وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
أما بعد.
فها نحن مع سورة الرحمن المكية المباركة الميمونة، ومع هذه الآيات، فهيا بنا لنصغي مستمعين تلاوتها، والله تعالى نسأل أن ينفعنا بما ندرس ونسمع.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ * وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلامِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [الرحمن:14-25].
الرحمن: ذو الرحمة التي شملت الكون كله، قسم الرحمة إلى مائة قسم, فادخر لأوليائه تسعة وتسعين, وأنزل رحمة واحدة, فالخليقة كلها تتراحم بها، ومن أراد أن يشاهد ذلك فلينظر إلى الدجاجة وهي تجمع أفراخها وتعلمهم كيف ينقرون الحب، فلينظر إلى الشاة كيف تدني ضرعها لوليدها، وأعظم من ذلك الدم الأحمر في صدر المرأة ينقلب إلى لبن أبيض، تلك هي رحمة الله عز وجل.
عَلَّمَهُ الْبَيَانَ [الرحمن:4], لولا الله عز وجل ما عرفت أن تنطق ولا نطقت ولا قلت: اسقني ماء ولا أعطني ثوباً ولا طعاماً، من علمك النطق والبيان؟ آباؤك وأمهاتك؟
فيا من ينكرون الرحمن ويجحدونه ولا يعرفونه! هذه السورة كلامه، كلها آياته الدالة على وجوده، الدالة على علمه، على قدرته، على حكمته، على رحمته, مقررة ألوهيته, فوالله! لا إله حق إلا هو، فذكر تعالى من آياته الدالة على وجوده وعلمه ورحمته وحكمته المقررة لألوهيته الكثير.
خَلَقَ الإِنسَانَ [الرحمن:14] من أين خلقه؟ من أي مادة خلقه؟ قال تعالى: مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ [الرحمن:14] من طين بقي أربعين يوماً فأصبح له صوت وصلصلة كالفخار, منه خلق الله آدم, كما قال تعالى: هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا [الإنسان:1], مضت أربعون يوماً أو أربعون سنة وهو جثة مصورة فقط، وإبليس يمر به ويعجب منه، فلما نفخ الله فيه من روحه قال: الحمد لله وقام.
خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ [الرحمن:14] والناس يعرفون الفخار والصلصال, وهو الطين إذا وضع على النار.
فهل هذا ينكر، هل هذا يكذب به؟ هل هذا يكفر به؟ هل هذا يجهله الجاهلون، هل هذا يرده الرادون والعياذ بالله تعالى؟
وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ [الرحمن:15] مرج من النار وارتفع والتهب ذلك المارج فخلق منه الجان.
وأخبرنا المصطفى صلى الله عليه وسلم بأن الملائكة خلقهم الله تعالى من النور، فالمخلوقات ثلاثة:
عالم الملائكة مخلوق من النور الذي تشاهدون.
عالم الجن من النار التي تعرفون.
عالم الإنس من طين من صلصال كالفخار.
وباقي المخلوقات من الماء، فالحيوانات كلها من الماء.
وهنا لطيفة علمية: روي وصح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ هذه السورة أو تقرأ عليه، وإذا به يسمع الجن يقولون: لا بشيء من آلائك ربنا نكذب. فقال: سبحان الله! الجن يقولون كذا وأنتم لا تقولون؟!
فلهذا يسن لكل من سمع هذا أن يقول: لا بشيء من نعم ربنا نكذب، فكلما تسمع قوله تعالى: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا, أي: بأي نعم آلاء ربكما تكذبان؛ فقل: آمنت بالله, لا بشيء من آلاء ربنا نكذب، لا نكذب بنعم الله.
فأية نعمة هي التي يكذب بها؟ أبنعمة وجودك أنت؟ من أوجدك؟ أم بنعمة سمعك، نعمة بصرك، نعمة أمك، نعمة أبيك، نعمة الهواء الذي تتنفسه، الماء الذي تشربه، الطعام الذي تأكله؟ قل لي: أية نعمة تجحدها؟ من أوجد هذه النعم؟ فكيف تكذبون بها يا عالم الجن والإنس؟ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [الرحمن:16]؟
لأن العام فيه اثنا عشر شهراً، والشهر فيه ثلاثون يوماً، اضربها واجمعها تجدها ثلاثمائة وستين يوماً، أيام السنة ثلاثمائة وستون يوماً بالضبط، ففي كل يوم تطلع الشمس من مكان ولا تطلع منه غداً بل من الذي بعده، وتغرب في مكان ولا تغرب اليوم الثاني فيه بل مما بعده، حتى تكتمل في ثلاثمائة وستين يوماً، فسبحان الله!
فالله تعالى خالق المشارق والمغارب، وذلك أن السنة ثلاثمائة وستون يوماً، والله! ما تطلع الشمس اليوم من مكان إلا وتطلع غداً مما بعده, والغروب كذلك, فهو تعالى رب المشارق والمغارب، من أوجد هذا؟ هل اللات والعزى، أو عيسى ومريم ، أو الأصنام والأوثان؟ من أوجد هذا، من خلق هذا؟ لا إله إلا الله.. لا إله إلا الله، الرحمن جل جلاله وعظم سلطانه خالق كل شيء وبيده ملكوت كل شيء, يعز أولياءه ويرفع درجاتهم ويذل أعداءه ويهينهم ويهبط بدرجاتهم إلى الحضيض الأسفل، هذا هو الله رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ [الرحمن:17], أي: مالكهما وخالقهما، فهل هناك من يقول: نحن نملك المشرق والمغرب؟
ولهذا فالكفار -والله- شر الخلق، شر من القردة والخنازير، الكافر بالله أقبح من الخنزير والقرد، كيف يكفر بربه؟ من أوجدك، من خلقك، من أعطاك، من وهبك، من خلق هذا الكون؟ وما تسأل عنه، ولا تتعرف عليه، ولا تقول: كيف نعبده ونطيعه أبداً، وتعيش ثمانين سنة كالبهيمة تأكل وتشرب وتنكح وتموت كالخنزير!
واقرءوا مصداق ذلك قول الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ [البينة:6] اليهود والنصارى وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ [البينة:6] أي: الخليقة، فمن شر الخلق؟ هل القردة والخنازير، أو الكلاب والذئاب؟ لا والله، هم الكفار المشركون.
هذا حكم الله؟ أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ [البينة:6], والبرية والبريئة بمعنى: الخليقة والمخلوقات، برأ: خلق، فنحن مبروءون مخلوقون.
فهل عرفتم من هم شر الخلق؟ إذاً: كيف تحبون اليهود والنصارى وتريدون أن تتزيوا بأزيائهم وتنطقوا بنطقهم، وتريدون أن تكونوا مثلهم وهم شر الخلق، كيف تحبونهم؟ كيف تثقون فيهم؟ كيف تعولون عليهم؟ كيف تعتمدون عليهم؟
فلهذا لا يوثق فيمن كفر بالله ولم يؤمن بلقائه أبداً، ولا يعول عليه في شيء أبداً؛ لأنه كالخنزير، وإن قال: كيف الخلاص من ذلك؟ قلنا: أسلم تسلم، قل: لا إله إلا الله محمد رسول الله، اشهد بهذا واعبد الله بما شرع لك تخرج من تلك الضلالة وذلك العمى وتصبح ولي الله تدعوه فيستجيب لك، تطلبه فيعطيك.
مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ [الرحمن:19-20], لا يختلط المالح بالحلو أبداً، وهما مع بعضهما، امش إلى النيل, فهل يصب في البحر الأحمر ويختلط به؟ لا يختلطان, الحلو يبقى حلواً، والمر يبقى مراً، من يقدر على هذا, أمهاتنا، آباؤنا؟ آيات مشاهدة بأعيننا نشاهدها, مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ [الرحمن:19-20] فاصل لا يَبْغِيَانِ [الرحمن:20] أبداً.
من فعل هذا؟ هل اللات التي يعبدونها أو العزى، أم عيسى الذي يعبده اليهود والنصارى, أم أمه ؟ فقولوا: لا إله إلا الله!
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [الرحمن:21] بأية نعمة؟ ما هناك نعمة نكذب بها أبداً، كلنا نعم الله، كل الكون نعم الله، كل الحياة نعم الله، فكيف ننكر هذه النعم وننكر واهبها ومعطيها ومنزلها والمتكرم بها؟ لا بشيء من آلاء ربنا نكذب، اللهم لا بشيء من نعمك نكذب أبداً، آمنا بالله وبنعمه، آمنا بالله ولقائه، آمنا بالله وكتابه ورسوله, إنا مؤمنون، وويل للكافرين، ويل للمشركين والعياذ بالله رب العالمين.
يخرج من البحر اللؤلؤ والمرجان، واللؤلؤ أكبر من المرجان، واللؤلؤ أبيض والمرجان أحمر، ويعرفه النساء والرجال، فمن يخلق اللؤلؤ والمرجان؟ كيف يتكون؟ يَخْرُجُ مِنْهُمَا [الرحمن:22]، وفي قراءة (يُخرج منهما) أي: الله, اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [الرحمن:22-23]؟ لا بشيء من آلائك ربنا نكذب أبداً، كل هذه إنعاماتك، إفضالاتك، إحسانك يا رب العالمين، لك الحمد ولك الشكر, لا نفتر نذكرك ونشكرك ما حيينا يا رب العالمين.
فمن أوجد هذه السفينة؟ والذين يصنعونها من خلقهم؟ الله، إذاً: الخلق لله, فهو خالق كل شيء.
ومن آياته الدالة على علمه، قدرته، ربوبيته، ألوهيته: أن خلق الجواري المنشآت المرتفعات، أو منشآت في أماكن تنشأ وتصنع فيها، والمنشأ كذلك: المرتفع, أي: مرتفعة.
وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنشَآتُ فِي الْبَحْرِ [الرحمن:24] في الماء كَالأَعْلامِ [الرحمن:24] كالجبال، وحين تقف على شاطئ البحر وتشاهد باخرة فكأنها جبل في البحر, كَالأَعْلامِ [الرحمن:24] جمع علم, وهو الجبل المرتفع العالي.
فمن خلق هذا؟ هل عيسى عليه السلام؟ لم تعبدونه؟ هل أمه مريم عليها السلام؟ لم تعبدونها؟ هل العزير عليه السلام؟ لم يعبدونه؟ هل اللات والعزى وسيدي عبد القادر الجيلاني ؟ هل فلان هو الذي خلق؟ فلم تعبدونه؟ لا يُعبد إلا الله، وأعظم أنواع العبادة: الخشوع والخضوع والانقياد والطاعة، ما أمر الله عبده المؤمن إلا فعل، ولا نهاه إلا ترك؛ لأنه مؤمن مطيع، والحب في الله والبغض في الله، وليس لنا من إله إلا الله، وهذه آياته الدالة على علمه ووجوده وقدرته وربوبيته، فهيا لنعيش على ذكره وطاعته.
وها نحن وقد مضت سنون ما كان يعرف الناس أبيضهم وأسودهم الطائرات تحمل ثلاثمائة وأربعمائة نسمة إلى ستمائة نسمة، من خلق هذا؟ الله هو الذي خلق صانعيها ووهبهم ذلك وعلمهم ودفعهم إليه، ويدلك على ذلك أنه مضت قرون وآلاف السنين وما كانت طائرة في السماء، وقد تأتي أمور أخرى ما تدري ما هي، فسبحان الله العظيم.. سبحان الله العظيم!
قال تعالى: وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلامِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا [الرحمن:24-25] أيها الإنس والجن تُكَذِّبَانِ [الرحمن:25]؟ فقولوا: لا بشيء من آلاء ربنا نكذب, ربنا لك الحمد، لا بشيء من آلائك ربنا نكذب, ربنا لك الحمد، لا بشيء من نعمك ربنا نكذب, ربنا لك الحمد. ولنعش على هذا مؤمنين صادقين.
[ هداية الآيات:
من هداية الآيات:
أولاً: بيان أصل خلق الإنسان والجان, فالأول من طين لازب ذي صلصال كالفخار، والثاني من مارج من نار، وأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن خلق الملائكة كان من نور ].
من هداية هذه الآيات أن علمنا مم خلق الله الإنس والجان والملائكة، خلق الإنس من صلصال كالفخار، وخلق الجان من مارج من نار، وخلق الله الملائكة -كما أخبر الحبيب صلى الله عليه وسلم- من النور، علمنا هذا بهداية هذه الآيات.
[ ثانياً: معرفة مطالع الشمس ومغاربها في الشتاء والصيف, وهما مطلعان ومغربان ].
عرفنا مطالع الشمس ومغاربها في الصيف والشتاء، وقلت لكم: لها ثلاثمائة وستون يوماً، كل يوم تخرج من مكان ما تعود إليه أبداً، وأنتم تشاهدون النهار يطول ويقصر والليل يطول ويقصر, بسبب ماذا؟ بسبب طلوع الشمس وغروبها، لا قصر ولا طول إلا بالشمس، من فعل هذا؟ الله، إذاً: الحمد لله.. الحمد لله.
[ ثالثاً: معرفة صناعة اللؤلؤ والمرجان, والسفن التي هي في البحر كالجبال علواً وظهوراً ].
من هداية الآيات: بيان كيف يكون اللؤلؤ والمرجان، أما علمتنا الآية هذا؟ كيف تكون السفن في البحر كالأعلام؟ كل هذا علمناه من هذه الآيات.
[ رابعاً: وجوب شكر الرحمن على إنعامه على الإنس والجان ].
هذا الذي يجب يا معشر الأبناء والإخوان والمستمعات, ألا ننسى أبداً شكر الله، فلنكن من الشاكرين، ما من نعمة إلا وتقول فيها: الحمد لله، حين تبصر بعينك قل: الحمد لله، وإن سمعت الخبر بأذنك فقل: الحمد لله، وإن تناولت الماء والطعام فقل: الحمد لله، وإن قمت فقل: الحمد لله، وإن جلست فقل: الحمد لله، وهكذا إذا انقلبت عن جنبك الأيمن فقل: الحمد لله، لا يفارقنا لفظ (الحمد لله) أبداً، وهكذا شكرنا لله بألسنتنا وبأعمالنا، وحمدنا له بألسنتنا, دائماً لا يفارقنا الحمد والشكر أبداً، وهذا شأن المؤمنين أولياء الله الربانيين, اللهم اجمعنا بهم واحشرنا في زمرتهم يا رب العالمين.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر