل هذا إلى بيوتنا، ونعمل لله تبارك وتعالى، وربنا سبحانه وتعالى قال لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم: وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى [الأحزاب:34] أين؟. في المدرسة؟ في الجامعة؟. فِي بُيُوتِكُنَّ [الأحزاب:34]. فالمرأة إنما تتعلم في بيتها، هذا هو الأصل. إذا كانت هناك مدارس خاصة للبنات، ولا يوجد فيها رجال، فأدخِل البنت فيها ولا بأس، تتعلم العلوم الشرعية.. تتعلم أحكام الله عز وجل، ما الذي يمنع منها الله عز وجل؟ وما الذي لا يحل لها فعله؟، فالبيت هو الأساس.
إذاً: تتعلم القرآن، وتتعلم السنة، وتتعلم حق الزوج، أول ما تتزوج يرى زوجها المرأة التي إن أقسم عليها أبرته، وإن نظر إليها سرته، وإن غاب عنها حفظته في عرضها، وفي نفسها، وفي ماله.
إذاً المرأة هذه ستربي لنا شباباً صالحاً، ونرى أن البنية الاجتماعية ستتغير، لماذا؟ لوجود أم صالحة وأب صالح.
نسأل الله تبارك وتعالى أن يجعلنا عباداً له، هذا ما نرجوه من الله، أن نكون عباداً لله، وأن يأخذ بأيدينا ونواصينا إلى الخير.
اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين.
اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن.
اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا.
ربنا آت نفوسنا تقواها وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.
اللهم اغفر لنا هزلنا وجدنا، وخطأنا وعمدنا، وكل ذلك عندنا يا رب العالمين!
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر