ذكر المؤلف رحمه الله تعالى من يعمه التكليف ومن لا يعمه فقال فيما سبق: [لا يعم التكليف من كآلة تحمل، أو عذر بسكر، وآكل بنج، ومغمى عليه، ونائم وناس ومخطئ، ومجنون وغير بالغ].
ثم قال المؤلف: [ ووجوب زكاة ونفقة وضمان من ربط الحكم بالسبب ] لما نفى المؤلف رحمه الله التكليف عن هؤلاء أجاب عن سؤال يقدره الذهن، وهو: أن الزكاة تجب على المجنون وغير البالغ والمغمى عليه والناسي والمخطئ، فكيف وجبت الزكاة مع أن التكليف مرتفع عنهم؟
والجواب: يقول: إن هذا من ربط الحكم بالسبب بقطع النظر عن الفاعل، أي: أن الزكاة سببها ملك النصاب، فمتى وجد ملك النصاب وجبت الزكاة على البالغ وغير البالغ، والمجنون والعاقل، فهي من ربط الحكم بالسبب، وهذا هو مذهب الأئمة الثلاثة: أحمد والشافعي ومالك .
وذهب أبو حنيفة إلى أن الصغير لا تجب الزكاة في ماله وقال: إن هذا ليس من باب ربط الحكم بالسبب، لكن الزكاة تكليف وعبادة، ولهذا تحتاج إلى نية، والصغير والمجنون ليسا من أهل العبادة، ولهذا لا تجب الزكاة عنده في مال الصبي والمجنون.
إذاً على مذهب أبي حنيفة هل يرد على ما سلف وجوب الزكاة في مالهما؟ لا يرد؛ لأن الزكاة عنده ليست بواجبة، فهم ليسوا من المكلفين، أما عند الأئمة الثلاثة فيمكن أن نقبل تعليل المؤلف وأن ذلك من باب ربط الحكم بالسبب.
ويمكن أن نقول: إن الزكاة وإن كانت عبادة لكنها ليست واجبة في الذمة، وإنما هي في المال؛ لقوله تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا [التوبة:103]، ولقول النبي عليه الصلاة والسلام لـمعاذ حين بعثه إلى اليمن: ( أعلمهم بأن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم )، فالزكاة واجبة في المال، ولهذا تجب حتى في مال الصبي والمجنون.
وهذا التعليل الذي أشرت إليه أولى من التعليل الذي ذهب إليه المؤلف من أن ذلك من باب ربط الحكم بالسبب، هذا بالنسبة للزكاة.
وإذا كان هناك مجنون له زوجة وجبت نفقة زوجته في ماله وإن كان غير مكلف.
وهذا لأن النفقة مربوطة بسبب وهو القرابة أو الزوجية أو الملك، فمتى وجد هذا السبب وجد المسبب.
ثانياً: أن النفقة حق لمخلوق، فلا تسقط بفوات الأهلية فيمن هي عليه؛ لأن القريب أو الزوجة تقول: أنا تجب لي النفقة في مال زوجي، فهو حق لمخلوق فيجب عليه القيام به.
نضرب المثل وإن كنا قد أشرنا إليه في طفل له أب فقير، والطفل غني، كما لو كان هذا الطفل له أم غنية قد طلقها أبوه، فماتت الأم وخلفت عشرين مليوناً، وليس يرثها إلا ابنها هذا الطفل، فصار غنياً وأبوه فقير لا يملك شيئاً لأنه قد طلق هذه الزوجة الغنية، إذاً نقول: يجب في مال هذا الطفل النفقة لأبيه؛ لأن سبب الإنفاق موجود وهو الأبوة، فينفق عليه من مال ولده.
كذلك إنسان مجنون له زوجة وله مال، يجب أن ننفق من ماله على زوجته وإن كان مجنوناً؛ لأن سبب الإنفاق الزوجية وهي موجودة.
إذاً نقول: كيف أوجبنا النفقة على الصبي وهو غير بالغ وعلى المجنون وهو غير عاقل؟
والجواب: هذا من باب ربط الحكم بالسبب بقطع النظر عن المحكوم عليه، هذا من جهة.
ومن جهة أخرى أن هذا حق لآدمي، فوجب القيام به بخلاف حق الله؛ لأن حق الله يراد به التعبد، ولهذا أبو حنيفة رحمه الله إنما أسقط الزكاة في مال الصبي والمجنون تغليباً لحق الله على حق المخلوق، فالزكاة للفقراء والمساكين ..إلخ، فمن هذه الجهة هي للمخلوق، ومن جهة أنها عبادة من أركان الإسلام الخمسة تكون حقاً لله، فلهذا كان أبو حنيفة رحمه الله يراعي أن الزكاة حق لله، فلا تجب على الصغير والمجنون، والجمهور يرون أنها تجب لأنها في المال، ولأنها حق لمخلوق فلا يسقط بتخلف الشرط عمن تجب عليه.
كذلك أيضاً الضمان.. لو أن صبياً أتى بكبريت وأوقد في السيارة واحترقت فإنه يضمن السيارة؛ لأن هذا من باب ربط الحكم بالسبب؛ ولأنه حق آدمي.
صبي آخر أتى إلى خباز وأخذ خبزة وأكلها فإنه يضمن؛ لأنها حق آدمي، وهذا أيضاً من باب ربط الحكم بالسبب، متى أتلف الإنسان على أحد شيئاً وجب عليه ضمانه، ولهذا يضمن الصبي ويضمن المجنون.
رجل نائم فانقلب على صبي ومات الصبي فإنه يضمن؛ لأن هذا حق آدمي، ولأنه من باب ربط الحكم بالسبب، وقد وجد، فالسبب قتل هذا الرجل للصبي وقد وجد، ولهذا قال المؤلف إجابة عن هذا الإشكال الذي يمكن أن يفرضه الذهن: [ ووجوب زكاة ونفقة وضمان من ربط الحكم بالسبب ].
ونحن ذكرنا بالنسبة للزكاة أنها لا تقرن بالضمان والنفقة؛ لأنها عبادة مكلف بها من قبل الله، فهي حق لله، ولكنا ذكرنا أن القول الراجح قول الجمهور أنها حق المال كما قال أبو بكر رضي الله عنه، ولأنها أيضاً يعود نفعها لآدمي.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر